الكاتب الصحفي إيهاب فتحي
الكاتب الصحفي إيهاب فتحي


إيهاب فتحي يكتب: لماذا لم يجلس في مكتبه ؟ 

بوابة أخبار اليوم

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020 - 03:10 م

..تبقى وقت قليل وينتهى يوم العمل فى محطة مترو الأنفاق ، تستعد أرصفة المحطة لاستقبال الرحلة الأخيرة قبل موعد الإغلاق، يوم عادى لايوحى بأى أحداث مفاجئة ، يصل إنذار الى رجال شرطة النقل والمواصلات المسئولين عن تأمين المحطة بنشوب حريق مع اقتراب قدوم المترو ووجود المواطنين المنتظرين على الأرصفة والقادمين فى العربات الذين سيهبطون فى هذه المحطة ، على أقل تقدير سيتواجد فى المحطة عدد يتجاوز المئات، كان الهم الأول لرجال الشرطة محاصرة هذا الحريق سريعًا و بأى شكل لأن وجود هذا العدد من المواطنين فى محطة المترو مع اشتعال النيران وتسرب الأدخنة يعنى تحول الأمر إلى كارثة . 
بكل طاقتهم يحاصر الرجال الحريق ولكنهم فى وسط عملهم البطولى فوجئوا بوصول اللواء ياسر عصر وكيل شرطة النقل والمواصلات وإصراره أن يقود عملية إطفاء الحريق بنفسه بل سبقهم إلى مصدر الحريق لإنهائه حتى لا تحدث الكارثة ، نجح الرجال فى مهمة إخماد الحريق، لكن هذا النجاح كان ثمنه أن لبى قائدهم البطل نداء ربه شهيدًا وهو يحمى أرواح المصريين الذين يستخدمون المترو. 
فى صباح اليوم التالى كانت أرصفة المترو مزدحمة بآلاف المواطنين يستقلون عرباته متجهين إلى أعمالهم وفى نهاية اليوم كان هناك آلاف غيرهم يعودون إلى بيوتهم سعداء بعد يوم عمل شاق، لا نعلم من قرأ منهم قبل ساعات فى الأخبار اسم الشهيد البطل ياسر عصر، لا نعلم كم منهم أدرك أن انتظام الحركة فى المترو والأمان الذى يشعرون به والاطمئنان وراءه ثمن غالى دفعه واحد منا شهيد اسمه اللواء ياسر عصر. 
لم يبخل الرجل بحياته مقابل أن يعود الآلاف إلى بيوتهم أو يذهبون الى أعمالهم فى أمان، لم تكن تلك المرة الأولى لهذا البطل فى التدخل لإنقاذ آلاف الأرواح أثناء عمله حيث أنقذ مئات الركاب فى محطة القطارات قبل أن يصله أى دعم وهو يحمل رتبة العقيد ، أثناء تكريمه فى وزارة الداخلية على هذا العمل البطولى قبل سنوات رد البطل ببساطة قائلا :أنه لم يفعل شيئا هذا واجبه وقد أداه . 
تابعنا جميعًا قصة الشهادة والبطولة ولكن هناك سؤالا محيرًا وملحًا يتعلق بهذا الشهيد البطل، رجل وصل إلى أعلى رتبة فى عمله الشرطى رتبة اللواء وتتيح له تلك المكانة أن يعطى توجيهاته إلى رجاله من مكتبه وهم يكافحون الحريق لكنه ترك هذا المكتب المريح وذهب بنفسه وسط رجاله ليقودهم فى عملهم البطولى فلماذا ترك مكتبه معرضًا نفسه للخطر؟ 
فى محاولة الإجابة على السؤال تلاحقت مشاهد لشهيد وبطل آخر شاءت الأقدار أن تسجل الكاميرات لحظة استشهاده البطولية إنه الشهيد البطل المقدم رامى هلال ضابط الأمن الوطنى، هذا الشهيد لم ينم الليل وهو يطارد إرهابيًا خسيسًا يعلم جيدًا أنه على أعلى درجة من الخطورة والتدريب فى أعداد القنابل وتفجيرها.
 استطاع الشهيد البطل عن طريق ملاحقة أمنية فى كافة شوارع القاهرة الكبرى وبمتابعة دقيقة لكافة أشرطة الكاميرات بعد أن نفذ هذا الإرهابى عملية لم يمر عليها إلا وقت قليل أن يصل إلى بيته فى منطقة الدرب الأحمر.  
كان يعلم الشهيد رامى هلال جيدًا أن هذا الإرهابى بلا ضمير ويحمل داخله كمًا هائلا من الحقد تجاه هذا الوطن وأنه قد يكون مفخخًا ويفجر نفسه انتقاما. لكن كل تلك الأخطار توارت من أمام الشهيد وأصر على ملاحقته بنفسه تاركًا هذا المكتب المريح .
 فى لحظة القبض على الإرهابى الخسيس فجر نفسه ولم يكن أحد يعلم فى أى مكان من أرض هذا البلد الطيب سيفجر هذا الخسيس قنبلته لكن الشهيد البطل رامى هلال تلقى الخطر فى صدره مضحيًا بحياته مقابل أن نستيقظ فى الصباح آمنين مطمئنين لا يروعنا الإرهاب . 
يقودنا هذا السؤال إلى أرض البطولات سيناء ونرى بطلا شهيدًا آخر، الجندى محمد أيمن شويقة مارد سيناء من وحدات الصاعقة ، فى إحدى المهام المكلفة بها مجموعته كما يحكى رفاق السلاح عنه يستشعر البطل الشهيد بأن أحد التكفيريين يحمل حزامًا ناسفًا فيترك مكانه خارجًا عن القواعد مبتعدًا عن الأمان يحتضن التكفيرى يحمله بعيدًا عن رفاق السلاح يفجر التكفيرى نفسه يستشهد البطل ويعيش الوطن ورفاق السلاح . 
تأتى ذكرى يوم الشهيد فى التاسع من مارس من كل عام لتعطى إجابة واضحة للسؤال، أن هناك رجالا اصطفاهم الوطن ليحموه ويحمون أبناءه فى لحظات الخطر الفارقة متخلين عن الراحة ومحطمين كل القواعد محولين اللحظة العادية إلى سيرة دائمة من البطولة تكن إلهامًا لأجيال وأجيال تأتى بعدهم.
 فى هذا اليوم التاسع من مارس قبل 51 عامًا يذهب الرجل العظيم البطل الشهيد الفريق أول عبد المنعم رياض الى الخطوط الأمامية للجبهة وسط جنوده وضباطه مواجهًا العدو مخترقًا كل البديهيات العسكرية فى ذروة حرب الاستنزاف فيلبى نداء الشهادة ويعطى مثلا لمعنى القيادة فيصبح المثل علامة فى ذاكرة الوطن وهديا لكل من يريد خدمة الأمة المصرية العريقة. 
الحقيقة أن الفعل الخارق لهؤلاء الأبطال ومعدنهم الصلب يعطى إجابة  لسؤال أكثر عمقًا يصعب على الكثير فى هذا العالم الإجابة عليه لأنهم لايستوعبون أصالة هذا الشعب ومدى قدرته على صناعة البطولة والتاريخ ولو كان ثمن هذه الصناعة أرواحهم. 
يتساءل العالم ويلح فى سؤاله دائمًا كيف استطاعت الأمة المصرية على مدار 7000 آلاف عام الاحتفاظ بوجودها الثابت ووحدتها وحدودها المعلومة دون أدنى تغيير؟ 
يلجأ الكثيرون إلى إجابات مرجعها علوم التاريخ والجغرافيا والسياسة حتى يعثرون على إجابة رغم أن كل تلك العلوم تقدم بعض الإجابات ولكنها إجابات غير كاملة لأنها تفتقد الروح الحقيقية لهذه الأمة ، هذه الروح التى غزلتها أرواح ملايين الشهداء على مدار تاريخ الأمة المصرية ، عندما تطالع سير البطولة لهؤلاء الشهداء كل فى موقعه بهذا الوطن والذى تحمل أمانة الدفاع عنه تدرك سر بقاء ووجود ووحدة ورسوخ حدود هذه الأمة لآلاف السنين . 
تخبرك سير الشهداء الأبطال أن ثبات مصر وقدرتها على العبور فوق المحن طوال تاريخها المديد كان نتيجة لتضحيات هؤلاء الرجال الذين يختارون الوطن وينسون ثمن الاختيار فى لحظة الخطر. 
ينسى الرجال الأبطال أسرهم الصغيرة ، بيوتهم، ذويهم، الراحة ، القواعد المتبعة ، يتذكرون فقط الوطن وأن هذا الوطن أغلى من كل ماسيتركونه خلفهم ، تستشعر بأن هذه النخبة التى اصطفاها الوطن فى لحظاته الفارقة عاهدت ربها وأمتها منذ أن رأت عيونهم النورعلى أن تمنح مصر وشعبها الوجود والأمن والطمأنينة وتكن أرواحهم هى ثمن كل هذا. 
عندما تشرق شمس كل يوم ونشعر بالأمل فى صباح جديد أو نعود إلى منازلنا ليلا آمنين مطمئنين، عندما نشعر بالعزة والفخر ونحن نرى أرض مصر ترفف عليها أعلام الكرامة ،عندما نجلس فى منازلنا نتسامر ونسير فى شوارعنا دون خوف لا نخشى على أنفسنا أو أبنائنا من إجرام الإرهاب الدنيئ .. فلنفعل شيئا واحدًا نتذكر فقط تضحيات هؤلاء الشهداء الأبطال وأن هذا اليوم الآمن الذى نعيشه

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة