محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

من يوميات رقيب مجند

محمد السيد

الأحد، 11 أكتوبر 2020 - 07:00 م

محمد السيد عيد

لم يكن هذا العرض المسرحى بالنسبة لى مجرد عرض، بل كان انتصاراً للحياة على ظروف قاسية لاتحتمل.

عادة يكتب القادة الكبار عن دورهم فى الحرب، ويحكون كيف خططوا وأداروا المعارك، لكنى أريد أن أكسر القاعدة وأقدم شهادة رقيب مجند مؤهلات خلال هذه الحرب، وأرصد شيئاً من المعاناة التى عاشها الجنود المصريون ليصلوا للنصر.
 نقطة البداية
بدأت حرب أكتوبر 73 فى يونيو 67، حين وقعت النكسة. كنت طالباً بالسنة الثانية فى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية. فى صباح هذا اليوم كنت فى محطة مصر، أثناء سيرى سمعت الناس تصرخ فرحاً. صيحات الله أكبر تهز الدنيا. رأيت الناس يتجمعون أمام محل وضع صاحبه جهاز الراديو فى الشارع ليسمع الناس الأخبار. سألت واحداً من الواقفين: فيه إيه؟ قال: الحرب قامت وأسقطنا تسعين طياره. فرحت. كانت لهجة الراديو حماسية، وتوالت الأغنيات الوطنية. رأيت أحد المواطنين يكتب على الحائط: رحلة للجيش المصرى إلى تل أبيب. أحسست بالفخر. بعد هذا تبيننا أن ماقيل عن النصر كان غير صحيح، وأننا هزمنا. واعتصرنا الألم. ولم نستطع أن نستوعب الصدمة ببساطة. هل يمكن أن تهزمنا إسرائيل؟ وفى عز الإحساس بالهزيمة قال عبد الناصر: ما أخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة. وبدأ الاستعداد للحرب.
عشت الحرب
تخرجت بعد النكسة بعامين. فور تخرجى جاءنى استدعاء لتسليم نفسى لمكتب التجنيد بالقسم الذى أتبعه. سلمت نفسي. أعطونى خطاباً للذهاب به إلى منطقة التجنيد. بعد الفحوص الطبية تم توزيعى على سلاح المشاة. وذهبت إلى مركز تدريب المشاة بالمعادى.
كانت حرب الاستنزاف على أشدها، وكما كنا نوجه الصفعات لإسرائيل كانت هى الأخرى توجه لنا الصفعات، فلديها ميزة نسبية، إذ تستطيع مهاجمتنا بالطيران المنخفض الذى لانملك رادارات لاكتشافه، فيتوغل هذا الطيران فى أرضنا، ويضربنا فى العمق، ليحطم معنوياتنا. بعد أيام قلائل فى مركز التدريب قامت إسرائيل بتصوير الموقع. جاءت تعليمات بإخلاء الموقع فوراً. ربما لايتصور أحد الجهد المطلوب لإخلاء مراكز التدريب الموجودة فى منطقة المعادى كلها خلال أربع وعشرين ساعة، لكن لاشيء مستحيل فى القوات المسلحة. تم نقل عشرات الآلاف من الجنود، وأطنان من المعدات، والخيام، والأسلحة، والذخائر فى الوقت المحدد. ذهبنا لمكان جديد بجوار الأهرامات. كنا لانكمل طابوراً دون أن تدوى صفارات الإنذار، فنترك الطابور ونجرى لنختبيء فى الحفر البرميلية التى حفرناها فى الموقع الجديد. المشكلة أن الموقع الجديد لم يكن به دورات مياه ولا تجهيزات من أى نوع. تحملنا كما يليق بالرجال. إنتهى التدريب. وزعوا الجميع على وحدات مقاتلة على الجبهة لكنهم لم يقوموا بتوزيعى أنا ومجموعة صغيرة جداً من زملائي. سألنا فقالوا لنا: أنتم فقره "ب"، لياقتكم الصحية أقل. لن توزعوا على وحدات مقاتلة. ستكون لكم أعمال أخرى.
توجيه معنوى
فى عام 69 قررت القيادة أن يكون هناك تخصص فى القوات المسلحة إسمه "رجل التوجيه المعنوى"، لك يكن واضحاً فى البداية هل سيكون هذا الرجل مثل الوعاظ بدون رتبة، أم سيكون ضابطاً، أم من ضباط الصف. المهم أنهم عقدوا فرقة لتدريب رجال التوجيه المعنوى، وخطط لهذه الفرقة الخبراء المصريون والروس. وسميت الفرقة الخاصة رقم (1). كان لابد لسلاح الوقود من إرسال مجموعة من المؤهلات العليا لهذه الفرقة، لم تكن لديه التخصصات المطلوبة، فأخذ من جنود المشاة أصحاب الفقرة "ب"، التخصصات التى يريدها، وكنت واحداً ممن وقع عليهم الاختيار.
كان المعلم الأول لهذه الفرقة هو الفريق فوزى، وزير الحربية نفسه، وأحضروا لنا شعراوى جمعة، وضياء الدين داوود، وغيرهما من كبار المسؤولين فى الدولة ليحاضرونا ويحاورونا. بعد أشهر من التدريب قرروا تحويل جنود هذه الفرقة إلى ضباط، وكان هؤلاء أول مجموعة فى الجيش المصرى تتخصص فى التوجيه المعنوى. ووقفت فقرة "ب" عائقاً فى طريق تحولى لضابط توجيه معنوى. وأخيراً أعطوا كل أصحاب فقرة "ب" درجة رقيب مؤهلات، ووزعونا على الوحدات للتدريب العملي.
 صحراء قنا
كانت هناك فرقة كاملة تعسكر فى صحراء قنا، هذه الفرقة ضربها العدو بالطيران، فأرسلونا إليها فى مأمورية لمدة شهر (شهر أغسطس) لنرفع معنويات الأفراد. لاأحد يتخيل صحراء قنا فى أغسطس. صحراء قنا فى هذا الوقت كانت مرتعاً للذئاب، والحيات، والطريشة، أما العقارب فهى بلا حساب. فى اليوم الأول لنا هناك كنا نجلس فى خيمة مع زملاء قدامي، فجأة قال أحدهم لواحد منا: اثبت مكانك. لاتتحرك. وأمسك بسجل ضخم، بهدوء شديد، وضرب فوق حبل الخيمة، لكى نرى أنه ضرب عقرباً كان فى طريقه للزميل.
فى الليلة الأولى كنت فى شدة التعب من السفر الطويل، لكنى رغم هذا لم أستطع النوم، لأن صوت الذئاب فى الخارج كان لايتوقف. أعترف أنى كنت خائفاً. بعد مقاومة طويلة للنوم لم أشعر بنفسي. إستسلمت للنوم رغم النوم، فالنوم سلطان.
 كانت الحياة فى صحراء قنا تتوقف الساعة الحادية عشرة ظهراً، لأن الحرارة لاتحتمل، ويسمون الفترة من الحادية عشرة للخامسة بعد العصر "فترة سكون". الحياة فى هذا المكان شديدة القسوة. فكرت فى شيء نتغلب به على قسوة الحياة. قررت أن أنشيء فرقة مسرحية لتقديم مسرحيات ترفيهية للجنود. عرضت الفكرة على ملازم أول معنا. قال لى إنه كاتب مسرحى ولديه مسرحية يمكن تقديمها. أخذت المسرحية. أعدت كتابتها، وبدأنا نجمع الممثلين. جاءنى شباب لاعلاقة لهم بالمسرح. بعضهم كانوا لايعرفون القراءة والكتابة. لم أتوقف. حفظت الجنود الذين لايقرأون ولا يكتبون أدوارهم شفاهة، وأخرجت المسرحية، ووضعت فيها كل الأشياء التى يمكن أن تضحك الجنود.
سمع قائد الفرقة بما نفعل، فأرسل فى استدعائى أنا والضابط المؤلف. سألنا عما نفعل. شرحنا له الفكرة، أعجبته. سألنى باعتبارى المخرج: ماذا تطلب؟ قلت خشبة مسرح، أمام تبة يمكن أن يجلس عليها الجنود، وإضاءة للخشبة. رفع السماعة وطلب ضابط الشؤون الإدارية، جاء الضابط.عرفت أنه لاعب الكرة الشهير يحى إمام. كلفه قائد الفرقة بتنفيذ مانطلب، فكان لدينا مسرح وإضاءة فى قلب الصحراء. قبل العرض بيوم واحد جاءنى جندى ليخبرنى بأنه خريج معهد الفنون المسرحية، ومستعد للتعاون معي. كلفته بالإدارة المسرحية، واعتبرته هدية من السماء. يوم العرض حضر بعض القادة، وجنود بلا عدد. قدمنا العرض وضحك الجنود من قلوبهم، وكنوا يصيحون: أعد.. أعد.
لم يكن هذا العرض المسرحى بالنسبة لى مجرد عرض، بل كان انتصاراً للحياة على ظروف قاسية لاتحتمل.
فى مواجة الطيران الإسرائيلي
المأمورية التالية كانت فى فوج دفاع جوى. الدفاع الجوى خلال حرب الاستنزاف كان سلاح الموت. الجنود يواجهون الطائرات الفانتوم، التى تضرب بقنابل النابالم زنة ألف رطل وغيرها بمدافع مضادة للطائرات، شديدة التواضع، لكن هؤلاء الجنود الجبابرة كانوا يواجهون الطائرات المعادية بشجاعة خارقة، ويسقطون منها الكثير. ويروون لنا ببساطة قصصاً لاتنتهى عن زملائهم الذين واجهوا طائرات إسرائيل واستشهدوا بطرق شديدة القسوة.
ذهبت وعدد من زملائى إلى الفوج. كانت المشكلة أين سنبيت، فالمكان لايسمح بعدد إضافي. أخيراً أعطونا أماكن الجنود الذين نزلوا أجازات. دخلت الملجأ ليلاً فوجدت به مانسميه فى الريف "كراويته"، أى حائط محازٍ لحائط الملجأ، يرتفع عن الأرض حوالى ثمانين سنتيمتراً، ويبعد عن الحائط الأصلى ثمانين سنتيمتراً، والمساحة بينه الحائطين مغطاة بالخشب، وقلبها فارغ. ماإن تمددت على اللوح الخشبى حتى تبينت أن قلب الكراويته ليس فارغاً كما كنت أظن، بل يمتليء بالفئران، وأن المعارك بين الفئران لاتتوقف طوال الليل، وصوتها يملأ المكان. لاأحد يتصور كيف تشارك الفئران الجنود فى ملاجئهم الصحراوية، وقد كتب صديقى رجب سعد السيد قصة من أجمل قصصه القصيرة يصور فيها العلاقة بين الجندى والفئران، ونشرها فى مجموعته "الأشرعة الرمادية". كنت خائفاً من الفئران، لكن التعب جعل النوم يغلبني. غاية مافعلته أنى لففت نفسى بالبطانية لفاً محكماً، كأنها كفن ميت، ولم أترك سوى فتحة تسمح لى بالتنفس.
أثناء النوم كنت أشعر بالفئران تجرى فوقي. من شدة التعب كنت أكتفى بأن أدفعها بيدى من تحت البطانية وأواصل نومي. فى الصباح أحسست بشيء دافيء تحتي. تبينت أنه فأر نمت عليه. فى الليلة التالية قررت أن أنام فى العراء.
إستمرت الفرقة التدريبية تسعة شهور كاملة. عدت لوحدتى بإدارة الوقود. كان عملى يغطى جمهورية مصر بأكملها. أما طريق السويس فكنت أسير عليه أكثر مما أسير إلى بيتي. الوحدات بعضها كان فى أماكن لاتطاق. أسماؤها تدل عليها: الجفرة، الربيكي.. وهكذا.
لا أنسى زيارتى مع بعض الضباط لمنطقة المثلث بالسويس، على شاطيء القناة. كنا نرى العدو بالعين المجردة، وفى محاولة لتحطيم معنوياتنا خصص الإسرائيليون لهذا الموقع جنوداً يجيدون اللغة العربية، ليوجهوا لنا أقذر الشتائم. وكان جنودنا يردون عليهم الشتائم، وينتظرون اليوم الذى يعبرون فيه لكى يأخذوا ثأرهم من هؤلاء الذين يسبون أعراضهم.
 رائحة الحرب
أستأجرت غرفة فى ميدان الجيش، فالإدارات ليست مثل الوحدات الميدانية. كان صديقى رجب سعد السيد، المجند فى الحرب الكيماوية، يزورنى من حين لآخر، ويبيت معي. فى زيارته الأخيرة قال لي: إنه يشم رائحة الحرب، وإن المناورات التى يجريها الجيش هذه المرة ربما تتحول لحرب حقيقية، وبالفعل نشبت الحرب.
قبيل الحرب تم استدعاء الاحتياطي. صارت وحدتنا مكتظة بالجنود. بعد أيام تم تسريح الاحتياطي، أما نحن المجندين بالإدارات المركزية فقد سمحوا لنا بأجازات كجزء من خطة الخداع الاستراتيجي. كنت من المجموعة التى حصلت على أجازة. فى يوم 6 أكتوبر كنت أقضى بعض المصالح بباب اللوق. أثناء ركوب التروللى سمعنا الناس فى الشارع تهلل. نظر راكب من النافذة وسأل: فيه إيه؟ قالوا: الحرب قامت. عدت إلى بيتي. إرتديت ملابسى العسكرية وتوجهت لوحدتي. قدمت طلباً للذهاب إلى جبهة القتال. قال لى أركان حرب الإدارة: لو ذهب العاملون بالإدارات المركزية للجبهة فمن سيبقى هنا لآداء الأعمال، ورفض النقل. بعد أيام معدودات، وقبل حدوث الثغرة، جاءتنى الفرصة لزيارة الجبهة، لتوصيل ترفيه للجنود. لم أصدق عيني. كانت الجبهة يعمها الهدوء كأنه لم تكن هناك حرب، فقد أفقدت المفاجأة إسرائيل القدرة على التحرك لفترة، ياإلهي. إن ماحدث معجزة حقيقية. معجزة صنعها الإنسان المصرى.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة