يسرى الجندى
يسرى الجندى


يوميات الأخبار

هاملت - شكسبير «٢»

الأخبار

الخميس، 05 نوفمبر 2020 - 07:05 م

كان بوِدّى أن أعطيك طاقة البنفسج ولكنها ذبلت كلها حين توفى أبى؟

 نستكمل نظرتنا إلى الشخصيات فى مسرحية هاملت ونبدأ بالملك، فلسنا نواجه صراحة بطبيعة شريرة، أننا بإزاء طبيعة مستحبّة، ذات خلال أرضية مريحة، بل ثمة نزوع فى هذه الحدود الأرضية إلى الخير، والذى هو نوع من الولاء للواقع بما يبدو عليه مظهره من صلابة ومنطق مُقنع، أنه يبدأ المسرحية بحنو حقيقى على هاملت ورغبة تبدو صادقة فى أن يكون له أباً، أما الملكة فيقول عنها برادلى ((كانت ذات طبيعة شهوانية رخوة، كما أنها كانت غبية جداً وسطحية، وكانت تهوى أن تكون سعيدة، تتلذذ بالشمس كالشاه)) وإنصافاً لها كما يقول ((كان يسرها أن ترى الآخرين سعداء كخراف تستدفئ فى الشمس)).
إنها ليست مُدرِكة لحدود الخير والشر إدراكاً واضحاً، فهى لا ترى ضيراً فى أن تزوجت بعد الملك من أخيه وفى وقت مبكر، بل ما يبدو غريباً لها هو شدة حزن هاملت، واستمرار هذا الحزن.
إنها شريكة بشكل عام ثم هى تنال نصيباً من العذاب ثم هى تموت، وكل ذلك فى إطار نفس الغموض، وإذ نأتى لأوفيليا، البعض يتساءل فى ريبة لماذا وقفت موقفها هذا من هاملت؟ لماذا وافقت أباها على صده، ولماذا تجسست عليه لصالح أبيها والملك، ثم لماذا كذبت عليه؟ وبرادلى يُدافع عنها إذ يرى أن خضوعها لأبيها وأخيها وهى فى حالة قريبة من الطفولة، وفى عصر يؤكد مثل هذا الخضوع - هو سبب ذلك.
إن مشاركتها فى الشر على هذا النحو قائمة، فبقولها نعم شاركت فى الشر ولكنها مشاركة ضئيلة ونصيبها منه فادح. وهى بنعم المرفوضة.. ومشاركتها فى الشر تكشف بشكل أساسى فى المسرحية كلها عن عماء الشىء فى حركته.
ونأتى لدور الشِعر.. إن دور شكسبير فى المسرح الشعبى كما أشرنا كان دوراً يتعدّى حدوده ضمن باقى العناصر، ذلك التقاء منه مع مبنى المسرح وطريقة العرض، ودوره فى إستثارة خيال المُتفرّج للتلاؤم مع ذلك -نعنى أن هذا الوضع ساعد على التعرض للشِعر فى مسرح شكسبير.
لاحظ الناقد ((مينا درماك)) أن مسرحية هاملت تظللها حالة من الاستفهام كما أشرنا سابقاً، وعلى هذا فهو يشير إلى أن المسرحية تبدأ بسيل من التساؤل يؤكد هذا مُنذ البداية، ولكنّا نُريد أن نُضيف شيئاً ذلك أنه ليس مجرد تساؤل بل ثمة أساس هام فى هذا التساؤل ذلك أنه يبدأ استفهاماً ثم ينتقل إلى ريبة.
وحين يواجه شبح أبيه، يندفع ليقسم فى نهاية حديث طويل ليأخذن بالثأر، ولكن حتى هُنا فى حديثه الذى هو تحفز لعمل -وهذا هو المفروض - نواجه بدهشة لا تحد - تتخلل هذا التحفز، دهشة تحملها طبيعة اللغة نفسها، أنه يستعجله لينبئه عن حقيقة مقتله، كى ما يطير ((بأجنحة سريعة كخطرات الفكر أو سنحات الآمال الغرامية. ولكنه بعدما يواجه الحقيقة، فنحن بإزاء كلمات عاصفة، ولكن ما بها من حمى ليس مصدره لهيب الإرادة ورغبة الانتقام قدر أنها الدهشة والفزع أمام الذى ((يبتسم ويبتسم ويبتسم.. وهو وغد دنىء)) كما يقول هنا وأمه وقد أصبحت المرأة أفسد ما تكون المرأة.. والرياء الذى لا مثيل له.. أن ما يلفحنا بعد المواجهة ليس لهيب الثأر فى كلماته، وإنما وهج الوعى المدهوش المصدوم، حيث نغادره وذاكرتنا تحمل أصداء دهشة وتساؤل غير محدد قبل أى شيء آخر، وإذ نراه بعد أن استقر التناقض داخله نراه يعنّف نفسه تعنيفاً قاسياً ((.. ويحى من هزأة بليد.. )) ويقارن بين نفسه وبين الممثل الذى يبكى على لا شيء، حيث هو يركن لهذيان حالم وعليه يقع عبء ثقيل. ويزداد تعنيفه فى صور متتابعة عنيفة ((أجبان أنا! من الذى أسمعه يسخر منى ويقول لى يا ضحكة، من ذا الذى اعترضنى الآن فى الطريق فنتف لحيتى ونفخها فى وجهى، من ذا الذى جذبنى من أنفى، من ذا الذى كذبنى فرد أقوالى فى حلقى حتى أعادها إلى صميم رئتى..)) وبالتأكيد لا أحد.. على الأقل فى عالم المسرحية.. يستطيع أن يوحى بقدرته على النيل من هاملت بأى شكل، أننا نعرف كما يعرف هو نفسه، أنه ليس بالجبان ولديه كما يقول الإرادة والقوة والوسيلة ولكن التعنيف على هذا النحو وبتلك الصورة الغريبة والمستحيلة التصور بالنسبة لهاملت.. إنما تعطى إحساساً بتلك الحيرة التى يعبر عنها فيما يتبع ذلك بقوله:
((لستُ أدرى لماذا ما زلت حياً لأقول هذا الأمر يجب فعله)) فالأمر يبدو أبعد من لوم نفسه إنه إحالة حادة إلى حيرته وتعلقه وعمق تناقضه وإبهام هذا التناقض التناقض وتلاحمه.
>>>
ويأتى بعدها حديثه ((أكون أو لا أكون..)) وفى هذا المونولوج يمنحنا شعوراً حياً بالتحرك بين عالمين فى تمزق، فهو ينقل لنا عالم الحياة بوطأته أولاً ثم يسلبه سطوته بمواجهته بحرية الموت.
وعندما ننظر إلى التورية التى يُكثِر هاملت من إستعمالها نجد أنها بهذا المعنى، تحمل إلينا حيرته هو قبل أن تعرض أى حقيقة تقريرية.. فى حديثه مع أوفيليا يسألها ((أأنتِ عفيفة؟)) ((إن كنتِ عفيفة وجميلة فحذار أن يكون لعفافك أدنى صلة بجمالك)).
وثمة محاولات هامة فى هذا المجال أقربها لما نعتقده يبدو عن الناقدة سبيرجن المؤكدة لوجود ظاهرة المرض مُخيمةعلى التراچيديا، ويشير باحث آخر للصورة الشعرية لدى شكسبير - إلى أن المرض والعدوى التى تجعل هذا المرض شاملاً يعبر عنها فى المسرحية بالسم، واللغة زاخرة فعلاً بهذا ((خلاصة الجُذام الذى يخثر الدم اللطيف السليم)).
وتأكيد الإحساس بالخداع والالتباس فيما بين الظاهر والباطن فيشيع فى اللغة باستمرار، ونسمع بالذات من بولونيوس أن ((الملابس كثيراً ما تنبئ عن صاحبها)) وذلك فى حديث يؤكد فيه لابنه بشكل غير مباشر قيمة الزيف فى تيسير الحياة.
>>>
وهاملت يُشير من البداية ((ليست عباءتى الحالكة يا أمى)) والاستعمال الخاص والمتكرر لكلمة يبدو ربما يمكن أن تُثيره من نفس الريبة - فى سياقها - ((وبدا لى كأنه يرى طريقه بدون عينيه)) ((يبدو يا سيدتى.. أنا لا أعرف يبدو)) وهذا قول هاملت ((وبعد ذلك نجمع رأيينا إلى بعضهما البعض، لنحكم على ما يبدو عليه ((ثم نفس الالتباس بالنسبة لكلمتى (أرى ورؤية).. فكما تقول الأم فى حضرة الشبح ((لا أرى شيئاً البتة. وكل ما هنالك أراه)) وغيرها.. ثم بهذا المعنى كلمة تُتخذ ولها أمثلة.
واستطراداً لنفس التأكيد هناك استعمال لغوى يتصل بالرسم واللون ((خد البغى المُجمّل بفن الطلاء.. والذى ليس أقبح عند الشئ الذى يُجمّله من أفعالى عند أكبر كلماتى طلاء)) ((لقد سمعت عن طلائكن أيضاً ما يكفى، لقد وهبكن الله وجهاً وأنتن تجهلن لكنه وجه آخر)) وتلك أقوال هاملت فى مواضع يخيم عليها نفس الاستعمالات اللغوية السابقة مؤكدة هذا المعني.
وأما ما يتصل بالتحول كمظهر للشر فنسمع هاملت أيضاً يتحدث عن العادة ((ذاك الوحش الذى هو العرف يلتهم كل حساسية وهو شيطان العادة..)) ثم حديثه عن هوراشيو المحظوظ ضمن ((من امتزج دمهم برجاحة العقل، امتزاجاً جيداً فلم يعودوا كالناى تحت أصبع القدر يخرج الصوت الذى يُريد)) ثم حديثه عن الفكر الذى ((يكسو العزم الأصيل بصفرة عليلة.. حتى إن المشروعات ذات الوزن والشأن.. ينثنى مجراها معوجاً بسبب ذلك، وبذلك تفقد اسم الفعل)).
حَسبما أشرنا عن كلوديوس فمن الطبيعى أن نسمعه يردد ((ما ينبغى فعله يجب أن نفعله عندما نبغى، لأن نبغى هذه تتغير ويعتورها من النقص والتسويف بقدر ما هنالك من ألسن وأيد وصدف، وعندها تصبح يجب هذه أشبه بآهة المتلاف.. التى تؤلم فى الوقت الذى تُروّح فيه عن النفس)) وبقدر ما يبدو هذا تعبيراً عن كلوديوس وعن موقفه المميز فى إرتباطه بالأرض.. بقدر ما يسهم هذا إسهاماً مُحكماً فى نسيج الرؤيا وقد أشرنا فيما سبق عن إرتباط هذا القول بمحنة هاملت وبأزمة الشر.
ومن الطبيعى كذلك أن نسمع بولونيوس وهو يتحدث عن ((رِداء الشيطان الذى يمكن أن نلبسه إياه ليكسبه حلاوة)) فذلك ما يمكن أن نسمعه منه فعلاً ومنه بالذات حسب طبيعته.
ليس الموت مزيج الشر كما يبدو فى الرحلة الأرضية بل نحن حيال دهشة الوعى الناصع، إن ما تقوله بجنونها العذب الأليم وبوجودها كله.. هو ما قالته أنتيجونا ((إنما خُلقت لأحب)) فى دهشة فقط دون تجاوز أنتيجونا الثورى.. فليس لديها سوى نعم ومن الغريب لها أن يكون هناك ما يحول دون هذا الحب، هى غرابة خالصة فقط، لا ترد إلى نسيج التناقض الذى يعيشه الجميع فهى إذ لا تعرف عطاء عدا الحب، فرغم هذا ولدهشتها بدرجة أدت إلى إنسحابها - لا تجد مُرادفاً له.
إن أوفيليا تمضى وتترك تركة ثقية من الحب، لا تجد أحداً فى الرؤيا بقادر على حملها..
 ((هذا إكليل الجبل ومعناه كفكر..
ثم هذه زهرة الثالوث ومعناها تذكر..
هذه ثمار لك وقليل من كف مريم..
هذه زهرة اللؤلؤ لك
كان بوِدّى أن أعطيك طاقة البنفسج ولكنها ذبلت كلها حين توفى أبى؟
يقولون أنه مات ميتة صالحة.. لأن ذلك الفتى سرور قلبى)).
ولكن هذه التركة تبدو خلفية حتمية للقائنا الأخير مع هاملت عندما يتكشف أمامه التحدى ويواجه الواقع حيث تبدو تشكيلاً هرمونياً مع موقف هاملت الجريح جراحاً نبيلة فى معركة الإنسان كما خاضها وكما كشف عنها فى النهاية حيث هى معركة مقصود بها الإنسان تماماً.. وكما يمتزج نقاؤها الناصع على هذا النحو بالمواجهة الناقصة الحتمية - التحدى - فكذلك تمتزج كلماتها التالية كعزاء بجلال هاملت بعدما أدّى دوره..
((إلى الله أصلّى.. ليكن الله معكم))
وتلك آخر كلماتها للجميع.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة