عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

دروس وعبر من أزمة غامضة

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 18 أكتوبر 2020 - 07:28 م

عبدالله البقالى

إلى هذا الحد استطاع فيروس مجهول، لكنه فتاك، فرض تغيير جذرى وعميق فى بعض المفاهيم، لدرجة حمل مفهوم معين نقيضه فى نفس الوقت، فالإيجابى تحول إلى مصطلح مخيف ومقلق، بيد أن السلبى ناقض مفهومه وسطا على موقع الإيجابي، وصار الإنسان يهاب سماع كلمة إيجابى فى علاقته مع فيروس كوفيد 19، تداخلت المفاهيم وسطا بعضها على اختصاص ودور نقيضه فى المفهوم، والسبب هذا الفيروس الذى انتشر بسرعة فائقة وغير مفهومة ولم تقتصر تأثيراته على الإنسان والاقتصاد فقط، بل الواضح والأكيد، لحد الآن، أن التداعيات امتدت وانتشرت لتطال السلوك الفردى والجماعي، وأنماط العيش والتفكير، ولتتسبب فى اهتزاز بنية المفاهيم والتعابيروالمصطلحات، وهذه قضية أخرى من القضايا التى لا يمكن تقدير حجم أهميتها أو خطورتها الآن، بل القادم من الزمن هو الذى سيكشف عن ذلك بوضوح أكثر.
ليس هذا فقط ما قذف به الوباء إلينا من قضايا وانشغالات، بل إن الأزمة الصحية الطارئة وغير المسبوقة فى تاريخ البشرية جمعاء كانت سخية جدا فى إرباك التفكير الإنسانى والعالمى بإشكاليات مستجدة محيرة.
فزمن ما بعد كورونا بدأ فى الكشف عن حقيقة مذهلة فعلا، حيث اتضح أن الثراء ليس عاملا حاسما فى التصدى للأزمات الطارئة، وأن الوباء لا يفرق بين الطبقات والفئات، ولا يخاف مالا ولا يهاب سلطة، بل الأدهى من ذلك فإن الأغنياء والأثرياء كانوا أقل مناعة من الفقراء والمعوزين فى مواجهة الوباء الطارئ، فالبسطاء من الطبقات الفقيرة تحدوا الوباء وخرجوا إلى مواجهته فى تفاصيل الحياة، لضمان لقمة العيش، بينما احتمى الأثرياء فى القصور والضيعات والفيلات، ورغم ذلك فإن حجم الثراء الذى أتاح الهروب من الوباء لم يحل دون وقوع إصابات كانت مكلفة جدا فى أوساط الهاربين.
وأكدت التجربة المريرة التى عاشتها البشرية طيلة سنة كاملة عجز ما دون العلوم الصحيحة والدقيقة عن مواجهة الأزمات الصعبة الطارئة، فقد توارى الكهنة والمشعوذون إلى الخلف، واختفوا من المشهد، واحتموا فى الحجر الصحى والعزل المنزلي، كما فعل العامة من الناس، ليكشفوا بهذا السلوك عن حقيقة الأفعال التى يقترفونها ضد الإنسان ومن أجل المال. واتضح أن الأدوارالموكولة للعلماء والأطباء والممرضين وتقنيى الصحة مصيرية وترتبط مباشرة بمصير الإنسان نفسه، لذلك فإن رسالة الأزمة المستجدة لم تكن مشفرة، وتدعو المجتمع الدولى إلى إعطاء الاعتبار للعلوم وإلى سادة العلم من العلماء والخبراء والمتخصصين فى بحوره، كما لم ينفع نجوم مختلف الرياضات والغناء والطرب البشرية فى الظروف العصيبة التى اجتازتها، رغم ما أغدقه لفائدتهم زمن التفاهة من أموال طائلة، وتأكد أن الذى يصلح لمجرد الفرجة العابرة التى قد تخلق فرحا باللحظة، لا يقبل بأن يتفوق فى جودة العيش عن الذين تأكدت حتمية وجودهم فى بنية علمية قوية لإنقاذ مستقبل الانسانية، وبالتالى إن الدرس مما حدث يفرض على المجتمع الدولى إعادة ترتيب أولوياته فى السياسات العمومية المتبعة، فالأولوية كل الأولوية للتعليم وللصحة وللرعاية الاجتماعية، ولبناء الإنسان النافع لأسرته،ولحيه، ولحاضرته،ولبده،و للبشرية جمعاء، ولن يتحقق هذا البناء الجديد إلا من خلال القيام بمراجعات عميقة وجريئة للاختيارات السائدة، والتى مكنت التفاهة من أفضلية حاسمة فى الحياة، وهذا ما يحتم إعادة ترشيد الإنفاق العام والخاص لإعطاء قطاعات معينة ما تستحقه من عناية ومن اهتمام، عبر تحفيز الاستثمارات العمومية والخاصة فى مجالات الصحة والأسرة والتعليم والبحث العملي، لأن الأزمة الطارئة أكدت الأهمية البالغة لهذه القطاعات، وكشفت أن طبيعة وقوة مواجهة الوباء ارتبطت بشكلٍ كبير بمدى قوة ومتانة البنية الاجتماعية لكل دولة ولكل شعب من شعوب العالم.
ومن جهة أخرى فزمن ما بعد كورونا تجاوز المفاهيم التقليدية المتعلقة بالحروب المقبلة، إذ لم تعد حروبا من أجل الأرض، ولا من أجل الماء، ولا حروبا تحسم فيها القوة النووية الفتاكة، بل إن الحديث اليوم عن حروب جرثومية وفيروسية أضحى مشروعا بنسبة كبيرة جدا، فالذى يتحكم فى علوم الفيروسات والجراثيم هو الذى سيحسم الحرب العالمية الثالثة دون أن يكون فى حاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة، ودون حاجته إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل التقليدية المعهودة.
زمن هو غير كل الأزمنة التى عاشتها البشرية جمعاء، يشرع الأبواب أمام أكثر السيناريوهات وخامة وقتامة بالنسبة للمستقبل المنظور والبعيد، إذا لم يبادر الكبار بإعادة النظر فى طبيعة النظام العالمى الجديد الذى تدبر به شؤون العالم.
 < نقيب الصحفيين المغاربة

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة