ذاكرة شارع الرشيد
ذاكرة شارع الرشيد


ذاكرة شارع الرشيد في مكتبة الكونجرس الأمريكي

أخبار الأدب

السبت، 24 أكتوبر 2020 - 10:52 ص

 

د. طه جزاع

الشوارع لا تتشابه، بعضها ليس أكثر من أسفلت أو حجارة مرصوفة بعناية، وأرصفة للمارة وعلامات مرورية، وضجيج مركبات، بلا روح ولا تاريخ ولا ذاكرة. غير أن الشوارع التى تتنفس وتحيا وتنبض بروح المكان والزمان، تبقى فى وجدان الناس وذاكرتهم، وإن تعرضت للإهمال واللامبالاة، وفقدت الكثير من معالمها وأبنيتها، وجار عليها الزمان، ودارت عليها الأيام دورتها القاسية.


شارع الرشيد فى بغداد هو مثال حى على المكان حين يتحول إلى وجدان، وتتحول العِمارة التراثية، والمحلات السكنية على جانبيه، إلى ذكرى وروح حاضرة تمتد من جيل إلى جيل، يوم كان هذا الشارع لا ينام حتى مطلع الفجر، والناس يرتادون مقاهيه التى كانت أشبه بمنتديات أدبية وثقافية، أو يتبضعون من أسواقه التى تعرض مختلف الماركات الفاخرة، أو يراجعون عيادة طبيب شهير، أو يقضون أوقاتاً عائلية ممتعة فى دار عرض سينمائى، تعرض أحدث الأفلام العربية والعالمية فى زمانها، أيام الخمسينيات والستينيات، وحتى منتصف أو نهايات السبعينيات من القرن الماضى.


لقد صدرت عن شارع الرشيد العديد من المؤلفات، وكُتبت العشرات من القصص والروايات التى تَحوَل بعضها إلى أفلام سينمائية ووثائقية، إلا أن ميزة كتاب «رحلة فى ذاكرة شارع الرشيد» الذى صدرت طبعته الأولى مؤخراً عن مطابع دار الأديب فى عمان – الأردن، للكاتب والإعلامى والمترجم العراقى المغترب فى الولايات المتحدة سعدون الجنابى، أن مؤلفه ولد وعاش طفولته وفتوته وشبابه فى منطقة مجاورة لشارع الرشيد، وأطل على العالم من خلاله، تلميذاً وطالباً وكاتباً ومترجماً فيما بعد، بل وعاشقاً متيماً لكل ذكرى من الذكريات المرتبطة بهذا الشارع بقيت تتململُ فى ذاكرته وروحه، مثل نسغ النفس، أو مثل وميضٍ لا يخبو فى ظلمة الأعماق، حتى وهو يعيش مغترباً، مُسيَراً لا مُخيَراً، بعد أن حل الخراب فى شارعه الحبيب، وفى مدينته بغداد، وفى وطنه، أثناء حرب الصدمة والترويع، وسنوات الجمر والرماد، والدم والقتل، والجنون والفوضى «الخَلّاقة» التى أعقبتها.

 

فكان كتابه هذا بمثابة نداء أخير، ودعوة لإنقاذ ما يمكن انقاذه من تراث الأمس القريب فى شارع الرشيد – إن بقى منه ما يصلح للإنقاذ –، أو إقامة متحف خاص بهذا الشارع يعرض كل ما يتعلق به من كتب وصور وصوتيات ومرئيات وتراثيات، وهى التوصية التى انتهت إليها ندوة الحوار الإلكترونية، التى أقامها ملتقى حوار فى التنمية عبر منصة zoom يوم العشرين من أغسطس الفائت، وأدارها  د. عماد الشيخ داود، وقدم فيها الجنابى محاضرته الموسومة «الثقافة فى شارع الرشيد»، التى شارك فيها عدد كبير من المثقفين والاكاديميين والمعماريين من العراق، ومن العراقيين المقيمين فى الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا.


ولد الجنابى فى منطقة المرَبعة العام 1947، وولد معه فى السنة نفسها – كما يقول –  «ابن جيراننا داود بن سليمان، وهو يهودى، وموفق بن أم ناصر وبولص بن زكريا، وهما مسيحيان». وفى ذلك تلميح وإشارة فى غاية الوضوح إلى تماسك النسيج الاجتماعى البغدادى، المُنَزه والمتسامى عن الاختلافات العِرقية والدينية والطائفية، وهكذا كان الأمر فى جميع مدن العراق، «كنا نحتفل بأعياد كل صديق بصرف النظر عن دينه وطائفته".

 

وفى تسمية شارع الرشيد يشير المؤلف إلى ظهور هذا الشارع» إلى الوجود فى العام 1916 أبان زمن الوالى العثمانى خليل باشا، لذا أطلقوا عليه اسم - خليل باشا جادة سى -، وتغير اسمه إلى الشارع الجديد، وبعد ذلك أصبح اسمه شارع الرشيد، ليكون الشريان الأبهر، الذى يخترق عاصمة الرشيد الشرقية مدينة بغداد من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، وهو قريب من معسكر الجند فى سراى القشلة فى الميدان.

 

وبعد أن احتل البريطانيون العراق، وسيطروا على بغداد، بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية وألمانيا ودول المحور، اتخذوا شارع الرشيد وبخاصة دوائر الجند فى بناية سراى القشلة وبناية وزارة الدفاع فى الباب المعظم بداية شارع الرشيد مقرّات للقوات الغازية البريطانية".

 

ومن المثير للاهتمام أن هذا الشارع يقع بين بابين، هما باب المعظم من الشمال، وباب الشرقى من الجنوب، ويمتد إلى مسافة أربعة كيلومترات، ويقطع الشارع أربعة جسور: الشهداء، الأحرار، السنك، والجمهورية، وتقع على امتداد الشارع أربعة جوامع كبيرة هي: الأحمدية، والحيدر خانة، وسيد سلطان على، وحسين باشا، ويضم أربعة أسواق تاريخية هي: الهرج، السراى، الصفافير، والشورجة، وعلى امتداده تقع أربعة بنوك كبرى هى: الرافدين، المركزى، الرشيد، والزراعى.

 

ومن المفارقات أن باص نقل الركاب الذى يخترق الشارع ذهاباً وإياباً هو باص مصلحة نقل الركاب العامة رقم «4»، وبذلك يلتقط الجنابى إشارة ذكية وطريفة وغريبة تربط بين شارع الرشيد وهذا الرقم «النمرة»، ويزيدها من التاريخ أن الخليفة العباسى هارون الرشيد الذى سمى الشارع باسمه تزوج أربع مرات، ورزق بأربعة أولاد هم: الأمين والمأمون والمعتمد والمعتصم بالله.


فى الباب الأول للكتاب يتناول المؤلف سكن الملوك ومقرات الحكومة، وسوق هرج الذى يعود تاريخه إلى 350 عاماً، ومقاهى الشعراء والأدباء مثل مقهى الزهاوى، ومقهى حسن عجمى الذى كان يرتاده الشاعر محمد مهدى الجواهرى، ومقهى الشاهبندر، ومقهى البرلمان، وهنا أيضاً «شربت زبيب حجى زبالة» الشهير الذى افتتح عام 1900 ومن رواده ملوك ورؤساء وكبار الشخصيات، وافران كعك السيد، وكان من زبائنه العائلة المالكة وكبار المسئولين، وفيه أنشد الرصافى:» كلما فكرت بالكعك اشتريت.. كعك السيد أشهى ما اشتريت».

 

فرد عليه الزهاوى: «يالذتى تجددى بأكل كعك السيدِ» !ثم يعرج الجنابى إلى المدارس اليهودية، مدرسة شماش للبنين، ومدرسة الإليناس، ومدرسة لورا خضورى، ومدرسة مسعودة شنطة للبنات، وإلى القشلة والسراى، والصابونجية، وميدان باصات الأمانة، وجامع الحيدرخانة، وساحة الرصافى والأمين. فيما يتطرق فى الباب الثانى إلى ما بين الأمين ورأس القرية، وسوق الصفافير، وخان مرجان التراثى، وباب الأغا وتحت التكية، وسوق الشورجة التراثى، وعكد النصارى، والجنابيين، وحافظ القاضى، والعبخانة.

 

ويخصص الباب الثالث لرأس القرية والذبان، ولأستوديو بابل مصور الرؤساء، وبناية بيت لنج ومكتبة مكنزى، والساعاتى ناجى جواد، وبناية أوروزدى باك، وجامع سيد سلطان على، وشرايع الرشيد، ومقرات البعثات الأجنبية، وصيدلية المرَبعة، ومقهى البرازيلية، وسينما الرشيد الصيفى، وسينما الزوراء، وشارع باب الشيخ.

 

فيما يتناول الباب الرابع منطقة بين جسرى السنك والجمهورية،  وبيت ساسون حسقيل أول وزير مالية فى أول تشكيلة وزارية عراقية والذى سكنته الآنسة البريطانية غيرتورد بيل «المس بيل» مستشارة الملك فيصل الأول فى أول وصولها للعراق وقبل انتقالها إلى فندق تايكرس بالاس المطل على نهر دجلة، وأسواق حسو إخوان، وقاعة الخضيرى للتحفيات، ودائرة البريد والبرق والهاتف، ومحلات ملابس شاهين وإلياس حسو، ومحال أسطوانات جقماقجى، ويتناول الباب الخامس والأخير من الكتاب مجموعة موضوعات تتعلق بذكريات الجنابى وانطباعاته وحكاياته المتعلقة كلها بشارع الرشيد، أقدم وأشهر شوارع بغداد على امتداد أكثر من قَرن، وإلى ما يشاء الله من تقادم الزمان.


شارع الرشيد الذى أفرد له الشاعر العراقى حميد سعيد فصلاً فى كتابه «المكان فى تضاريس الذاكرة» يعادل مدينة كاملة متكاملة، بل هو بغداد، وبغداد هى شارع الرشيد، وهو رأى ينسب إلى أحد الدبلوماسيين البريطانيين ممن عملوا وأقاموا فى بغداد، واستطيع القول – والكلام لحميد سعيد – إننى من أوائل الذين قالوا بهذا الرأى.


قبل أيام، قام مؤلف الكتاب سعدون الجنابى، بزيارة لمكتبة الكونجرس الأمريكى، وتقديم نسخة من كتابه «رحلة فى ذاكرة شارع الرشيد» لتدخل ضمن دليل كاتلوج مكتبة الكونجرس، بعد تسليمها إلى أمين قسم اللغة العربية والشرق الأوسط في المكتبة د. مهند الصالحى.
 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة