إبداع
إبداع


إبداع: البابُ وأنا وعِنايات أبو سِنّة

أخبار الأدب

السبت، 24 أكتوبر 2020 - 10:09 ص

هدي جعفر

فى إحدى حيواتى السابقةِ امتلكتُ دُميةً قُطنيةً تُماثلنى طولًا، اشترَوها لى من دُكّانٍ أوروبيّ الطراز، وُجدت جُثّة صاحبِه داخلَ سَجّادةٍ أصفهانيّةٍ مرسومًا عليها أربعة صِبيةٍ ينظرون إلى الفراغِ.
 كانت الدميةُ بِشَعرٍ أغمقُ قليلًا من لونِ الكمّون، وبعينين زرقاوين، وبأنفٍ مستديرٍ وبارز، أطلقتُ عليها، أمامَ الآخرين، واحدًا من تلك الأسماء التى يمنحونَها للدُمى، لكن فى الخفاءِ، بينى ونفسِى، سميتُها عِنايات أبو سِنّة.


بدأتْ القِصّةُ فى ذلك اليوم الغريب، كنتُ حينها طفلةً بسنواتٍ خمس، أرتدى فُستانًا بلونينِ أحدَهما أبيض، سمعتُ قهقهةَ الجالسين فى غرفةِ المعيشةِ وهم يشاهدون المسرحيّةَ الشهيرةَ ونجمَها عظميّ الوجه خفيفَ الظِلّ، ركضتُ نحوهم مُمنّيةً نَفسِى بضحكٍ جديدٍ لأسبابٍ جديدةٍ لكنّى دخلتُ الحجرةَ فى اللحظةِ التى عرضتْ الشاشةُ فيها رسمًا لعِنايات أبو سِنّة والسكينُ مُستقرًّا فى منتصفِها، فى منتصفِها تمامًا، ثُمّ اختفت الصورةُ التى كانت ترافقها موسيقى مُبتهجةٌ ليبدأ فصلٌ جديدٌ مِن المسرحيّة، شعرتُ بذُعرٍ يسيلُ بداخلى، وتدلّى السؤالُ كأنشوطةٍ تنتظرُ شُجاعًا يدسّ رأسَه داخلَها: لماذا وصلتُ فى لحظةِ عرض الجُثة؟ لماذا لم أصلْ قبلها أو بعدها كى أضحكَ مثل الآخرين؟ وعرفتُ حينها أنّ هناك مَن اختطفَ قِسمتى من الضحكِ لتلك الليلة، ووضع بدلًا منه خوفًا أصليًّا استقرّ بداخلى حتى لحظة كتابة هذه القِصّة، وقد أحزننى ذلك للغاية.


لقد كنتُ طفلةً محدودةَ الذكاء وبخيالٍ شاسعٍ لكنّه بِلا طائل، لقد اتّسع خيالى حتى أصبحَ دون ملامح، أرضٌ مَحْلٌ لا تُنبتُ زرعًا ولا تحملُ بناءً، فى تلك الليلة استرجعتُ، عشرات المرّات، صورةَ الجُثّةِ المُمدّدة، وقصةَ المسرحيةِ التى ضحكوا عليها حتى بُحّت الحناجر، وما زالت أنشوطةُ السؤالِ شرهةً ومُعلّقةً: لماذا تستندُ قِصّةُ المسرحيةِ على قتلِ الراقصةِ لكنّها، أى الراقصة، لا تظهرُ على المسرحِ مثل باقى الأبطال؟ هل يكون الحضورُ عن طريقِ الغياب؟ أين ذهبت عِنايات أبو سِنّة بعد السكّينِ الذى اخترقَها؟ من أيّ بابٍ انسلّت؟ فى أى قصةٍ كانت قبل هذه القِصّة؟ لماذا سمح المشاهدون للضحك بأن يأخذهم بعيدًا عن جُثة الجميلة المقتولة؟
فى الليلِ كنتُ كمن يستخرجُ النومَ من قاعِ بئر، بخلاف أقرانى الذين ينامون قبل أنْ يصلوا إلى أسرّتِهم، ينامون حتى إن ظلّوا يركضون، ويلعبون الـ«شَبَدَلّو»«١»، ويتبادلون أخبار عائلاتهم المَشِينة، وحدى كنتُ أبقى مستيقظةً طوال الليل، حتى وأنا نائمة.


كان الكبارُ يقولون بأنّ الشياطينَ سببُ الأرق، فإذا أردنا النومَ علينا أن نستغفرَ ونتلو الأدعيةَ لأنّ ذلك يثيرُ غيظَهُم، فيسكبون فوق عيونِنا أكياسَ النومِ حتى لا نحصلَ على حسناتِ اللجوءِ إلى الله، لقد كانت الشياطينُ، إذًا، هى من تُهدهدُنا لننام، يا لها من فكرةٍ مهولةٍ لطفلةٍ مثلى؛ذكاؤها واهن لكنّها تملك خيالًا واسعًا كالقفارِ فى قصص الجدّات التى قلّما ينجو منها الأبطالُ الغارقون فى العَرَقِ وضغطِ الـ»تستوستيرون».


فى وقتِ القيلولةِ من أحد الأربعاوات زارتنى عِنايات أبو سِنّة، وقت لا يتوقعه الأطفالُ لاستقبالِ الراقصاتِ المقتولاتِ بسكينٍ فى مُنتصفِ الجسدِ الجميل، كنتُ راقدةً على أحدِ الأسرّة الخشبيةِ وأفكّرُ بأصابعى عاديّة الشكل.


جاءت عِنايات بثوبٍ أخضرِ من الشيفون والساتان، يضيقُ عندَ خصرِها ثُمّ يتسعُ فوقه وتحته، شَعرُها أغمقُ قليلًا من لونِ الكمّون، وفوق جَفْنيها الفاتنيْن طبقاتٌ من الكُحلِ الأسودِ المخلوطِ بالزُرقة، تمددتْ بجانبى فالتصقتُ بالجدارِ كى أُتيحَ أكبر مساحة للضيفةِ الخضراءِ التى لها رائحةُ الكُتبِ المهجورةِ، ظلّت تُحدّق فى السقفِ دون حراك، ثم تأملتْ الأقلامَ والأوراقَ حولى وقالت لى آخر ما كنتُ أتوقع سماعَه: أنتِ بابٌ، ستكونين دومًا البابَ. 


بعد مُدّةٍ لا أتذكرُها، وضعتُ الدُميةَ عِنايات بجانبى، وهمستُ لها بسرٍ خطيرٍ عن ابنتيّ الجار ثُمّ نمت، لم تُهدهدْنى الشياطينُ فى تلك الليلة. فى الحُلمِ رأيتُ الدُميةَ تسيرُ بعسرٍ شديدٍ وقد استطالتْ حتى لمستْ سقفَ الحجرة، اقتربتْ منى وهمستْ فى أذنى ببطء: لقد أخبرونى بأنّكِ الباب.


فى اليومِ الأخيرِ جاءت (ل)، ابنةُ أحد الأقارب البعيدين، لا أتذكرُ منها إلّا ضفائرَها الطويلةَ وأسنانَها الكبيرةَ، فسميتُها فى كُرّاسةٍ من فئةِ الأربعين ورقة بلونِ دمِ الغزالِ «ذاتَ الضفائرِ والأسنانِ»، قالت لى: هيا نلعب بدُميتِك، وافقتُ على ذلك لكنّ الدُمية اختفت من الغرفة، كانت مُلقاةً على الرصيفِ المقابلِ للبيت، شاخصةً نحو السماء. من ألقى بها هناك؟ قالت ذاتُ الضفائرِ والأسنانِ: أنتِ من ألقى بها هناك، ثم ركضتْ باكيةً نحو الكِبار وأخبرتْهم بأنّى لَم ألعبْ معها كما يجدرُ بالأطفالِ أن يلعبوا.
وقفتُ لليالٍ طويلةٍ أمامَ النافذةِ لأشاهدَ الدُميةَ عِنايات نائمةً على الأسفلت، وقد تبوّلت عليها القططُ، والعشراتُ من أسرابِ النملِ تتجوّلُ فوقها، اقتربتْ مِنّى عِنايات أبو سِنّة وهمستْ: لو لم تكونى البابَ لما خرجتْ مِنكِ الدميةُ.


بعد عشرين عامًا جاءت خادمةٌ إلى بيتِنا، وأُمرتْ بالنومِ فى غُرفتى، وفى يومِ إثنين أخبرتنا أنّها تريدُ المُغادرةَ، سألها الكبارُ عن السببِ فقالت إنّها شعرتْ بالخوفِ، قالت بأنّى حين أغرقُ فى النومِ كانت تخرجُ من داخلِى امرأة ترتدى ثوبًا أخضرَ بساقين طويلتين، قالت إنّ هناك شجرةً تخرجُ من جذعِى، وترفعُ جذورَها بغصنيْن رفيعيْن كسيدةٍ تخشى البللَ، قالت بأنّ موظفَ أرشيف يزحفُ من جوفى وعلى ظهرهِ مئاتُ الصورِ لأجدادٍ بأسماءٍ مُركّبةٍ، قالت إنّ هناك شياطينَ تتثاءب، وفؤوسَ ومطارقَ و»مقامعُ من حديد»، وأقاحٍ وحَبَقًا وورودًا قانيةً، ورجالًا يمشون برجلٍ واحدةٍ، وهنودًا حُمْرًا لهم تيجانٌ من الريشِ البديع، وطفلةً تُشيرُ إلى لسعةِ نحلةٍ بجانبِ عينِها كى تُشاغِلَ الكبارَ عن «كمشة» الجُنيهاتِ الذهبيةِ التى سرقتْها، قالت إنّ الغرفةَ تزدحم، قالت إنّ الغرفةَ تتسعُ حتى تُصبح دون ملامح.


قبل عشرِ سنواتٍ قابلتُ ذاتَ الضفائرِ والأسنانِ فى ممرٍ تصطفّ على جانِبَيه دكاكينُ تبيعُ الأقمشةَ اللامعةَ والمُطفأةَ، سألتُها: أتذكرين دُميتى؟ قالت بسرعةٍ لم أتوقعها: لا أتذكرها، بل أتذكركِ أنتِ، قلتُ لها: لماذا لم تقترحى عليّ إنقاذَها من نملِ الشوارعِ وبولِها؟ قالت: لم تكن هناك دُميةٌ، كنتِ بمُفردكِ تُحدّقين فى البابِ الخشبيّ وتقولين بصوتٍ خافتٍ: أنا أنت، وأنت أنا.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة