طه حسين
طه حسين


في ذكرى رحيله.. «طه حسين» حضور طاغ ومتجدد

بوابة أخبار اليوم

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020 - 10:48 ص

حسن حافظ
إذا بحثت عن قائمة بالشخصيات الأكثر تأثيرا فى  حياة المصريين على مدار القرن العشرين على مختلف المستويات، ستختار عدة أسماء سيكون من ضمنها اسم طه حسين لا محالة، فالرجل الذي حفر فى وجدان المصريين عميقا ترك بصمات لا تمحى، جعلته الشخصية الأكثر تعبيرا عن مغامرة العقل المصري فى القرن المنصرم، فكان وبحق المثل الأبرز للمثقف المصري فى العصر الحديث، والشخصية التي عبرت عن أفكار وهواجس وآمال المصريين، فلم يعد اسمه حكرا على المتعلمين أو المثقفين بل إن شهرته شغلت الناس من مختلف الطبقات، فتأثيره التنويري ورسالته كانت أكبر من أي قيود.


لا يحتاج الاحتفال بطه حسين أي تقديم، فهو يستحق منا الحديث مرة ومرات، فكل قيمة حاول أن يغرسها العميد فى المجتمع المصري تستحق الاحتفاء والحديث عنها، فحياته كانت معجزة بكل المقاييس، وما حققه يصل إلى حد الإعجاز، وأفكاره لا تزال تحتفظ بجدتها وتستحق إعادة الطرح والنقاش من حولها، وحملاته لنشر الثقافة وتكوين المواطن المشتبك مع قضايا عصره، ضرورية فى زمن ثورة التكنولوجيا والإنترنت، لذا سيظل للشيخ طه أو الدكتور طه حسين أو ابن القرية المصرية والأزهر الشريف وجامعة القاهرة والسوربون، حضوره الطاغي والمتجدد على الدوام، كحالة مصرية شديدة الخصوصية لم تتخل يوما عن أصولها أو دينها ولم تتنكر للعصر وأدواته.

فى 28 أكتوبر 1973م وبعد 22 يوماً من العبور العظيم وتحقيق ملحمة الجندي المصري وبدء تحرير الأرض المصرية، رحل طه حسين، إذ أبى الجسد أن يُسلم الروح، والعقل أن يستريح إلا بعد الاطمئنان على خروج مصر وشعبها من انكسار الهزيمة إلى رحابة النصر، من طريق يبعد العقل فقاد إلى الهزيمة، إلى طريق آخر يؤمن بالعقل والتخطيط فقاد إلى العبور، كان التخطيط لحرب أكتوبر باستخدام العقول والعلم التلخيص العملي لأفكار طه حسين التي نادى بها لأكثر من خمسين عاما.

فى ذكرى رحيل العميد مبدع «المعذبون فى الأرض» و«شجرة البؤس» وغيرهما من الأعمال الأدبية الخالدة يعاد الحديث عن ميراث الرجل الذي ضرب بأسهم وافرة فى مختلف مناحي الثقافة والتعليم، إذ يستحق مشروعه البحث فيه واستكمال ما بدأه فى العديد من المناحي، فقد حمل على عاتقه رحلة إيقاظ العقول ونشر النور فى لحظات فاصلة فى تاريخ مصر، متحديا خفافيش الظلام، الذين يحاولون منذ عقود جر البلاد والعباد مجدداً إلى حياة البداوة ومخاصمة العقل، فالعميد طوَّر عقلانية تحترم التراث والدين وتبجله لكنها تطالب بتغيير فهمنا لا أن تغير الدين نفسه كما اعتقد البعض خطأ.

فى التعليم، كان طه حسين صاحب شعار «التعليم كالماء والهواء» ورأى أن مجانية التعليم ليست ترفا يحتكره الأغنياء فقط، وفى الثقافة لم ير أن التعليم غرضه تخريج مجموعة من الموظفين، بل رأى أن مهمة التعليم الأساسية هي إعداد المواطن المثقف المشتبك مع قضايا عصره وزمنه، وفى التراث دعا لإعمال العقل مع احترام المقدس فتعرض لهجوم غوغاء المتعصبين، وفي السياسة كان من دعاة الليبرالية والديمقراطية.

كان طه حسين مزيجا فريدا ونسيجا وحيدا، فكان شعلة تضيء كل ما حولها، وهى قيم مازلنا فى حاجة إليها، فخطابه كله يعانق المستقبل ويحلق فى آفاقه، وعن دور العميد فى تاريخ مصر واستعادة خطابه لتحقيق نهضة فكرية جديدة، يقول الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة سابقا، إن «مكانة العميد محفوظة فى قلوب الناس وعقولهم، فهو بتأثيره وصل إلى جميع الطبقات بما فى ذلك طبقات غير المتعلمين، ولم تعد ذكراه حكرا على المثقفين والأكاديميين، وهو ما ينسجم مع دعوة طه حسين لتعميم الثقافة وليس التعليم فقط، ففى كتابه الشهير (مستقبل الثقافة فى مصر)، وضع برنامجه لخلق الإنسان المثقف والمشتبك مع قضايا عصره بمختلف الأدوات، ولم يكتفِ بعملية التعليم الأولية، فالتعليم عنده عملية تثقيف فى المقام الأول».

وتابع عفيفى لـ «آخر ساعة»: «قلما تجد مجالا لم يترك فيه طه حسين أثرا، فقد كان يخترق المجالات الفكرية والأدبية كافة من أجل شق الطريق لتلاميذه من بعده، فقد كان من المؤمنين بالقوة الناعمة للثقافة وقدرتها على تغيير المجتمع بشكل كامل للأفضل، لذا نجد أن قضايا حرية الرأي ومركزية حرية التعبير، ومناقشة التراث عقلانيا، كلها قضايا ناقشها طه حسين بشفافية ووضوح ووضع أفكاره لمعالجتها، وهى أفكار تحتفظ بكل جديتها وجدتها ما يمكِّن من استعادتها مجددا، خصوصا أن هناك الكثير من القضايا التي لاتزال تحتاج إلى حلول العميد وأفكاره النيرة، خصوصا فى ملف عقلنة التراث، بل إنه لو كان حيا فى يومنا هذا لغيّر شعاره الشهير (التعليم كالماء والهواء) لـ (الإنترنت كالماء والهواء)، لأنه كان من المؤمنين بمواكبة لغة كل عصر، وهذا من دروسه الأساسية والمهمة».

بدوره قال لنا الدكتور كمال مغيث، الخبير التربوي والباحث فى المركز القومي للبحوث التربوية: «إن طه حسين هو شمس الفكر العربي التي لم نقتبس منها إلى أقل القليل، ولايزال تنتظر أفكاره الكثير من إعادة الاكتشاف»، لافتا إلى أن ظهور طه حسين على الساحة المصرية جاء فى وقت حدثت تراكمية معيّنة بعد فشل تجارب محمد على باشا والخديوي إسماعيل، ثم تجربة الاحتلال البريطاني، لذا تربى العميد على قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وتابع: «لعب طه حسين دوره عبر برنامج متكامل يضرب فى جميع مناحي الثقافة، فلا يوجد مجال من مجالات الفكر والتقدم والحرية لم يسهم فيه بنصيب وافر، سواء بكتابة الكتب أو الرسائل العلمية أو المقالات والخطب».

وأشار مغيث إلى أن طه حسين صاحب الفضل الأول فى ربط التعليم التقليدي بالتعليم الحديث، واستطاع أن يضرب المثل فى رحلته العلمية المظفرة التي جعلته يقف على قمة التعليم الأزهري والتعليم فى الجامعة المصرية وكذلك التعليم الفرنسي، وذهب كمال مغيث إلى أن العميد قدم رؤية شديدة العمق وسبّاقة فى معالجة التطرف وتفنيد دعاوى الإسلام السياسي فى كتابه الرائد «الفتنة الكبرى»، وتابع: «نستطيع القول إن هناك قضيتين شُغل بهما طه حسين، وهما العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحرية العقلية، وعند مناقشته للعدالة الاجتماعية ينطلق من التراث العربي لأن قيم العدالة موجودة فى تراثنا، ولا يشير من بعيد أو قريب إلى أي نظرية غربية، لأنه مقتنع أن العدالة الاجتماعية تخرج من المجتمع نفسه وتعبر عنه، أما فى قضية الديمقراطية، فقد كان ينطلق من خلال عرض لنماذج غربية لعدم وجود نماذج تراثية يمكن الاستفادة منها والاستناد عليها».

ولفت الخبير التربوي إلى ملمح مهم فى فكر طه حسين، وهو تركيزه على التعليم كطريق أساسي للتقدم الاجتماعي، الأمــــــر الذي جعله يضع مسألة مجانية التعليم فى قلب مشروعه النهضوي، ويتمسك بها حتى النهاية، وكان غرضه فى ذلك هو تخريج الإنسان القادر على التعامل مع قضايا العصر، وهو أمر يكشف عن تبصُّر العميد لأن قضية التعليم كمنتج لشخص قادر على التعامل مع تطورات العصر هى جوهر العملية التعليمية فى العالم حاليا.

وحول مسار طه حسين الفكري واشتباكه مع خصومه الفكريين، يقول الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث المعاصر بجامعة حلوان، لـ «آخر ساعة»: «طه حسين كان الرائد الأكبر للعقلانية فى مصر والعالم العربي، لذا طرح الكثير من الأفكار المتقدمة جدا، التي كان من الطبيعي أن تثير الكثير من الجدل حوله، خاصة أن أفكار كتابه «فى الشعر الجاهلي» كانت مختلفة وصادمة بالنسبة للمؤسسة الدينية التي لم تكن تعرف ما نتج عن أحدث المناهج العلمية الغربية، وكانت جرأة طه حسين فى تناول هذا الموضوع بهذه المناهج كبيرة، لكن بعد انتهاء الأزمة، ترسخت الدراسات العقلانية المستندة إلى مناهج علمية فى العالم العربي كله فى أكبر انتصار لطه حسين وفكره».
 ولفت الدسوقي إلى أن طه حسين اصطدم بتيار العروبة عندما تحدث عن انتماء مصر لحضارة البحر المتوسط، وهو أمر يحسب له لأنه لم يترك عقله خلف التيار الغالب ولم يخش رأى الأغلبية وطرح رأيه فى جرأة ووضوح، استدعى الرد عليه بشكل علمي.

وشدد الدسوقي على أن أهمية طه حسين يمكن تلخيصها فى كلمة واحدة وهى «المحفز»، أي على قدرته على تحريك المياه الراكدة وضخ مياه جديدة فى مجرى الحياة الفكرية والثقافية، فالحياة الثقافية فى مصر قبله لا يمكن مقارنتها بوضعها بعد معارك طه حسين.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة