ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

عن العسكرية المصرية.. أتحدث

ياسر رزق

السبت، 24 أكتوبر 2020 - 07:16 م

مجد المقاتل أن توضع على صدره قطعة معدن وعلى حائط منزله برواز يشهد بأنه قام بأعمال تتصف بالشجاعة أو البطولة أو بأعمال خارقة فى المعركة

 فى كل عام يثير احتفال الكلية الحربية بتخريج دفعات جديدة من الضباط، شجوناً فى نفسى، ويحرك مشاعر يختلط بها الفخر بالإشفاق على الخريجين الجدد، منذ بدأت فى حضور تلك المناسبة لمتابعتها ونشر وقائعها على صفحات هذه الجريدة الحبيبة قبل ٣٢ عاماً مضت.
ربما لم أشعر وأنا أنظر فى المرآة بآثار السنين،  خطوطاً تحتفر على الجبين، أو مشيباً لا يُعَيَّر به الرجل، وهو وقار..!
لكنى أحسست بأفاعيل الزمن، حين كنت أرى شباب الخريجين من الدفعات الأولى التى حضرتُ حفل تخرجها ابتداء من عام ١٩٨٨، قد صاروا جنرالات عظاماً، يقودون تشكيلات تعبوية، أو يترأسون إدارات حيوية على المستوى الاستراتيجى، أو يتولون قيادة فرق المشاة والفرق المدرعة وتشكيلات رئيسية فى البحرية وسلاح الجو والدفاع الجوى، أى أنهم أصبحوا عماد القيادة فى قواتنا المسلحة من رجالات الصفين الثانى والثالث.
< < <
فى كل احتفال، كنت أرى الخريجين يصطفون، يؤدون يمين الولاء للوطن والإخلاص لرئيس الجمهورية والطاعة للقادة والتمسك بالسلاح حتى الموت.
منذ ست سنوات، أعيدت صياغة يمين الولاء.
شاء الرئيس عبدالفتاح السيسى القائد الأعلى للجيوش المصرية بعد أيام قلائل من أدائه اليمين الدستورية رئيساً للبلاد، أن يحذف من يمين ولاء الضباط الخريجين عبارة:«مخلصا لرئيس الجمهورية»، فى إجراء مستحدث يتم لأول مرة منذ صيغ القسم ربما قبلها بنحو ٦٠ عاماً.
رسالة الرئيس للكافة كانت واضحة، كأشعة الشمس الصريحة فى ظهيرة يوم التخرج، وهى أن الولاء للوطن، لجمهورية مصر العربية، دون سواها. وأن الإخلاص هو شرف الجندية وحماية البلاد والدفاع عنها داخل وخارج الجمهورية، وليس لأى شخص، وإن كان رئيس الجمهورية.
هذه الرسالة كانت ترجمة لرسالة أخرى سبقتها بعام كامل.
فلم يمنع يمين الولاء، القوات المسلحة من إنفاذ إرادة الشعب التى انعقدت على إسقاط الرئيس الأسبق محمد مرسى ونظام حكم الإخوان برمته فى ثورة٣٠ يونيو ٢٠١٣، فلا إخلاص لمن لا يخلص للوطن.
هذا هو سر تلك الصلة الوطيدة التى تربط الشعب بجيشه على مر الزمان.
< < <
فى نهاية كل حفل، يضع الخريجون على أكتافهم رتبة الملازم (تحت الاختبار)، ومع النجمة الأولى، توضع على كاهلهم مسئولية الدفاع عن تراب الوطن المقدس.
ثم يكرم رئيس الجمهورية أوائل الخريجين، ويثبت على صدورهم نوط الواجب العسكرى من الطبقة الثانية تقديرا لتفوقهم وأدائهم واجباتهم بتفانٍ وإخلاص أثناء الدراسة.
عديدة هى أنواط وأوسمة القوات المسلحة، أعلى الأنواط قدراً هو نوط الشجاعة، وأرفع الأوسمة شأنا هو وسام نجمة الشرف.
أسماؤها تعبر عن نظرة العسكرية المصرية لمهام رجالها: الواجب، الشجاعة، الشرف.
يموت المقاتل وهو يرفع العلم ويتشبث به فى رمزية تعكس التضحية المطلقة فى سبيل ألا تنتكس راية الوطن.
مجد المقاتل أن توضع على صدره قطعة حديد ملفوفة بخيوط ملونة، أو قطعة معدن مسبوكة تحمل شعاراً، هى النوط أو الوسام.
مجرد قطعة معدن على صدر المقاتل، وورقة براءة للنوط أو الوسام تعلق فى برواز بمنزله، يشهد بها رئيس الجمهورية على أن المقاتل أدى واجبه على أكمل وجه، أو قام بأعمال تتصف بالشجاعة والإقدام فى المعركة، أو قام بأعمال بطولية، أو بأعمال استثنائية خارقة فى ميدان القتال.
أعرف  أبطالا صناديد حازوا على نجمة سيناء (وسام حرب أكتوبر الذى يعادل نجمة الشرف) أو وسام نجمة الشرف، تراهم حين تراهم مرفوعى الهامة فى كبرياء، منكسى جناح الكبر فى تواضع لله وللوطن، كلهم كانوا فى السماء والبحر وعلى الأرض أسوداً كواسر وهم يدافعون ويقاتلون ويهاجمون ويدحرون الأعادى.
< < <
أبرز مزايا القوات المسلحة أنها تجمع كل مصر فى مؤسسة واحدة. الحق أنها تحوى روح مصر الحية وقلبها النابض وهو شبابها، ابن الغنى وابن الفقير، ابن الوزير وابن الخفير، ابن الدلتا وابن الصعيد، ابن العاصمة وابن الواحات، ابن سيناء وابن مطروح،كلهم يرتدون نفس الزى، يأكلون من نفس القصعة، نفس الأطعمة، يتدربون معاً، ويقاتلون معاً، ينجون معاً أو يستشهدون دون تفرقة، وتظللهم جميعاً رايات النصر.
المساواة العادلة هى القانون العسكرى المصري، وأعنى بها المساواة بين الأنداد، بين الجنود معا، بين الصف معا، بين الضباط معا، غير أن الحقوق مكفولة لجميع الدرجات والرتب دونما تفرقة.
لست أقول إن القوات المسلحة خالية مائة بالمائة من آفات الوساطة والمحسوبية، غير أنى أبصم بأصابع اليدين، على أن هذه الآفات تلقى مكافحة بلا هوادة، فإذا أردت أن تؤذى فرداً من أفراد الجيش توسط له، وإذا أردت أن تخدم فرداً فى موقع، تسببت فى حدوث غير ما يتمناه، دون  أن تدرى.!
< < <
طريق الالتحاق بالكليات العسكرية، لا يمر عبر محسوبية، فلو كان ابن من هو أبيه، ولا تبلغ حدة إبصاره (٦/٦) حاد، فلن يقترب من الكلية الجوية، ولو عجز عن احراز الأرقام المطلوبة فى الكشف الرياضى أو المعدلات اللازمة فى الكشف الطبي، فسوف يخرج من قائمة المتقدمين ولن يكمل كشوف واختبارات الكليات العسكرية.
وطوال مدة خدمة الضابط، خلافاً لما نرى فى قطاعات أخرى بالدولة، فليست فى يده أوراق اعتماد للترقى للرتب الأعلى، أو الالتحاق بالدورات التأهيلية الراقية، أو تقلد المناصب القيادية، سوى الاجتهاد والتفانى والإخلاص والجسارة وصلابة القلب ورباطة الجأش والمقدرة القيادية.
القدرة على القيادة، هى أهم المواصفات المطلوبة فى أى قائد داخل صفوف القوات المسلحة، بداية من قائد الفصيلة (أصغر وحدة) إلى القائد العام.
العلاقة بين القائد على أى مستوى ورجاله مختلفة نوعاً ما، عن العلاقة بين المدير ومرءوسيه فى الجهات المدنية.
المدير الناجح يشحذ طاقات مرءوسيه فقط لتحقيق المستهدف فى إنجازه ويتعامل معهم فى قطاعات الدولة وفق اللوائح.
بينما القائد المظفر يستنهض همم رجاله ويرفع معنوياتهم لإحراز النصر فى القتال، أو لإهداء أرواحهم فداء للوطن غير هيابين ولا مترددين.
< < <
إذا كنا نتحدث عن الفروق بين القوات المسلحة وجهات الدولة المدنية، فهى عديدة ومتشعبة، وأهمها وفق ما عشت وشاهدت وعاينت ورأيت رأى العين خلال السنوات الثلاثين الماضية، هو تقليد التسليم والتسلم من القائد السابق إلى القائد الجديد فالأول يقدم للثانى الخطط والأوراق ليستكمل تنفيذها، والثانى يجلس إليه ينصت ويستمع حتى لا يبدأ عمله من المربع رقم صفر، أو يعيد إنتاج ما سبقه غيره إلى انتاجه.
بينما فى معظم الأحوال يخرج المسئول فى القطاع المدنى من منصبه دون أن يلتقى خلفه، ويحتار المسئول الجديد فى مهامه ويتوه فى أضابير الملفات والأوراق، وتكون مهمته هى الطعن فى سابقه بينما مهمة المسئول القديم هى الإقلال من شأن وقدرات خلفه.
وإذا قدر لك أن تتابع مثلا الاحتفال بيوم التفوق فى الجيش الثاني، فسوف تجد الفريق عبدالمنعم خليل،  قائد الجيش الثانى فى النصف الثانى من حرب أكتوبر فى الصف الأول وبجانبه القادة الكبار الذين تولوا قيادة الجيش فى العقود التالية.
أما عن المثل والقدوة، فكثيرا ما رأيت قادة للجيوش والمناطق يتصدرون طوابير الصباح أو طوابير اختراق الضاحية وهم تخطوا سن الخمسين، ويتقدمون أبناءهم من شباب الضباط والمجندين، يقدمون لهم القدوة.
وذات يوم.. صدر قرار بأن يؤدى شباب ضباط قفزة ثقة وهى تلك التى يؤديها المتقدمون للكليات العسكرية من المنط إلى حمام السباحة للتيقن من ثبات أعصابه وثقته بنفسه، ووجد بعض الضباط فى هذا نوعا من الإقلال من شأنه دونما تذمر أو رفض لتنفيذ الأمر، وفجأة وجدوا قائدهم الأكبر الجنرال القديم يصعد إلى المنط بملابسه ويقفز إلى قلب حمام السباحة ويخرج دون أن يتبادل كلمة مع أحد، وهكذا ضرب لهم المثل وتباروا فى السباق للصعود وأداء القفزة..!
وإذا كانت القوات المسلحة يشار إليها بالبنان على مكافحتها للبيروقراطية، فإنها أيضا- ولعل الكثيرين لا يعلمون -  نموذج فى محاربة الفساد.
 ولقد عاينت على مدار سنوات طويلة مضت وحتى هذه الأيام، حالات عديدة للتصدى لوقائع فساد ومعاقبة الفاسدين عقابا رادعا لن تجده خارج هذه المؤسسة العريقة. فسيف الجيش مشهر وبتار فى مواجهة أى حالة فساد أو استغلال نفوذ مهما كانت صغيرة أو محدودة.
< < <
على أن ثمة انطباعات لا صلة لها بالواقع أو الحقيقة، تسود لدى بعض العموم، وأحيانا لدى بعض النخب، إزاء منهجية القرار فى العسكرية المصرية.
هناك من يتصور أو يحاول أن يصور أن القرار فى المؤسسة العسكرية هو الترجمة الدقيقة لكلمة «ديكتاتورية».
واقع الأمر، وبرغم أن المؤسسات العسكرية ليست بالقطع جزءا من المنظومة الديمقراطية، فإن العسكرية المصرية تقدم عبر عملية صنع واتخاذ القرار بها نموذجا لما يمكن وصفه بديمقراطية صنع القرار وديكتاتورية اتخاذ القرار.
قبل أى مهمة، يجلس القائد العسكرى، على أى مستوى، مع مساعديه، يستمع إلى رأى كل منهم فى تخصصه، ويناقش معاونيه فى البدائل التى يعرضونها عليه للقرار أو السيناريوهات التى يطرحونها، ثم يختار هو شخصيا البديل الذى يراه الأنسب ويكون هو قراره، ويصبح لزاما على الجميع تنفيذه كل فى مجاله.
ولا نجد أبدا قائدا لا يحترم التخصص وهو يستعرض الخطة المطروحة أو السيناريو المعروض، فعلى مستوى المنطقة أو الجيش الميداني، يستمع القائد إلى مسئول المخابرات الحربية والاستطلاع، ورئيس شعبة المهندسين، ورئيس شعبة الإشارة، وباقى الرؤساء والقادة فى تخصصاتهم، دون أن يتجاوز عن خبراتهم، ودون أن ينوب عنهم فيما لا يفقه فيه بقدرهم، أو فيما لا يعرف عنه مثلهم.
ولعلنا نرى فى مواقع أخرى أزمات وكوارث تحدث بسبب إهدار قيمة التخصص، وعدم احترام خبرات الآخرين فى مجالهم ونطاق عملهم.
< < <
أمر آخر يصطنع للانتقاص من قدر المؤسسة العسكرية، والإقلال من شأنها، هو الإيحاء بأن المناصب فى العسكرية المصرية شبه أبدية على مدار سنوات طويلة وأن تداول المسئولية والسلطة أمر غير معروف فى الجيش المصرى، ويستند من يدعون هذا إلى بقاء المشير عبدالحكيم عامر قرابة 15 عاما فى موقعه قائداً عاماً للقوات المسلحة أثناء حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وبقاء المشير حسين طنطاوى ما يزيد على 20 عاماً فى منصبه قائداً عاماً أثناء حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك وما بعده وحتى توسد مرسى السلطة فى مخدع نظام الإخوان.
لا يحتاج الأمر سوى لمراجعة تواريخ والرجوع إلى صحف ولا أقول وثائق لتبين صحة ما أقول ودحض هذا الإدعاء.
على سبيل المثال خلال السنوات العشر الأخيرة تعاقب على منصب القائد العام للقوات المسلحة 4 من القادة العظام، وعلى منصب رئيس الأركان 4 من كبار القادة.
فى نفس الفترة تعاقب على منصب قائد الجيش الثانى الميدانى وهو أهم التشكيلات التعبوية فى القوات المسلحة المصرية 8 من القادة، وفى آخر ثلاثين عاما، تولى هذا المنصب 17 من القادة البارزين.
وخلال العقد الأخير تولى منصب قائد الجيش الثالث 6 من القادة، ونفس العدد فى نفس الفترة بالنسبة لمنصب قائد المنطقة المركزية العسكرية، أى متوسط بقاء القائد فى الجيش أو المنطقة العسكرية يقل عن عامين، وهى مدة محدودة، تكشف عن حيوية التغيير فى صفوف المناصب الرئيسية، وتجديد الدماء بصورة منتظمة، بما يحقق تواصل الخبرات، وضمان تنشيط الفكر والرؤى فى قيادة هذه المواقع الحيوية.
< < <
وربما كان البعض يتساءل فى أعقاب تولى الرئيس السيسى منصبه، عن سر إسناده الإشراف على تنفيذ المشروعات القومية والكبرى إلى القوات المسلحة، غير أن الرئيس نفسه بعد مرور وقت وجيز أوضح أن السبب بوضوح هو ثلاثية الأسرع فى التنفيذ، الأعلى فى الجودة، الأقل فى التكلفة، التى تحرص جهات القوات المسلحة المعنية على الالتزام بها، انعكاساً لتمسكها بالتخطيط المتكامل وعدم إغفال أى تفاصيل قبل الشروع فى أى مشروع، والانضباط التام فى التنفيذ والمتابعة والتدقيق قبل الاستلام، بجانب وضع منظومة تضمن كفاءة الرقابة على الإسناد والتمويل والإنفاق.
ولعل تلك الثلاثية هى التى أدت إلى تحقيق أرقام قياسية فى إنشاء المشروعات وتسليمها بأعلى جودة، وإنجاز أعمال هائلة فى مجالات عديدة خلال 6 سنوات ما كان يمكن أن تتم قبل مضى 20 عاماً على الأقل.
لذا لا ينبغى أن يستغرب أحد أن تشرف القوات المسلحة ممثلة فى الهيئة الهندسية وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية على آلاف من المشروعات أنشأتها أكثر من 2500 شركة عامة وخاصة، ونفذها نحو 5 ملايين من العمال والفنيين والمهندسين، فى غضون 75 شهراً فقط لا غير.
< < <
إذا أردت أن تعرف سر بقاء مصر فى هذه الحدود التى لم تتغير منذ آلاف السنين، فتش عن العسكرية المصرية.
وإذا أردت أن تفهم لماذا المصريون هم خير أجناد الأرض مثلما وصفهم خير خلق الله، اقرأ تاريخ العسكرية المصرية.
وإذا أردت أن تعلم لماذا لن يعود الإخوان إلى الحكم، طالع فى التعديلات الدستورية الأخيرة، المهمة الجديدة للعسكرية المصرية..!

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة