الكاتب الفرنسى  ميشيل ويلبك
الكاتب الفرنسى ميشيل ويلبك


هل تتحقق نبوءة ميشيل ويلبك؟ .. أزمة الإسلام فى أوروبا

أخبار الأدب

الأحد، 01 نوفمبر 2020 - 09:52 ص

أحمد عبد اللطيف


  فى عام 2015، أصدر الكاتب الفرنسى الشهير ميشيل ويلبك رواية ديستوبية عن مستقبل فرنسا عنوانها «استسلام». يتخيل فيها ويلبك أنه فى عام 2022 سيصل لسدة الحكم رجل عربى مسلم اسمه محمد بن عباس.


 تقوم الرواية بالأساس على تخيل القوة التى سيتمتع بها المسلمون فى فرنسا حد أنهم، للمرة الأولى، سيصلون للحكم. ثمة دلالة أولى فى العنوان، أن استسلام يعنى إسلام، فالإسلام بالمعنى الإبتيمولوجى هو الاستسلام التام لمشيئة الله وقضائه وقدره، ما يعنى أن الرواية عنوانها «إسلام». والحقيقة أن العنوان كاشف للمحتوى: يضع ويلبك إصبعه فى الجرح الفرنسى المسكوت عنه، بحسب ما يرى، متبنيًا فى ذلك صورة الرائى الذى يكشف أزمات مجتمعه، لكنه إذ يفعل يتبنى وجهة النظر اليمينية التى تثير الخوف من المسلمين أكثر منه يتناول قضايا المهاجرين. ويلبك يكتب روايته من منطلق الرجل الفرنسى الأبيض الذى وجد نفسه فجأة محاطًا بمهاجرين مسلمين فأثاروا رعبه، وتخيل شكل الحياة الفرنسية لو وصل أحدهم إلى السلطة. الرواية، بهذا البعد السياسي، أثارت انتباه رئيس الوزراء الفرنسى الذى تحدث عنها كأنها مسألة تخص الدولة.

كما أنها تحولت لرواية بست سيلر بمجرد صدورها وتُرجمت إلى عدة لغات أوروبية، إذ تناولت سؤالين جوهريين: الغرب اليهودي/المسيحى فى حالة تراجع، والبرابرة المسلمون يسيطرون على الحكم. فى تطور الحبكة، نرى فرنسا على حافة حرب أهلية، ليأتى الفوز الانتخابى فى النهاية لصالح محمد بن عباس، مرشح «الإخوة المسلمة» المتخيلة، ومن ثم تحول فرنسا لدولة إسلامية. مع ذلك، كما يقول جونثالو جارثيس فى جريدة الباييس: «الرواية بعيدة عن تناول الحدث باعتباره كارثة، بالعكس، بالنسبة للبطل، وهو بروفيسور منعزل متخصص فى أعمال الروائى مارى جورج هوسمانز، فأهم شيء هو العثور على عقيدة ما»، فلو لم تكن قادرًا أن تعتنق المسيحية، فلماذا لا تعتنق ديانة أخرى؟ فى مقابل هذا البطل، ثمة بطل آخر هو فرانسوا، ويعتقد أنه ما من تناقض بين العلم والدين الإسلامي، ويعتقد أن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يقبل العالم كما هو.


بين ويلبك وماكرون


     لا تنفصل رواية ويلبك عن خطاب الرئيس ماكرون، ولا ينفصل الاثنان عن عدد هائل من الدراسات والأبحاث والكتب التى تصدر سنويًا فى أوروبا ويتناولها الأكاديميون فى الجامعات لتناول أزمة المهاجرين المسلمين وبرامج إدماجهم فى المجتمع الأوروبي، وتقديم وجهتى نظر مختلفتين للعالم: المسلم العربى والمسيحى الأوروبي. عالمان من الصعب مبدئيًا لقاؤهما، لو نظر كل منهما للآخر على أساس ديني، ومن الممكن التقارب بينهما لو تبادلا النظر كمتوسطيين يجمعهما ثقافة البحر المتوسط، التى تناولها طه حسين باستفاضة ووضوح فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر».


     على أرض الواقع، ثمة مشكلة فى العقلية الأوروبية فيما يخص المهاجر المسلم، تتجلى أولًا فى أن لفظة «مهاجر» التى تطلق عادة على المهاجر العربي/المسلم، فيما لا تستخدم مع المهاجر الصينى مثلًا. وفى مقال لها، ترى الفيلسوفة الإسبانية أديلا كورتينا، أنها تُستخدم بالتحديد لتوصيف المهاجرين المسلمين الفقراء، فلا تتسع لتشمل أثرياء الخليج الذين يقيمون فى مدينة «ماربييا» الإسبانية. من هنا صكت كورتينا مصطلح «أبوروفوبيا» لتجسيد الأزمة، وهو مصطلح يعنى «الخوف من الفقراء»، بالطبع أخف من «الإسلاموفوبيا»، إذ يبدو أن الخوف ليس من الإسلام، وإنما من الفقر، ما يدل عليه الترحيب بالعرب المسلمين الأثرياء. مقترح كورتينا واقعي، فالمهاجر الصينى لديه استثماراته الصغيرة والكبيرة فى المدن الأوروبية، يصل إليها بطريق شرعى من خلال مطاراتها، يسدد ضرائبه ويحترم قوانين البلد، فى مقابل المهاجر المسلم، سواء كان من شمال أفريقيا (مصريون، جزائريون، مغربيون) أو من أفريقيا السمراء (السغال ونيجيريا بالتحديد)، إذ يصلون فى مراكب ويخاطرون بحيواتهم، وعلى استعداد تام للتضحية بأى شيء من أجل الوصول للفردوس الأوروبي. الكثير من هؤلاء، لأسباب تخص ظروفهم الحياتية والتعليم، لا يجيدون لغة البلد الهدف، ولا يتمتعون بأوراق تسمح لهم بممارسة مهنهم والتطور فى المجتمع، فلا يجدون أمامهم إلا «العمل الأسود» والمقصود به الشغل من الباطن، أو التسول. فى الحالة الأولى يتعرضون إلى الاضطهاد وأحيانًا النصب، ولا يتقاضون حقوقهم لأنه ما من منظمة تدافع عنهم لأنهم بالنسبة للدولة الأوروبية غير موجودين من الأساس. هنا تكتمل الصورة الأولى: المهاجر الفقير، المطارد، المخالف للقانون «غير الشرعي، الـ بلا أوراق»، وفوق كل ذلك هو مهاجر مسلم. يرى اليسار الأوروبى فى مجمله أنه «ليس هناك إنسان غير شرعي»، ويرفض هذا اليسار العنف الذى تواجه به مراكب المهاجرين فى البحر المتوسط من قوات حراس الحدود البحرية الأوروبية، ويطالبون على الدوام بقبول هذا المهاجر ومنحه كل الحقوق كإنسان. لكن اليسار فى وجهته هذه يبدو مثاليًا، كمن ينادى فى مالطا. فبرامج الاندماج الأوروبية مخصصة للمهاجرين «الشرعيين» وأبنائهم، والحق أنها مجرد تسويد أوراق أكثر منها برامج فاعلة.


أزمات الهوية
     ربما فى عام 2016، وفى إحدى المدن الألمانية، قال الفاعل الأساسى فى إحدى الحوادث الإرهابية فيما يفجّر مكانًا للتجمعات «أنا ألماني»، وكررها عدة مرات قبل أن يتفجر هو نفسه. بحسب التحقيقات، كان الولد ألمانيًا من أصول باكستانية. هو الجيل الثانى من المهاجرين، ولد فى ألمانيا وتربى فى مدارسها وجامعاتها، فما الذى دفعه لعمل إرهابي؟ لا يمكن قراءة العبارة بعيدًا عن أزمة الهوية، فـ «أنا ألماني» رسالة لكل زملاء المدرسة والجامعة، لكل الجيران والمجاروين فى المواصلات العامة، مفادها أن شكلى باكستانى لكنى ألماني. هذه الأزمة متكررة فى معظم حالات الجيل الثانى من المهاجرين، هؤلاء الأبناء الذين لا يعرفون شيئًا عن وطن آبائهم، ولا يقبلهم أبناء الوطن الجديد، رغم أنهم يتحدثون اللغة ويتلقون نفس التعليم، لكنهم يظلون مسلمين بالنسبة للمواطن الأوروبي. وتظل الأولوية دائمًا للأوروبى من أصول أوروبية خاصة فى فرص العمل، يتضح ذلك فى دولة مثل فرنسا أكثر من دول أوروبية أخرى.
     وإذا كانت برامج الاندماج الأوروبية قد فشلت فى استيعاب المسلمين، رغم أن الإسلام هو الدين الثانى فى أوروبا ويمثله ملايين المواطنين، فالذنب لا يقع وحده على الحكومات الأوروبية، ثمة «جيتو» إسلامى يقاوم الاندماج، ويرى أن فى الاندماج تضييع للهوية الإسلامية. هذا الجيتو تقوده جماعات إسلامية ممولة تسعى لفرض القيم الإسلامية على المجتمع الأوروبي، ليس ليقبلها المجتمع الجديد، وإنما ليتبناها. بعض مسلمى أوروبا تنحصر حياتهم فى البيت والجامع والعمل، ولا يشاركون بأى شكل فى أى أنشطة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، ويعتبرون حتى الانتخابات الرئاسية مسألة تخص الفرنسيين أو الإسبان أو الألمان، بحسب بلدانهم، ويصبون جل اهتمامهم على المسجد وكيفية تحويل الأوروبى المسيحى إلى أوروبى مسلم صالح، حتى المنظمات الإسلامية المسجلة والتابعة للقانون باعتبارها ممثلة للمسلمين لا تسمع لها صوتًا إلا عند حدوث حادثة إرهابية فيصدرون البيانات للتبرؤ منها ونشر المقولة الإكليشيهية بأن الإسلام دين السلام. بهذا اقتصرت هذه المنظمات، ويرأسها مسلمون عرب، على خطاب بارد، بدون أن يبنوا جسورًا من التواصل الإنسانى والثقافى والدينى مع البلد الذى يعيشون فيه ويتنعمون فى ديمقراطيته. لقد فشلت كذلك المراكز الثقافية العربية، التى تمثل حكومات دول عربية فى أوروبا، فى مد هذه الجسور وخلق تقارب بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الأوروبية، واقتصروا فى دورهم بعشاء بروتوكولى دون أن يتركوا أى أثر فى المواطن الغربي، ولا نقلوا له صورة جيدة وحقيقية عن الإسلام والمسلمين، ولا نظموا مؤتمرات وندوات وورش عمل مخصصة للعرب عن قوانين البلد الأوروبى ودستوره وكيفية التعامل فيه وعاداته وتقاليده، كل ذلك من أجل خلق خطاب ثقافى يبنى جسور المحبة والاحترام بين الثقافات بديلًا لخطاب الكراهية والنفور.


قمة جبل الجليد
الأزمة الأخيرة بين فرنسا والعالم الإسلامي، المثارة على خلفية الرسوم المسيئة للنبى محمد (ص) وذبح مدرس التاريخ على يد صبى إرهابى منح لنفسه حق القتل، وما تبع ذلك من خطاب ماكرون، المُساء تفسيره من قبل جماعات ترمى مزيدًا من الحطب فى النار، ليست إلا قمة جبل الجليد، وتنذر بمزيد من الأزمات والتعقيدات فى السنوات المقبلة. نحن أمام مواطن مسلم عبّر عن غضبه بالذبح، مخالفًا القانون الذى منح له حق اللجوء للقضاء، ثانيًا اختار أسوأ طريقة للدفاع عن الإسلام، مقدمًا لليمين المتطرف دليلًا لا يدحض عن المسلم العنيف أو الإرهابى الذى يغضب فيقتل.نحن أمام أزمة ثنائية: مسلم لا يستوعب المجتمع الجديد الذى يعيش فيه وربما تعلم وولد فيه، ومجتمع مسؤول عن إقصائه وتهميشه. هذه الأزمة ستتكاثر ما لم تعمل الحكومات الأوروبية على حلها، بمزيد من احترام عقائد المهاجرين العرب والمسلمين، والتفعيل الحقيقى لبرامج الاندماج، واتاحة الفرص للجميع بالتساوي. وفى نفس الوقت، تعمل الحكومات العربية وممثلوها فى الدول الأوروبية على توعية المهاجر بحقوقه وواجباته، ومنحه الحماية القانونية التى يحتاج إليها، ودفعه للتعايش مع أبناء الدولة التى جاءها مختارًا، والخروج من جيتوهات مسلمة يُساء فهمها من ناحية، ولا تؤدى إلا إلى مزيد من العزلة من ناحية أخرى. وقبل أى شيء، إدراك المهاجر نفسه أنه فى وطن يحتكم للقانون، وأن هذا البلد هو من اختاره بنفسه وهاجر إليه، وعليه، كأبسط شروط المنطق، أن يفهم قوانينه ويطالب بحقوقه بالطرق السلمية.


     وأخيرًا، فخطاب ماكرون ينقصه الكثير من الذكاء، لكنه فى الوقت نفسه لم يتحدث بسوء عن «المسلمين» وإنما أشار إلى «الإسلامويين»، والفارق واضح بينهما، إذ قلقه الحقيقى من التيار الإسلاموى الذى يخلط السياسة بالدين، والذى يدعو للعيش على أرض فرنسية لكن باحتقار للحياة الفرنسية والدستور الفرنسي. وهو نفسه قلق ميشيل ويلبك الذى عكسه فى رواية «استسلام». «أزمة ماكرون» أنه، مثل الإسلامويين، نظر بعين واحدة إلى الواقع، وهى عين المواطن الفرنسى الأبيض، فى حين كان يمكن أن يطرح، فى نفس الخطاب، مقترحات بحل أزمة المهاجرين. وإذا سلّمنا بأن المسلمين فى أوروبا فى أزمة، فلا يمكن تجاهل أن أوروبا أيضًا فى أزمة أمام ملف المهاجرين، وأن نبرة الاستعمارى العنصرى لا تزال مبطنة سواء فى خطاب السلطة أو فى خطاب المواطن الأوروبي، ولعل سببها أن فرنسا لم تعتذر عن سنوات استعمارها لشمال أفريقيا، ورغم رمزية الاعتذار إلا أنه سيقيم علاقة متساوية تزيل احتقان الاستعمار ويؤسس لتبادل مصالح بين جنوب المتوسط وشماله.


     ربما خطاب ماكرون أثار العالم الإسلامى أكثر مما أثاره الرسم الكاريكاتيري، ذلك أنه لم يقدم صورة صادقة عن معاناة العرب والمسلمين فى دولة يعانى فيها المهاجرون حتى من حاملى الجنسية الفرنسية، ولعل شهادات المهاجرين أنفسهم، هؤلاء الذين لم يعرفوا وطنًا إلا فرنسا، تعكس مدى شعورهم بالظلم تارة بسبب نظرات بعض الفرنسيين لهم، وتارة لصعوبة حصولهم على أعمال تناسب مؤهلاتهم يكون الأولوية فيها للمواطن الفرنسى الأصلي. ولعل ذلك ما دفع الاتحاد الأوروبي، منذ ما يقرب من عام، ومع أزمة السفينة المحمّلة بمهاجرين أفارقة رفضت إيطاليا استقبالها وبادر رئيس إسبانيا اليسارى بدرو سانتشيث بفتح بلده لهم، أن يدعو لاجتماعات تهدف مناقشة جدية لمسألة المهاجرين. وبعيدًا عن الرسوم وما أثارته، تبقى مسألة حقوق الأجانب فى أوروبا جرحًا مفتوحًا وهوة كبيرة فى شخصية أوروبا الديمقراطية والمتسامحة، بحسب ما تحب أن تقدم نفسها، وهذه الهوة لا يمكن سدها إلا بالاعتراف بحقوق المسلمين كمواطنين فرنسيين، لتكون هذه الخطوة الأولى فى حل الأزمة.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة