نوال مصطفى
نوال مصطفى


حبر على ورق

أن ترى الدنيا بقلبك

نوال مصطفى

الأربعاء، 11 نوفمبر 2020 - 08:16 م

 

أجلس فى حالة كونية عميقة، وفلسفية. أحاول التركيز فى كل شئ لأستكشف بحواسى الأخرى (التى ليست من بينها حاسة البصر) ما حولى. تلفنى مشاعر قوية، تهزنى من أعمق أعماقى. أشعر بالقائد الكفيف مميزاً، عارفا، يحاول تهدئة ارتباكى فى بداية الرحلة، بالتأكيد كان معظمنا فى حالة توتر خلال الدقائق الأولى وهو ينتقل فجأة من نور النهار إلى الظلام الحالك الرهيب، قائدنا الكفيف هو الوحيد الذى يرى فى الظلام ويصف لنا بدقة ورفق ما يجب أن نراه بحواسنا الأخرى ويسألنا ما هذا الذى تراه هنا؟ ما الذى تلمسه، ما هو الشئ الذى تشمه الآن؟.
تجربة إنسانية مثيرة، عميقة، مؤثرة، ومحفزة كل هذا تعيشه ويتسرب إلى أعماقك فى آن معا. التجربة تلخصها عبارة واحدة «حوار مع الظلام» أو فى أعماق الظلام. ساعة كاملة تتخلى فيها عن حاسة البصر بمحض إرادتك، تجد نفسك فى نهايتها تلج فضاء آخر، وترى أنوارا أخرى لم نرها من قبل نحن المبصرين ولم نعرفها.
«Dialogue in the Dark» هوالبرنامج الذى تجول فى تسع وثلاثين دولة قبل أن يقام لأول مرة فى مصر تحت رعاية الجمعية الرائدة النور والأمل بالشراكة مع مؤسسة دروسوس للتنمية. الهدف منه هو طرح قضية المكفوفين وإدماجهم فى المجتمع بصورة مختلفة وتناول مبدع خلاق يملك من التأثير ما لا تملكه عشرات المقالات أو البرامج التليفزيونية فى إحداث تغيير حقيقى داخل كل منا فى التعامل مع تلك القضية الإنسانية المشحونة بالشجن والأمل.
ملخص الفكرة هى أن تعيش كفيفا لمدة ساعة من الزمان! بالطبع ليس الأمر بهذا التبسيط، لكنه مشروع إبداعى تم الشغل عليه بإتقان وحرفنة. أنت تدخل إلى مكان لا تعرفه، أهم شئ ألا يكون معك أى مصدر للضوء لا ساعة يد أو نظارة شمسية بها فصوص مضيئة. تدخل إلى الظلام الدامس ضمن مجموعة صغيرة (فقط خمسة أو ستة أفراد بحد أقصى) يقودنا جميعا شخص كفيف(كان معنا فى المجموعة أستاذ عباس المهذب المثقف الضحوك المتفائل) وفى يد كل منا العصا البيضاء التى يستخدمها المكفوفون لمساعدتهم فى تلمس طريقهم بأنفسهم.
الرحلة مدتها ساعة مقسمة إلى أربعة أجزاء: الجزء الأول تمر خلاله على مكان مجهز كحديقة بها أشجار وبحيرة وصوت عصافير ورياح خفيفة، ثم تدخل إلى المكان الثانى لتكتشف أنه محلات وبازارات وتمثال لرجل يحمل نظارة على عينيه تستنتج أنه الدكتور طه حسين، بعدها تدخل إلى سوق الخضار وتلمس بيديك البطاطس والقلقاس والباذنجان والبطاطا. وعلى الجانب الآخر تمسك حبات الفاصوليا البيضاء والفول وحبات القرنفل. فى المرحلة الأخيرة تصل إلى الكافيتريا التى يستقبلك فيها اثنان من المكفوفين شاب وفتاة ويسألونك ماذا تريد أن تشرب؟ ثم يأخذك قائد المجموعة الكفيف ويجلسك فى مكان تنتظر فيه مشروبك بعد الانتهاء من إعداده.
تجلس لأول مرة فى الظلام لا تزال بعد مرورك بكل المراحل السابقة وتسأل نفسك كيف سيأتون بالمشروبات؟ كيف سيضعونها أمام كل منا؟ وأين يجلس زملاؤنا الآخرون فى تلك الرحلة الغرائبية؟ نسألهم فترد علينا أستاذة نادية قائلة نحن نجلس فى مواجهة بعضنا البعض. أمامنا ترابيزات منخفضة، يأتى الشاب اللطيف حاملا لكل مشروبه، ينادى علينا بالاسم ويخبط خبطتين أمام الشخص الذى جاء إليه بالمشروب حتى يعرف مكان مشروبه.
هؤلاء المكفوفون الذين نتعامل معهم بشفقة فى معظم الأحوال هم ناس أقوياء لا يشعرون بمحنتهم، نحن نشعر بها. لقد قهروا الظلام بباقى الحواس، وتفوقوا علينا نحن المبصرين، ولنا فى العبقرية المصرية المتمثلة فى الدكتور طه حسين أسوة حسنة. إنها تجربة تملؤك بالشجن والامتنان لله على نعمة البصر والنعم الأخرى، الإبحار فى فضاءات أخرى من الإدراك والمعرفة.
مقر المشروع الدائم فى مدينة نصر حى السفارات، مفتوح من اليوم لكل طلبة المدارس والجامعات والناس بشكل عام من كافة الأعمار والجنسيات، فقط عليك الاتصال بجمعية النور والأمل للتنسيق فى المواعيد. وبالطبع الدخول مجانا، وستجد هناك كل الترحيب من بشر فوق العادة فى كل شئ أدب، أخلاق، ذوق، علم، قدرة، وابتسامة لا تفارق وجوههم.
إذا أحببت أن ترى الدنيا فعلا إذهب إلى هناك، وستجد نفسك الحقيقية كما لم ترها أبدا!

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة