إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

لقمة العيش.. و«كسرة» القلب!

إيهاب الحضري

الخميس، 15 أكتوبر 2020 - 07:16 م

أخبرتْنى أن الحلقة التى تمتد نصف ساعة ستكون مقابل 2000 جنيه، أدفعه أنا بدلا من أن أتقاضاه! وسعيا لإغرائى قدمتْ عرضا أقل سعرا.

سائقة تاكسى
الثلاثاء:
الوقت يقترب من منتصف الليل. غادرتُ حفل زفاف كنتُ مدعوا له، جعلتنى الشوارع شبه الخاوية أشعر بالندم، لأننى تخلّيتُ عن سيارتى تجنبا لمشقة القيادة، وتوفيرا لوقت مستقطع فى البحث عن مكان آمن تستكين فيه عجلاتها، بعيدا عن تهديد مخالفات مُحتملة. من بعيد لاح" تاكسي" فرفعتُ يدي. اقتربتْ السيارة وتوقفتْ أمامي، مددتُ رأسى لأخبر السائق بوجهتي. ارتددتُ فجأة للخلف عندما اكتشفتُ أن من تقودها امرأة، لم يطُل ترددى هذه المرة. فتحتُ الباب الأمامى وجلستُ بجوارها فانطلقتْ. كنتُ قد اكتسبتُ خبرة من تجربة سابقة، أصابنى فيها الارتباك بموقف مشابه. لم أدر وقتها أين ينبغى على الجلوس، استغرق الأمر ثوانى ممتدة قررتُ خلالها فتح الباب الخلفي، باعتباره الحل الأمثل للسائقة وليس لي، لكنها طلبتْ منى الجلوس فى المقعد الأمامي، واستجبتُ تلقائيا تحت تأثير حالة من الارتباك. كثيرا ما يجعلنا موقف بسيط فى موقف لا نُحسد عليه، لمجرد أنه خارج على المألوف. فى المرّة الأولى انهالتْ أسئلتى الفضولية، وأجابت عليها المرأة بخبرة من اعتادت هذه النوعية من الاستفسارات، ثم انشغلتْ بمكالمة تتفق فيها مع أحد المطاعم على توصيل وجبة عشاء لوالدتها الوحيدة فى المنزل، تلتها اتصالات عديدة مع أقارب أو جيران، لتدبير خطة وصول آمن للوجبة.
فى المرة الأخيرة لم أطرح أية أسئلة، كانت السائقة تقود باحترافية. تعرف طريقها دون وصف، رغم أننى شخصيا أصبحتُ أتوه فى شوارع مصر الجديدة التى كنتُ أحفظها، اطمأننتُ أننى بين أيد أمينة، وشردتُ فى مقارنة بين السيدتين، كلتاهما فى منتصف الأربعينات. علمتُ هذا من نظرة أولى لم تتكرر فى المرتين، صاحبتْ اللحظة الفاصلة بين إخبار كل منهما بوجهتى ثم الركوب. لستُ فى حاجة إلى جهد، كى أستنتج أن من تختار العمل بهذه المهنة ينبغى أن تتجاوز سنا مُحددة. لو كانت أصغر عمرا قد تفقد القدرة على إيقاف بعض المتجاوزين عند حدودهم. هل هى الحاجة التى فرضت على المرأة العمل فى مهنة نعتبرها غريبة.. أم أنها مجرد رغبة فى المغامرة؟ سؤال ظل ينتابنى كلما واجهتُ واحدة من بنات حواء، تعمل فى حرفة مُصنفة على أنها" رجالي"، لكن العامل المشترك بينهن هو القدرة على تحدى نظرة المجتمع، وتحقيق مكاسب أكبر لإقبال الرجال بدافع الفضول فقط، أو هكذا أفترض بحُسن نية معروف عني. طوال الرحلة ظلتْ السائقة صامتة. نقطة إيجابية لا يُستهان بها، مقارنة برغبة مزمنة فى الثرثرة، تُسيطر على أبناء المهنة من الرجال، وتصيبنى عادة بضيق أواجهه بإجراء اتصالات غير مُهمة. أفقتُ على صوتها وهى تتكلم فى هاتفها:" أيوه يا أمي.. نص ساعة وأكون عندك بالأكل".
المال السياسى
الأحد:
جلستُ أتابع الجالسين على المنصة. تضم ثلاثة أطياف متباينة الاتجاهات وتاريخ النشأة، لكن اتفاقا نجح فى جمعها مع غيرها ضمن تحالف واحد، لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة. أعترف أننى كنتُ قد أعددتُ نفسى لحوار يلقى بى فى دائرة الملل، وأنا أتجه إلى قاعة أحمد رجب بالمبنى التاريخى لمؤسستنا العريقة، لحضور ندوة نظمتها" الأخبار" لمناقشة القائمة الوطنية، لكنى استمتعتُ على غير العادة بحوار امتد ثلاث ساعات. استحضرتُ فى ذهنى منذ البداية كل ما قرأته من اتهامات، تنصب معظمها على حزب مستقبل وطن، الذى اعتبر البعض أنه أصبح وريث الحزب الوطني، فضلا عن عدد من الاتهامات الأخرى تدور حول المال السياسي، الذى يتم استخدامه فى توجيه إرادة الناخبين. بدأ الكاتب الصحفى خالد ميرى رئيس تحرير الأخبار الندوة بانطلاقة ساخنة، ولم يعمد إلى اللف والدوران، بل واجه ممثلى الحزب بالاتهامات، وتتابعت تعقيبات كبار كتاب الجريدة، لتحمل عددا لا بأس به من التحفظات، وهو ما رد عليه اثنان من قيادات الحزب باستفاضة، ودعمهما ممثلا حزبين معارضين حضرا الندوة.
لا أرغب بالتأكيد فى إعادة استعراض تفاصيل الندوة، فقد نشرتها الأخبار بالتفصيل، لكنى أود التركيز على مصطلح المال السياسي، الذى يستوقفنى منذ سنوات طويلة. استخدمتْه تيارات سياسية متعارضة لاستقطاب الأصوات عبر عقود، وانتقدته تيارات مناوئة كثيرا، رغم أننى أعتقد أنها لو امتلكت الإمكانيات لما تباطأت فى استغلاله. شخصيا أعتقد أن ذلك أمر كارثي، وأرى أنه تسبب فى مأساة كبرى انتهت بوصول الجماعة الإرهابية للحكم. والمشكلة أن ثقافة المنفعة لدى قطاع كبير من المواطنين، تساهم فى ترسيخ الخطأ تحت وطأة الحاجة، فقد اعتادوا أن تختفى وعود نواب الشعب بمجرد وصولهم إلى البرلمان، لهذا صار مبدأ الكسب السريع أكثر حضورا، تفعيلا لشعار:" عصفور فى اليد خير من عشرة على الشجرة"، والعصفور فى هذه الحالة متعدد الأنواع، سواء كان مبلغا ماليا أو" كرتونة" زيت وسكر!
شخصيا سعدتُ بسيطرة المنطق على الحوار، فقد قام قياديا الحزب المهندس حسام الخولى والنائب أحمد السجينى بالرد على الانتقادات بمنطق لم نعتده فى حياتنا السياسية، حيث كان الحزب المُسيطر يفعل ما يبدو له دون حاجة إلى التبرير. بالتأكيد سوف يقتنع بعض من يقرأ توضيحاتهما فى عدد الثلاثاء الماضي، بينما يتحفظ آخرون، غير أننى أرى أن تغليب المنطق فى السجالات السياسية أمر مهم، لأنه يساعد على تلافى السلبيات تدريجيا، كما يُكرّس قيمة الاختلاف المعتمد على أرضية صلبة، والأهم أنه يساهم فى تحسين البيئة الشعبية، وتنقيتها من سيطرة المنفعة المؤقتة، التى أفسدت حياتنا السياسية على مدار عشرات السنين الماضية.
هشام زكريا
الاثنين:
أقطع شارع الصحافة مساء. زحام غير معتاد فى هذا الوقت من اليوم. بعد خطوات أجد نفسى داخل سرادق العزاء، أتصفح وجوها لم أرها منذ شهور رغم وجودنا فى حيز مكانى واحد. يعلو صوت المقرئ ويتزايد عدد الوافدين، علمتُ ممن سبقونى أن المئات جاءوا ومضوا، ليودعوا الصديق العزيز هشام زكريا مدير تحرير" الأخبار المسائي". كان الرحيل مفاجئا لدرجة الفجيعة، فلم يُكمل هشام الخمسين ولا كان طريح الفراش. بل وصل إلى عمله فى موعده وأجرى مكالمة كانت الأخيرة.
قبلها بيوم، كنتُ أجلس مع الصديق أحمد عباس عندما جاءنا الخبر. استكملتُ حوارى فى سياقه كأنى لم أسمع شيئا. صدمة البداية جمّدت قدرتى على الاستيعاب مؤقتا، وفجأة قطعتُ الحديث ومضيتُ بعيدا. ذهب هشام كنسمة صيف، تُرطّب حياتنا ثم ترحل لتمنحنا شعورا لا نهائى بالفقد. شاب آخر فقد عمره تحت وطأة الركض المتواصل نحو لُقمة عيش تحولت مع الوقت لمجرد كسرة، يتحمل بعضنا الوجع، بينما تُصاب قلوب آخرين بالسكتة المباغتة. دخل الراحل مكتبه كالعادة وهو يستعد ليوم حافل، غير أنه رحل إلى الأبدية. هل شعر بألم مباغت لم يحتمله؟ أم كان يبتسم كعادته عندما حلت نهايته هادئة مثله؟ لم أحاول أن أعرف فالنتيجة واحدة.
عرفتُه قبل سنوات عندما عمل معنا في" أخبار النجوم"، بجوار عمله فى جريدة" المسائية" التى تحولتْ بعد ذلك إلى" الأخبار المسائي". صحفى خبير فى مجاله وكاتب بارع، وفوق ذلك يتحلى بأخلاق كادت تنقرض فى هذا الزمان الصعب. سبقنى فى مغادرة المجلة، وظللنا نتقابل على فترات متباعدة، بحكم جيرتنا فى مؤسسة أخبار اليوم، نتبادل ابتسامات فى لقاء عابر، مع اتفاق على مقابلة قريبة لا تتم أبدا. شعرتُ بالندم أن لقاءاتنا لم تتم، حتى لو كان اكتمالها سيزيد وجع الفقد.
مذيعة على «فيس بوك»
الأربعاء:
" صباح الخير.. مع حضرتك مسئولة العلاقات العامة لدى اتحاد....". لا يهم اسم الاتحاد الذى لا يتناسب مع ميولى من الأساس. المهم أن المسئولة بعثتْ رسالة عبر" فيس بوك"، تدعونى للاشتراك فى مؤتمر ينعقد فى ديسمبر القادم. محور المؤتمر ليس فى دائرة اهتماماتي، كما أن الجهة المُنظمة مجهولة، لا مبرر إذن لاستقطاع وقت بدل ضائع فى المشاركة. رغم ذلك استعنتُ بمجاملات تقليدية تساعدنى على التخلص من مثل هذه المواقف، ويبدو أن المُتحدثة الغامضة رأت فى ذلك" شُبهة" موافقة ضمنية! فأرسلتْ لى تفاصيل أكثر عن المؤتمر. عبارات البداية تبعث على البهجة، لأنها تعد المشارك بأجواء يحتاجها الكثيرون منا بقوة:" اغتنام لحظات من الهدوء النفسى والاحتفال بانتصاراتك وإنجازاتك الشخصية والعملية"، ولأننى فى أمس الحاجة إلى سلام نفسي، أكملتُ قراءة التفاصيل التى انتهت بشروط الاشتراك: صورة من السيرة الذاتية، صورة من بطاقة الهوية، و.... سداد الرسوم. أصابنى المقطع الأخير بصدمة أطاحت بنشوتى المؤقتة، بعد أن اعتقدتُ أن المنظمين متابعون لمسيرتى المليئة بالعطاء! وسعدتُ بأن جهة ما اقتنعت أخيرا بأهمية تكريمي.. ولو على مستوى الحضور فقط! أخبرتُ محدثتى أنه يُفترض أن يعرف صاحب الدعوة قدر من يدعوه، لهذا يُصبح طلب السيرة الذاتية أمرا غريبا، وأخيرا تجرأتُ أكثر، وسألتُ عن المقصود بالرسوم. أخبرتنى بأنها مقابل منحى فرصة الاشتراك فى المؤتمر. لم أعلق بالطبع، ولم تُفكر هى فى الإلحاح بعد أن استنتجت بخبرتها أنني" زبون" ميئوس منه. وربما تكون قد قامت بحظرى عند كتابة هذه السطور!
قبلها بشهور كان" فيس بوك" قد أتحفنى برسالة أخرى، قدمتْ صاحبتها نفسها على أنها مذيعة بإحدى الفضائيات. اسم القناة غير معروف لى نهائيا، لهذا بدأت تحضير حجج سابقة التجهيز، للاعتذار عن دعوة مُتوقعة للاشتراك فى برنامجها. يجب أن يكون الاعتذار رقيقا كى لا أجرح شعور المذيعة، التى تقوم أيضا بدور المُعد، فغالبا تقدمت بطلب إضافة بعد أن انبهرت بكتاباتي، وينبغى على الكبار من أمثالى أن يكونوا أكثر رفقا بـ" قوارير" المعجبات! فجأة باغتتنى الإعلامية بما حطم غرورى المُتنامي، فقد أخبرتْنى أن الحلقة التى تمتد نصف ساعة ستكون مقابل 2000 جنيه، أدفعه أنا بدلا من أن أتقاضاه! وسعيا لإغرائى قدمتْ عرضا أقل سعرا، فيمكنها استضافتى مقابل 1200 جنيه فقط، لكن عبر فضائية أخرى مغمورة أكثر!
فكرتُ فى رد سمج، لكن صورتها التى توحى بأنها تتحلى باحترام حقيقى جعلتنى أتراجع، اكتفيتُ بالصمت، وأقنعتُ نفسى بأن" أكل العيش مر"، وقررتُ ألا أكسر قلبها بالرفض المباشر!!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة