لكن التناول الإعلامي غابت عنه أمور مهمة. أولها أن 70% من أعضاء البرلمان يمارسون العمل البرلماني لأول مرة
أحد مشاكل الصحافة منذ أن عرفتها البشرية وحتي الآن تتلخص في كلمة واحدة: التنميط. والنمطية تعني أن تتعامل الصحافة مع أمر من الأمور بعد أن يتم تنميطه في صورة ذهنية محددة يستريح العقل للاعتراف بها والتعامل معها. ويرفض أي تغيير يمكن إدخاله عليها. ويستمر الحال هكذا إلي أن تنبت القدرة علي مواجهة التنميط والخروج منه. وتلك مسألة ربما تحتاج سنوات.
التنميط الذي جري للبرلمان منذ جلسته الأولي قائم علي أفكار مسبقة تؤدي إلي الهجوم عليه بصورة مستمرة من غير إعمال العقل. لأن التعامل مع النمط يلغي العقل الإنساني. ويجعل الإنسان مستريحاً لأحكامه لأن النمط الثابت يؤدي إلي إحساسات ثابتة غير قابلة للتغيير.
لكي تصدق ما أقوله عليك العودة إلي العناوين والمانشيتات المنشورة عن البرلمان منذ بداية عمله قبل أكثر من شهرين وحتي الآن. تختلف الصحف وتوجهاتها ومشروعاتها الإعلامية. لكنها تتفق في أمر واحد. ألا وهو الهجوم علي كل ما يجري داخل البرلمان. لا أشير إلي أن بعض الإعلاميين ينقل عن الآخرين. وربما يكتب دون أن يتواجد في مكان الحدث الذي يكتب عنه.
وأنا أعترف أن من يغطون أعمال البرلمان من الصحفيين - ومعظمهم من الأجيال الشابة الطالعة - فيهم عناصر أكثر من جيدة. تتعب وتحاول تحري الحقيقة. وتتعامل مع فن التحقيق الصحفي باعتباره منهجاً من أجل الوصول للحقيقة. وتجريه علي كل حالة من الحالات بمعزل عن الحالات الأخري.
لكن التعميم عيبٌ عند التعامل مع أي مشكلة. فلا يمكن القول أن من يغطون أعمال البرلمان من الزملاء الصحفيين يجيدون عملهم. أو أن فيهم من يتكاسل ومن لا يتعامل مع دوره باعتباره رسالة من الرسالات التي تقوم عليه حياتنا الحديثة. فالصحافة - والإعلام عموماً - من سمات العصر الحديث. وهو يلعب الدور الأكبر في قضية التواصل الاجتماعي التي تميز المجتمعات الحديثة عن القديمة. وتحضر أي مجتمع أحد مقاييسه الإعلام.
لكن التناول الإعلامي غابت عنه أمور مهمة. أولها أن 70% من أعضاء البرلمان يمارسون العمل البرلماني لأول مرة. وهذا معناه أن الصواب والخطأ سمة من سمات العمل. وأن التجريب حق مشروع للجميع. وأنه لا يجب وضعهم كما لو كانوا في امتحان، يكرم فيه المرء أو يهان.
لست في حاجة للقول أن المانشيت الصحفي يُقرأ بنهم كلما كان يتجول في الشوارع الخلفية لحياة الناس. ويبحث عن الخطأ الإنساني. ويفتش عن النادر في سلوكيات الناس اليومية. فإن قالت الصحف أنه برلمان جيد. فمن الذي يمكن أن يقرأ هذا الكلام؟ وهل يستثير اهتمام من يتابعونه؟ أم أن اللهاث والجري وراء الغرائب والعجائب اليومية التي يمكن أن تكتشف الصحف حدوثها تحت قبة البرلمان. وتعتبر أن توصيلها للناس بعد تضخيمها والإضافة إليها من التوابل اليومية رسالة أكثر أهمية من تدقيق ما يكتب عنه.
أرجو ألا يفهم من كلامي أنني أحاول أن أقلل من حرية الإعلام. فإعلام بدون حرية يولد ميتاً ولا يؤثر فيمن يصل إليه. بل إن رسالته قد تُقابل بالرفض قبل التعامل معها. ولكن حتي ممارسة الحرية علي من يمارسها أن يفرق بين الثوابت والمتغيرات. والثوابت لا يجب الاقتراب منها لأنها ترتبط بدعائم حياتنا اليومية.
من المسئول إذن عن هذا الوضع؟ هل عدم وجود متحدث رسمي باسم البرلمان يلتقي بالإعلاميين يومياً ليحيطهم علماً بما جري في البرلمان؟ وهل يقبل الإعلاميون ذلك؟ وألا يعتبرونه حائلاً دون تواصلهم مع النواب بشكل مباشر؟ فهذا يمكن أن يوصلهم إلي ما يريدون توصيله للجماهير.
لن أقترب من حكاية ميثاق الشرف الصحفي أو الإعلامي. لدينا أكثر من ميثاق صحفي وميثاق إعلامي لا ينفذ منهما شئ. لكن لا بد من العثور علي الخيط الأبيض ونميزه عن الخيط الأسود حتي نتوصل لقاعدة تحكم العلاقة بين الإعلاميين والبرلمان.
عرفت أن نقيب الصحفيين يحيي قلاش رتب لقاء بين رئيس البرلمان، الدكتور علي عبد العال، ومجلس النقابة، وبعض رؤساء تحرير الصحف المصرية لبحث هذه المشكلة. حضرته بصفتين باعتباري صحفياً ثم برلمانياً قد أعرض لما جاء فيه مستقبلاً. ومع اعترافي أن الصحافة جزء من الإعلام يمثل الكلمة المكتوبة. وتبقي الكلمة المسموعة والكلمة المرئية. لكن المهم أن نعثر علي بداية الطريق.
كلما مررت علي قاعة الصحفيين الكبري في البرلمان. ورأيتهم يمارسون عملهم وفق أنظمة حديثة حتي تحسرت علي شبابي عندما لم نكن نملك سوي الأوراق والأقلام. رأيت الآلات تعمل أكثر من الجهد البشري. أقول: ويخلق ما لا تعلمون. وكلما رأيت أعدادهم المهولة حتي أقول لنفسي: عمار يا برلمان.