لقد كانت صحافة زمان تتمتع بقيم ومبادئ.. فلكم أن تتخيلوا نصرا صحفيا يحمله أحمد زين ويرفض نشره إستجابة للروح التي ودعت الحياة

أسعدني أن يسألني واحد من أبنائي الصحفيين الشبان في أخبار اليوم عن ذكرياتي مع الكاتب الكبير المرحوم الأستاذ علي أمين بمناسبة مرور ٤٠ عاما علي رحيله، قلت لهذا الشاب أكيد أنك قرأت عنه ولم تلتق به.. ضحك قائلا.. جيلكم أسعد حظا من جيلنا لأنكم عاصرتم عمالقة الصحافة..
.. لم يخطيء الصحفي الشاب عمرو علاء الدين في مقولته حيث إختارني لسؤاله كواحد من الذين عايشوا عملاق الصحافة الراحل علي أمين، مع أنه من الشبان الواعدين الذين ينتظرهم مستقبل عظيم في الصحافة فهو من أوائل خريجي أكاديمية أخبار اليوم دفعة ٢٠١٠ قسم صحافة ويعمل صحفيا بالأخبار منذ خمس سنوات.. وبدأ عمله في قسم الحوادث.. معني الكلام أن بدايته كانت صح، لأن من لا يعمل في الحوادث لا يصلح رئيسا للتحرير في المستقبل، لذلك تري النابغين في الصحافة هم الذين يبدأون حياتهم الصحفية في أقسام الحوادث.. يعيشون أحداثا مؤلمة في أقسام الشرطة وفي النيابات العامة، ولذلك كان أستاذنا علي أمين رحمه الله يهتم بالحوادث ويري أنه من بين المتهمين أبرياء فكان يطالبنا بأن نفتش عنهم، نقدمهم للعدالة، ونتبني الدفاع عنهم، نأخذ من قصصهم عبرة ونجعل منهم نماذج للآخرين حتي نجنبهم الوقوع في شراك الجريمة.
- وأذكر واقعة قتل بطلها شاب من أسرة ثرية جدا، ولا أعرف كيف هانت عليه نفسه أن يذبح أمه التي عاشت معه كأم وصديقة.. مع أنه الابن الوحيد.. ولأنه من عائلة كبيرة جدا فقد كانت قضيته حديث المجتمع المصري وقد كانت مجتمعات زمان لا حديث لها إلا عن الحفلات والسهرات والنميمة في نادي الجزيرة وسهر الليالي.. لم تتوقف الحكايات عن الشاب « حسني مورو « الذي كان خجولا لا يدخن السيجارة حتي يتعاطي المخدرات، لكنه كان يشرب كثيرا.. المهم قدم الشاب نفسه للشرطة، ليكون صيدا سهلا لها حتي لا يكلفهم كثيرا في البحث..
- لقد اختار أستاذنا علي أمين الأستاذ أحمد زين وكان وقتها مساعد رئيس تحرير الأخبار ليحصل علي إذن من النائب العام ليزور الابن القاتل في السجن.. ونجح زين في الحصول علي الإذن وفي أول مقابلة مع الشاب القاتل استطاع زين أن يبني صداقة بينه وبين مورو علي اعتبار أن الاثنين خريجا الجامعة الأمريكية وأصبح مورو قريبا من زين لدرجة أنه رفض أن يتكلم في التحقيقات إلا بحضور صديقه الجديد.. وانفردت «الأخبار» بالإجابة عن اللغز.. ولماذا ذبح أمه رغم أنها كانت تغدق عليه بالمال.. المفاجأة أن الأم راودت ابنها الشاب عن نفسها حتي إرتكب الرذيلة معها وعندما وقف أمام المرآة احتقر نفسه وكيف يقدم علي عمل يخالف شرع الله فاتجه إلي المطبخ وأحضر سكينا وذبح أمه..
- علي أمين رحمه الله كلف فريقا من الأطباء النفسيين لمساعدة الشاب القاتل.. ومع ذلك صدر في حقه حكم بالإعدام، ويوم تنفيذ الحكم كان المطلب الوحيد له.. ألا يكتب صديقه أحمد زين مذكراته.. وقد حدث بالفعل إحتراما لرغبة هذا الضعيف..
.. لقد كانت صحافة زمان تتمتع بقيم ومبادئ.. فلكم أن تتخيلوا نصرا صحفيا يحمله أحمد زين ويرفض نشره إستجابة للروح التي ودعت الحياة.. فقد كان هذا المطلب قبل أن يلتف حبل عشماوي علي رقبة «مورو».. واستجابت «الأخبار»..
- لقد كان أستاذنا علي أمين رحمه الله إنسانا.. أذكر له موقفا بعد أن أمر الرئيس السادات رحمه الله بعودة علي أمين إلي موقعه بالمؤسسة.. كنت أقوم بتنظيم مسابقة الأم المثالية حتي يبقي عيد الأم عنوانا لأساتذتي مصطفي وعلي أمين.. وكنت أقدم قصة الأم أنيسة أبو الحسن التي كانت تحمل بناتها المشلولات في تاكسي إلي الجامعات، وإذا به يستدعيني ويقول لي لقد قرأت قصة هذه الأم العظيمة ولذلك قررت أن أهديها سيارة مجهزة لبناتها حتي لا يتعرضن لبهدلة التاكسيات.. هذا هو علي أمين الإنسان..
- أعترف أنني كنت أكثر حظا من زملاء كثيرين كانوا قريبين من الأستاذ علي أمين.. فقد إختلفت مرات مع رؤسائي بسبب الإنصراف والحضور هم يطالبونني بالتوقيع في الساعة يوميا وكنت أرفض علي اعتبار أنني صحفي ولست موظفا.. فكانوا يأخذون الأستاذين مصطفي وعلي أمين مثلا علي اعتبار أنهما يقومان بالتوقيع في الساعة فكنت أعلق قائلا إنهما أصحاب دار وأرفض التوقيع وكثيرا كنت أكتب إستقالتي.. وفي إحدي المرات استدعاني الأستاذ علي أمين قائلا «إن برنارد شو» أرخص منك.. فانتبه هذه آخر مرة اسمع أنك كتبت استقالتك وقام بالتأشير عليها قائلا «آسف لعدم قبول الإستقالة لأنني أري مستقبلك في أخبار اليوم».
- أنا شخصيا لا أنسي هذا الموقف، ولذلك كنت أحبه في مواقف كثيرة، يكفي أنه هو الذي حببني في القصة الإنسانية التي تفتقدها الصحافة النثرية الآن.. ووفاء مني لأستاذي خصصت جائزة للقصة الإنسانية من مالي الشخصي توزع كل عام لمن يكتب قصة إنسانية في الصحافة المصرية وكنت سعيدا في أن يكون الصحفي الكبير مجدي الجلاد هو أول الفائزين بهذه الجائزة..
- اذا كانت أربعون عاما قد مضت علي رحيل أستاذي علي أمين فذكراه محفورة علي صدر الأجيال التي عاصرته.. فكم أنا حزين علي هذا الجيل من الصحفيين الشبان أنه لا يعرف شيئا عن تاريخ العمالقة