محمود الوردانى
محمود الوردانى


كتابة

زيارة شخصية لقسطنطين كافافيس( 2 )

أخبار الأدب

السبت، 14 نوفمبر 2020 - 09:48 م

محمود الوردانى

 شعر ليس للنشر الشعر بالنسبة لكافافيس لم يكن له هدف أو غاية أو تحقق أو تواجد أو حتى ائتناس أو محاولة للتعامل مع العزلة التى فرضها على نفسه، وفى الوقت نفسه لم يكن الشعر يعنى عنده السمو الأخلاقى أو الترفع عن متاع الدنيا الزائل، الشعر عنده أمر شخصي، هو غاية فى حد ذاته. أعنى مجرد كتابته، ثم طباعة بعض القصائد المفردة فى قصاصات صغيرة وتوزيعها على بعض الأصدقاء ليعرف آراءهم بكل بساطة، ودون أن يحيط نفسه بهالة من أى نوع.

( وهى حالة قريبة من حالة عماد أبو صالح الذى يكتب قصائده دون أن ينشرها متفرقة، ويكتفى بنشرها فى دواوين صغيرة ليست للبيع، بل يهديها لبعض أصدقائه الذين يختارهم بنفسه، وهى قريبة أيضا من حالة صديقى الكبير الراحل الشاعر محمد صالح الذى اعتاد فى سنواته الأخيرة أن يكتب قصائده فى قصاصات صغيرة، يخرجها من جيوبه و يناولها لأصدقائه ليقرأوها، ثم يستردها منهم).

  لنضع فى اعتبارنا أنه كان يكتب باليونانية، وليست اليونانية التى تتيح له التواجد بين الشعراء اليونانيين فى الوطن الأم، بل اليونانية الديموطيقية التى يؤكد لنا د. نعيم عطية أنها لغة الحياة اليومية، التى كان يحاربها الكتاب الكلاسيكيون. ولنضع فى اعتبارنا أيضا أن من يقرأه كانوا هم الجالية اليونانية، ومهما قيل إن مصر قادرة على إعادة صياغة الغرباء عنها والذين اختاروها موطنا لهم، إلا أن كل ماكتبه كان باليونانية الديموطيقية التى لايفهمها إلا أبناء تلك الجالية.

  وحتى بين هؤلاء الأخيرين لم يكتب عن الإسكندرية إلا قصائد قليلة، وهى قصائد فاتنة فى حقيقة الأمر، واختار أن يكتب قصائد تمتح من التاريخ القديم، واختار أيضا لحظات خاصة وشخصيات أغلبها غير مؤثرة، بل ناس من البشر الفانين العارضين، من التاريخ الإغريقى والبطلمى والرومانى، وهى فترات كانت فيها الإسكندرية واحدة من الحواضر المؤثرة، على الأقل فيما يتعلق بالتاريخ البطلمى والروماني.

 من جانب آخر، لم يكن ذلك التاريخ القديم يعنى لديه «الزمن الجميل» المستعاد، وهى نقطة بالغة الأهمية هنا، وهو يستدعيه لغرضه الشعرى والشخصى فحسب، وحتى فى قصيدته «ثيرموبيلاي» التى يحيى فيها أولئك الذين يحرسون ويسهرون على ممر ثيرموبيلاى من اليونانيين، ليس ليحولوا دون الميديين- الفرس- ودون غزو بلادهم،  فلا عددهم ولاتسليحهم قادر على الصمود أمام جحافل الميديين، بل فقط لينالوا شرف أنهم لم يسلموا بلادهم للغزاة..هنا لايلجأ كافافيس للحماسة والصوت العالى وصلصلة السيوف وإراقة الدماء فى سبيل الوطن وما إلى ذلك من الثرثرة الفارغة التى قد ترد على ذهن الكثيرين، على العكس اختار أن يصف هؤلاء الشجعان الذين صمدوا حتى اللحظة الأخيرة بأنهم «لايخونون أبدا ماهو حق «إنهم» كرماء بطرق بسيطة» و» يظلون مصدر عون بقدر مايستطيعون/ ينطقون الحقيقة دائما/ حتى دون أن يكرهوا الكذابين»- ترجمة رفعت سلام.

وهكذا ظل الشعر بالنسبة لكافيس أمرا شخصيا تماما، وحسب رفعت سلام فإن كافافيس كان لديه عشرات القصائد غير المكتملة، أو التى لم يرض عنها وظل يغيّر ويبدّل فى أبياتها طوال عمره، وإن كان قد رضى عن بعضها فى نهاية الأمر. أما قصائده الشبقية فهى بدورها عارية تماما من الاستعراضية أو حتى الخجل من مثليته او مساءلة تلك المثلية، بل هو يقررها كحقيقة واقعة دون استغراق بحيث تبدو بدورها جزءا من عالمه ومن عدم التحقق ومن زوال العالم وقدوم الشيخوخة والضعف وغياب الذكرى.

  الشعر أمر شخصى إذن وهو ليس وسيلة لأى شئ، هو غاية فى حد ذاته، وليس مهما على الإطلاق نشره، بل هو يخبئه عمدا عن الجميع.
  فى الأسبوع القادم إذا امتد الأجل أستكمل قراءة هذا الساحر..


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة