إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


بالشمع الأحمر

ورفضنا أن نكون إسرائيليين!!

إيهاب الحضري

الأربعاء، 07 أكتوبر 2020 - 06:28 م

فى ذلك الزمان البعيد، كانت لمبات الجاز مصدر الضوء الوحيد فى معظم منازل القرية، فالكهرباء ضيف جديد اختار الإقامة فى بيوت القادرين فقط. أذكر حكايات أكثر قدما، عن جيل كان طلابه القلائل يطلبون اللجوء لأعمدة الإنارة بالشوارع، كى يذاكروا على أضوائها الأقوى سطوعا مما تنتجه لمبات الجاز بدرجاتها المتعددة.
كان بيت جدى من سعداء الحظ بالتيار الكهربائي، لكن مع سماع صوت طائرة تقترب، يتم إطفاء الأضواء فورا تنفيذا لتعليمات صارمة، تهدف لتفادى أية غارة مُحتملة من العدو، خاصة أن محافظة الشرقية قريبة من نقاط الاشتباك، ولا تزال تعانى من أوجاع قصف مدرسة بحر البقر الابتدائية. كنا نتابع أخبار القتال فى طفولتنا، على قدر ما يستطيع إدراكنا فهمه. بتأثير ما نراه على شاشات التليفزيون النادرة بالقرية، ابتكرنا لعبة تناسب إمكانياتنا المتواضعة، ننقسم لفريقين أحدهما مصرى والآخر إسرائيلي، وكان متقمصو شخصيات العدو يمارسون عنفا مبالغا فيه، فيرد عليهم المعسكر المضاد بضربات موجعة، عبر هجمات متبادلة نستخدم فيها أكوام التراب العالية كأرض للمعركة، نعود بعدها إلى بيوتنا مصابين عادة، ومتسخى الملابس من غبار الحرب غالبا، ودائما نلعب بحماس وكأننا نؤدى واجبا وطنيا يتجاوز حدود اللهو! هكذا تربى جيلنا على الوطنية منذ نعومة أظفاره، ورسّختها فى وجدانه ألعاب الطفولة.
كان ذلك اليوم مُختلفا، كطفل فى الخامسة من عمرى لم أدرك مصدر الاختلاف تحديدا، لكن يمكننى استشعار البهجة فى وجوه الكبار، مع صيحات التهليل وترديد عبارة «الله أكبر» بمعدلات أكثر من المعتاد، وحماس يتجاوز حدود إيقاعها المعهود فى الأحاديث العادية. بعد تناول الإفطار حملنا فوانيس رمضان بمعدنها الذى يلسع أصابعنا، عندما تزيد الشموع من حرارته، غير أن ظهور عربة إسعاف استوقفنا، كان المشهد غريبا بالنسبة لنا، خاصة مع امتداد صف طويل من شباب القرية أمامها. كانت المرة الأولى التى أسمع فيها عبارة «التبرع بالدم»، الحماس باد على وجوه الجميع، وهم يتبارون لتقديم دمائهم هدية لأبطال الجيش، الذين استعادوا للوطن كرامته.
شهدتْ الأيام التالية مشاعر متضاربة، سعادة بما يتحقق على أرض المعركة، وحزن فى أعقاب خبر استشهاد أحد أفراد بيت قريب. وقتها فقط سمعت كلمة «شهيد» للمرة الأولى. كنتُ أعرف الموت عن بعد، عبر دقات طبول تتصاعد كل فترة. لم تكن مكبرات الصوت قد انتشرت فى المساجد، فابتكرت القرية وسيلة إعلام فريدة. طبّال كهل يتوسط أحد ميادينها، ويبدأ الطرق على طبلته بإيقاع لا يزال يرتبط فى ذاكرتى بالفقد. نتدافع نحن الأطفال حيث يقف الرجل، ونعود إلى عائلاتنا باسم المتوفى، لكن أكتوبر علّمنا أن الموتى ليسوا متساوين، واكتشفنا معنى الشهادة، وبات كثيرون منا يحلمون بأن يفقدوا أرواحهم ذات يوم فداء للوطن. هنا فقط فقدت لعبتنا الأثيرة صلاحيتها، بعد أن رفضنا جميعا أن نتقمص دور الإسرائيليين، ورضينا بأن نكون لصوصا فى لعبة «عسكر وحرامية»!
أعتقد أن جيلنا هو الأخير الذى ارتبط بذكريات أكتوبر، فمن هم أصغر منا لم يلحقوا بحوائط طوب تتوارى خلفها مداخل عمارات المدن، ولا عاصروا الزجاج المطلى باللون الأزرق، كى يحجب الضوء عن طائرات الأعداء، وحُرموا من تفاصيل أخرى كثيرة تزرع فينا الحنين لزمن البطولات. من بينها أغنية «بسم الله.. الله أكبر»، التى لا تزال تثير فى قلبى الحماسة حتى الآن، وتُرسخ قناعاتى بأن الذئب لن ينسلخ عن طبيعته، حتى لو ارتدى ثوب الحمل الوديع!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة