جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

مآس ملكية

جمال فهمي

الخميس، 22 أكتوبر 2020 - 06:58 م

هناك عبارة شائعة ومشهورة (لكنها من وجهة نظرى سخيفة) يصوغها بطرق مختلفة صناع بعض الأفلام السينمائية فى بلادنا ويطبعونها على أشرطتهم التى تتناول قصصا واقعية حدثت بالفعل غير أنهم هربا من الرقابة أو الضغوط الاجتماعية، لا يريدون الاعتراف بحقيقة اقتباس هذه القصص من الواقع.. تلك العبارة قد تقول مثلا: «أحداث هذا الفيلم وشخصياته قد تتشابه مع وقائع حدثت وشخصيات موجودة فى الواقع غير أن الأمر كله مجرد مصادفة غير مقصودة».
ومن الحكايات الواقعية التى لا يجرؤ صناع السينما وغيرهم، فى أغلب أقطار أمتنا العربية، على البوح بها علنا، تلك التى تحكى عما قد يجرى فى دهاليز قصور الحكم من وقائع صراعات تنتهى دائما بكوارث ومآس وتحولات دراماتيكية خطيرة، عادة ما يفاجأ بها عموم الناس، وقد تمضى سنون وعقود طويلة قبل أن يعرفوا أسرارها والحكايات التى مهدت لها.
لقد فرغت للتو من إعادة قراءة واحدة من أقوى وأشهر حكايات الأدب العالمى، ألا وهى مسرحية «الملك لير»، تلك التحفة التى ابدعها قبل ما يزيد قليلا على أربعة قرون، أعظم أدباء وشعراء الإنجليز، وليم شكسبير مستوحيا إياها من وقائع وأحداث حقيقية مرت بتاريخ بلاده.
وبتلخيص مخل جدا، سأحكى حالا مختصر مأساة ذلك الملك العجوز الذى أراد أن يقضى ما تبقى من حياته الصاخبة الماجنة متمتعا بالراحة والهدوء بعيدا عن مسؤوليات الحكم اليومية، وحسب الرواية الشكسبيرية، فقد باح «لير» بهذا المعنى لبهلوله (مضحك الملك) الذى سيختفى تماما من الفصل الثالت للمسرحية عندما يضحى هذا الملك نفسه مشردا و»بهلولا».
كانت فكرة «لير» أن يوزع مُلكه كله فى حياته على بناته الثلاث «جونيريا» و«ريجان» و«كورديليا»، لكنه يرهن فعل ذلك على شرط شديد النرجسية ويناسب طبيعته النزقة، إذ يستدعى بناته الثلاث ويسأل كل منهن عن مدى الحب الذى تكنه له، فتقول كبراهن أنها تحبه حبا متجددا لا نهاية له تماما مثل زبد البحر وأمواجه، وتقول الثانية أنها تحبه بمقدار يفوق حجم الدنيا كلها، غير أن أصغر بناته «كورديليا»، ولأنها أكثرهن صدقا وإخلاصا وطيبة، لا تشارك أختيها مباراة النفاق تلك، فتجاوبه قائلة، بمنتهى التواضع، أنها تحبه كما يحب كل الناس آباءهم.. أمام هذه الإجابة الصادقة يجن جنون «لير» وتعميه الأنانية والغرور فيقرر طرد «كورديليا» من رحمته ويتركها تتزوج من ملك فرنسا بغير مهر، ويوزع نصيبها من مملكته على أختيها اللتين يسلمهما نفسه وملكه كاملا، لكنهما سرعان ما يعاملانه بعقوق ووحشية لدرجة أنهما بعد اسبوعين فقط يطردانه من القصر فيضحى طريدا فقيرا متشردا يلعن الأرحام ويخاطب الرعد ويصرخ فى السماوات بآلامه وأحزانه من دون مجيب حتى يستقر تماما فى ظلمات الجنون.
تعرف «كورديليا» بما جرى لأبيها الملك فتتحرك من فرنسا إلى انجلترا على رأس جيش كبير وفى نيتها إنقاذ والدها، بيد أن جيشها ينهزم وتقع هى وأبوها أسيرين فى يد أختيها، وفى السجن تموت ويموت «لير» بعدها وقد استطاع من خلال جنونه أن يدرك حقيقة لم يدركها ولم يفهمها وهو يرفل فى نعيم ملكه وفى تمام عقله.. الآن فقط أدركها، ولكن متأخرا جدا وبعد فوات الأوان.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة