وإذا بنا نحول محيطنا السياسي العام في دولتنا المنكوبة بنخبتها إلي سيرك اختلط فيه الحابل بالنابل والعاقل بالأحمق والصالح بالفاسد والواعي بفاقد الأهلية السياسية واللياقة العقلية، والوطني المخلص بمتعدد الولاءات
«إللي مايشوفش من الغربال أعمي» مثل عامي فيه من الحكمة مايلخص حال حياتنا العامة التي تحولنا فيها جميعاً إلي أولئك العميان أو معصوبي العيون، فلانري من الغربال رغم اتساع فتحاته ونوافذه مشهد السياسة المعقد في بلادنا المحروسة، وهنا لا أستثني احداً من الدولة والحكومة والإعلام والسياسيين والكتاب والعلماء والمثقفين والنشطاء، شيوخاً وشباباً، حيث راح كل منا يري في المشهد مايتوافق مع فكرته وانحيازه ومصالحه ومحاكاته، لا ماهو موجود بالفعل، وكاننا تحولنا بمحض إرادتنا إلي أولئك العميان في قصة أبو حيان التوحيدي أو أولئك الحمقي والمغفلين «من الغفلة» عند الحافظ إبن الجوزي كما حدثتك عنهما من قبل. وإذا بنا نحول محيطنا السياسي العام في دولتنا المنكوبة بنخبتها إلي سيرك اختلط فيه الحابل بالنابل والعاقل بالأحمق والصالح بالفاسد والواعي بفاقد الأهلية السياسية واللياقة العقلية، والوطني المخلص بمتعدد الولاءات، تأخذنا المصالح الضيقة والثارات الخاصة وضيق الأفق والتباس الرؤية وعناد المكابرة من الدولة إلي مدارك لايمكن لها أن توصلنا إلي طريق ممهد مأمول نستكمل فيه مشوارنا ونحقق أهداف مسيرتنا التي تتعسر في ضبابية سببها النزق والتسرع وضعف الرؤية وعدم القدرة علي الفهم والتفهم. فغاب عنا أو عن كثيرين منا عقبات الطريق ومخاطره، وراح الجميع ينظر ويقعد علي هواه وكأننا دولة تتقلب في بلهنية العيش، لا دولة تحاصرها المشاكل والصعاب والتحديات من داخل مراهق متخاذل أو متآمر وخارج مترصد مخاتل ومراوغ. وأعجب من أولئك الذين غفلت بصيرتهم وكف بصرهم عن رؤية مايحدث في بلادنا.
إن هذا السيرك البدائي المنصوب في الإعلام ومحيطنا العام وحتي في الإقليم والعالم من حولنا أشبه بالبيانولا وخيال الظل في ريفنا القديم، ينصبون ملاءة بيضاء ويسلطون عليها الضوء بينما يلعب اللاعبون و»خلابيص الطبل» من خلفها ويؤدون مشاهدهم التي تضحك النظارة، وكثيراً مايكون ضحكاً كالبكا.
ياسادة البلد بيتلعب فيها وبها من كل مغامر وأحمق، تساعدهم أياد خفية من الخارج وتمهد لهم الأرض حتي تحكم الحصار علي الدولة واقتصادها ومقدراتها. وأنظروا كيف أجهض جشع التجار واتحادات الغرف التجارية كل محاولة للدولة للسيطرة علي الأسعار والتهاب السوق، يساعدهم وزير تموين كان مستشاراً لإتحاد الغرف التجارية، يدعم التجار بأكثر مما يرشد الدعم، وإلا كيف تفسر تحويل نقاط الخبز المخصصة لدعم محدودي الدخل لإستخدامها في شراء مائة سلعة أخري، وكيف يستميت في توفير أراض لشركات السلاسل التجارية لبناء سوبرماركتات بدلاً من اهتمامه بحل مشكلة نقص الزيت التي لم يفكر في إقامة مصانع لها، وكيف سمح للمستوردين بسرقة الدولة والفلاح الغلبان باستيراد أقماح فاسدة، إنها سياسة «الكومبرادور» أو وكلاء الشركات متعددة الجنسية لضرب اقتصادنا الوطني، ولاحسيب أو رقيب، وهي مسئولية لانعفي منها الدولة وحكومتها ومؤسساتها وأجهزتها. وأنظر كيف أجهض المستوردون كل محاولات البنك المركزي ووزير الصناعة والتجارة في السيطرة علي انفلات عمليات الإستيراد ونزيف العملات الأجنبية، وانظروا ماذا فعلت مكاتب الصرافة بالدولار وكيف تدنت تحويلات المصريين في الخارج، بما يهدد الإحتياطي المركزي من الدولار ويتسبب بعدم قدرتنا علي استيراد لوازم الإنتاج والسلع الضرورية لحياة المواطنين، والمصانع التي تتوقف.وإذا لم تكن هذه مؤامرة فماذا عساها تكون؟ لقد استأسد رأس المال غير الوطني، وهو أكثر وأعلي صوتاً من المؤسسات الخاصة الحريصة علي مصلحة البلد ورأس المال الوطني، وراحوا يلاعبون الحكومة والدولة علناً، ومن الأسف وراءهم دعم الخارج الذين هم «كومبرادوره» وأيضاً رجال في مؤسسات الحكم يدعمونهم ويروجون لهم لدي الرئيس، ويستجيبون لضغوطهم المدمرة، بما يهدد السلم الإجتماعي ويكرس للطبقية وتوحش الرأسمالية ويهدد استقرار الدولة بضرب مفاهيم العدالة الإجتماعية التي عصبت عينيها عن رؤية صعوبة حياة البسطاء الذين هم الداعم الأول للدولة وللرئيس الذي يرون فيه الخلاص والأمل، لكن بعضا من رجاله يختطفون الدولة بعيداً عن داعمها الأول والأساس، وهم بسطاء الناس الذين تعدهم الحكومة بإجراءات مؤلمة، وكأنهم لايكفيهم ماهم فيه من ألم وإحباط. ولعل هذا مايفسر ماقاله الرئيس السيسي «ماتسمعوش غير مني أنا» بمعني إنكاره لتصريحات الحكومة ورفضه لزيادة الأعباء علي الشعب الذي لايزال يراهن عليه.
ياسادة كيف يفوتكم أن تروا محاولات تسخين الجبهة الداخلية وإثارتها بالأسعار مرة وتجاوزات السلطة واختلاق حروب داحس والغبراء بالحق وبالباطل بين فئات الشعب ونقاباته ومؤسساته مرات، والإصرار علي سجن الشباب رغم وعد الرئيس بالإفراج عنهم، وسجن المثقفين وأصحاب الرأي وأطفال أبرياء بحجة الحسبة وازدراء الأديان، ونزق الحكومة وفشلها مرات وتدني مستوي الخدمات، وانفلات الإعلام وسيادة أسلوب «العكشنة» واعتمادها تقليعة وصلت إلي رواق مجلس النواب. ألم تلحظوا من ذلك كله أن الأصابع التي تحدث عنها مرسي لاتزال تلعب في جبهتنا الداخلية؟ ألا يعطيكم ذلك درساً أننا مستهدفون؟
ثم ألا ترون ماحدث في السياحة، ومحاولات الوقيعة بين مصر وروسيا ومصر وإيطاليا ومصر وبريطانيا ومصر وأمريكا التي تحتشد مع حلفائها الأوربيين للدخول إلي ليبيا ليكونوا علي حدودنا الغربية وعلي مقربة من مصر بحجة محاربة داعش وبما يهدد أمننا القومي، ألا ترون محاولات تسخين المنطقة حولنا وإشعال الإقليم الذي هو محيطنا السياسي الحيوي، ودق الأسافين بين مصر والسعودية ومصر والإمارات، وجر السعودية لتغرز في مستنقع ينصبه لهم ولنا الأمريكان في اليمن ولبنان والعراق وسوريا؟ والمستفيد الوحيد هو أمريكا وإيران وتركيا وقطر، ألا تتعلمون ممايحاك لنا في حرب المياة الطاحنة والدور الإثيوبي كمخلب قط لاستدراج مصر ومحاولة تركيعها؟ ألم تسمعوا عن تحفظات الجزائر والسودان وقطر علي ترشيح أحمد أبوالغيط أميناً عاماً للجامعة العربية والإصرار علي تدوير المنصب؟ أليس في ذلك كله مايدلكم أننا أمام نزق الداخل ومراهقته السياسية وغياب أي إطار فكري مرجعي عنه وعمن يتصدون الواجهات في محيطنا العام؟ ألسنا أمام مؤامرة خارجية تستهدف تركيع مصر والحيلولة دونها ومحاولاتها للتقدم والنهضة؟.
ياسادة التاريخ ليس مؤامرة، لكنه أيضاً لايخلو منها، ونحن من يعطي للمؤامرة فرصتها السانحة بالوصول لغاياتها وأهدافها بما نفعله بانفسنا. فمن ناحية نقوم بتيئيس الناس وإحباطهم والوصول بهم لأن تكون وجوههم للحائط بأنه لافائدة وأن السيسي لن يحقق لكم ماتتمنون. نحن من يعطي أعداءنا والمتربصين بنا كل الفرص بمراهقتنا وعشوائيتنا، وأيضاً باختيارات الدولة وأجهزتها لرجال حول الرئيس هم أضعف وأفشل من انجبتهم مصر. وإذا لم يكن من يختار وزراءنا ومحافظينا ومسئولينا وقياداتنا العليا والوسيطة مجرماً في حق الوطن، فماذا عساه يكون؟. وطالعوا مئات المقالات والتعليقات أن الرئيس يعمل وحده وليس حوله كفاءات وأن صراع الأجهزة حوله يتسبب في ضياع الفرص وبلبلة الناس والتباس الرؤية وسوء الإختيار الذي يخصم من شعبيته التي هي ضمانة إستقرار الوطن وتثبيت دعائم الدولة.
أرجوكم «شوفوا م الغربال» وتبصروا، فلاتزال مصر بخير وعلينا جميعاً ان نعطي فرصة للدولة لتتنفس وترتب أوراقها ولنثق أن مجلس النواب واعد وداعم للدولة ولولا موقفهم من قانون الخدمة المدنية لخرجت المظاهرات وتعرضت مصر لأزمة كبري، ثقوا في أنفسكم ودولتكم، ساعدوها بالنقد البناء والعمل واعطوا الناس رصيداً من الإطمئنان، لنمر بالوطن من أزمة مراهقة الداخل وترصد الخارج.