الكفراوى فى قريته
الكفراوى فى قريته


وداعًا يا ابن الكفراوى

أخبار الأدب

الأربعاء، 25 نوفمبر 2020 - 07:35 م

 د. جابر عصفور

لكن محبة سعيد الكفراوى لكتابات نجيب محفوظ، وحرصه على تقليد أسلوبها فى كتابته القصصية أبعده تدريجيًّا عن الموقف الضيق للإخوان، وقارَب ما بينه وبين التيارات اليسارية الأخرى.

أعرفُ سعيد الكفراوى منذ حوالى نصف قرن، لم تتأثر علاقتنا فيه بالسلب أو تنقطع لسببٍ أو غيره. وقد ظل منذ أن عرفتُه صديقًا غاليًا وأخًا حبيبًا، ولا أعرفُ لماذا كان يرانى دائمًا راعيًا له؟! وقد بدت هذه النظرة لى ربما من والده نفسه، عم «سلامة الكفراوى»، الفلاح الأصيل الذى كان يمتلك عدة أفدنة فى قرية «كفر حجازى» القريبة من مدينة المحلة الكبرى التى كنا نعيش فيها، وكنا نذهب إلى هذه القرية من الحين والحين؛ لتناول الغذاء الشهى الذى كانت تعده والدة سعيد. ولا أزال أذكر اللقاء الأول بسعيد الكفراوى، وقد كان فى قصر ثقافة المحلة الكبرى الذى ذهبتُ إليه فى العُطلة الصيفية التى كانت تفصل ما بين عامى الدراسى الثالث والرابع فى كلية الآداب بجامعة القاهرة حيث كنتُ أقضى إجازة الصيف فى مدينة المحلة وقابلتُ مصادفة أمين مكتبة قصر الثقافة الذى أخبرنى عن وجود ندوة تنعقد أسبوعيًّا يحضرها مجموعة من الأدباء الذين ينبغى أن أتعرَّف عليهم، ودعانى إلى لقاء هذه المجموعة.
وذهبتُ بالفعل لأرى وجوه نصر حامد أبو زيد، وزكريا التوابتى، وسعيد الكفراوى، ومحمد صالح، وأحمد عسر - وهم الأعضاء المؤسِّسون لهذه المجموعة - وكان يحضر معهم أحيانًا مجموعة من الجيل اللاحق تضم: جار النبى الحلو، ومحمد المنسى قنديل، وفريد أبو سعدة، وأحمد الحوتى. وقد شعرتُ بالسعادة لوجود مجموعة مُتجانسة مثقفة من أبناء المحلة أو القاطنين فيها يتجمعون أسبوعيًّا فى قصر الثقافة، ويتناقشون فى قضايا الأدب، فضلًا عن أعمالهم الإبداعية التى كانت تدور حول القصة القصيرة فى الأغلب الأعم، ولا تخلو من مناقشة الشِّعر الذى كان يكتبه محمد صالح ومحمد فريد أبو سعدة وأحمد الحوتى. ولم يكن نصر حامد أبو زيد بعيدًا عن الشعر فى تلك المرحلة، فقد بدأ شاعرًا فصيحًا، ولكنه انقلب إلى العامية بتأثير صلاح چاهين وفؤاد حداد اللذينِ أُعجِب بهما كل الإعجاب.
وسرعان ما انسجمتُ مع تلك المجموعة وأصبحتُ صديقًا لها، بل وأذكر جيدًا أننى ذهبتُ معها فى اليوم نفسه إلى منزل أحمد عسر الذى كان يكبرنا جميعًا ويعمل مُدرِّسًا، وكان متزوجًا ينتسب إلى إحدى القرى القريبة من المحلة.

وكان منزله العامر منزل كرمٍ؛ لأنه كان ابن عمدة. وكان المُلَاحظ فى هذه اللقاءات المُتصلة، القسوة أو الشدة التى كان يأخذ بها بعضنا البعض أثناء قراءة الأعمال الأدبية. وكان الكثير من هذه القسوة ينال أحمد عسر الذى سبق هو وزكريا التوابتى إلى كتابة القصة القصيرة التى بدا أنها الأكثر شيوعًا فى الإبداع الأدبى بين أعضاء تلك المجموعة.

ومن الجدير بالذِّكر أن زكريا التوابتى كان قد حصل على إحدى جوائز نادى القصة، ولذلك كان يتعامل بنوعٍ من الثقة بكتاباته وما وصلت إليه، وكانت علاقة سعيد الكفراوى وثيقة بزكريا التوابتى إلى أبعد حد، وقد عرفتُ أن بينهما مشروعَ مُصاهرةٍ، ولذلك لم أكن مُندهشًا فى أن يتحمس سعيد الكفراوى لزكريا التوابتى فى كل ما يقول. ولم أندهش أيضًا فى أن تميل أفكار سعيد الكفراوى إلى الفكر الإخوانى الذى كان يعتقده زكريا التوابتى الذى كان يحتل دورًا قياديًّا بين جماعة «الإخوان المسلمين» فى مدينة المحلة الكبرى ومحافظتى الغربية والدقهلية على السواء.

والحق أن الأفكار السياسية لم تكن تشغلنا، أو حتى تُباعد ما بيننا الانتماءات الفكرية، فقد كنا جميعًا شُبانًا وطنيين لا نعرف سوى الانتماء لمصر التى كانت ناصرية فى ذلك العهد، وترفع شعارات الحرية والعدل والمساواة. والمؤكد أن إبداع تلك المجموعة كان إبداعًا احتجاجيًّا رافضًا للشعارات السياسية التى لم يكن لها صدى حقيقى فى أرض الواقع. فقد كنا نعيش واقعًا محليًّا يستبدل الظلم بالعدل، والتمييز بالمساواة، والتعصب بالتسامح. ومن المؤكد أن بعض عدوى التعصب الإخوانى كانت تتسرب في أفكار سعيد الكفراوي وزكريا التوابتي.

وكنتُ مع محمد صالح الشاعر - الذى كان مثلى طالبًا فى كلية الآداب - نعارض أفكار التعصب، ويدعو معى إلى عالمٍ هو خليط من الليبرالية السياسية والاشتراكية الناصرية. ولذلك كنتُ أنا ومحمد صالح بمثابة اليسار الليبرالى وسط المجموعة التى كان يجنح أغلبها إلى فكر «الإخوان المسلمين». وظل الأمر على هذا النحو إلى أن قام سيد قطب بمحاولته الانقلابية على حُكم عبد الناصر سنة ١٩٦٤، وقُبض عليه وحُوكِم هو وجماعته، وذلك فى أحداث انتهت بالقبض على زكريا التوابتى الذى حُكِم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا.
ولا أزال أذكر ما كان يقصُّه علىَّ سعيد الكفراوى ونصر حامد أبو زيد من مُحاولتهما إخفاء كتابات سيد قطب وأخيه محمد قطب حتى لا تقع فى أيدى الشرطة وتكون قرينة دالة على انتمائهما إلى الإخوان المسلمين. الطريف فى الأمر أن مناقشاتنا قد انتهت إلى تخلِّى سعيد الكفراوى إلى حد ما ونصر إلى أبعد حد عن الإخوان المسلمين وعن أفكارهم المعروفة. والأطرف أننى قد نالتنى بعض الشظايا مع أنى كنتُ أكره «الإخوان المسلمين» ولا أحب تعاليمهم المُتحيزة أو دعوتهم الدائمة إلى التحقير من شأن غيرهم وتكفيره، فقد كنتُ طالبًا جامعيًّا متأثرًا بالأفكار الاشتراكية والنزعات الوجودية، وأعرف شيئًا من الماركسية والوجودية والعدمية النتشاوية، وكل ما يبعدنى عن الإخوان المسلمين، أو يجعلنى مُحصَّنًا تمامًا ضد أفكارهم.

وبالطبع كان لا بد أن يكون الحوار عنيفًا أحيانًا وحميمًا أحيانًا أخرى ما بينى وبين نصر الذى كان أكثر عقلانية وبين سعيد الذى كان أقرب إلى الحدة والتعصب فى ذلك الوقت، ولكن محبة سعيد الكفراوى لكتابات نجيب محفوظ، وحرصه على تقليد أسلوبها فى كتابته القصصية أبعده تدريجيًّا عن الموقف الضيق للإخوان، وقارَب ما بينه وبين التيارات اليسارية الأخرى.

وأعتقد أن تجربة التحول التى مر بها سعيد الكفراوى فى أعقاب القبض على جماعة «الإخوان المسلمين» كان لها الأثر البالغ فى تحوّل أفكاره. ومن الطريف أنه عندما قُبض عليه فى ذلك الوقت، كان يحكى لنا أنهم كانوا يحققون معه فى الصباح بوصفه إخوانيًّا وفى المساء بوصفه شيوعيًّا، وكنا نضحك معه على هذه المفارقة التى كنا نراها نتيجة طبيعية لأننا قد أُصبنا بعدوى الثقافة، ووهبنا أنفسنا لعالم الأدب ورموزه التى كانت مسيطرة على عقولنا فى ذلك الوقت. ولذلك كان سعيد يستغل قدراته الحكائية الباهرة فى التصوير الدرامى لما كان يمر به فى الأيام التى قضاها فى المعتقل إخوانيًّا وشيوعيًّا فى الوقت نفسه.

وكنا لا نكف عن الضحك، ولا ندرك أن بعضنا قد تأثر بالمناخ الجديد الذى أصبحنا فيه وانتقل بنا من أوضاع فكرية إلى أوضاع فكرية مُناقِضة. وهكذا بدأ تكوَّن ما يُسمَّى بــ «شلة المحلة الكبرى للأدب والنقد» بجناحيها من المؤسِّسين والمُنتسبين، وذلك قبل أن يتغير بهم الزمن، وقبل أن ينتقلوا واحدًا تلو الآخر من مدينة المحلة الكبرى إلى مدينة القاهرة.

والمؤكد أن سعيد الكفراوى كان أكثر «شلة المحلة» حرصًا على معرفة القاهرة بأُدبائها الكبار ومنتدياتها الأدبية التى كان يسمع عنها فى المحلة، ومن أهمها منتدى «مقهى ريش» بالطبع. وقد كتب عن ذكريات تلك الفترة مجموعة من اللوحات القلمية الباهرة التى لا تخلو من عِرقٍ قصصى فريد فى بساطته وقدرته الآسرة على جذب القارئ. وفى مقهى «ريش» وعليه تعرَّف سعيد الكفراوى على حبيبه أو مَثله الأعلى فى الكتابة فى تلك السنوات، وهو «نجيب محفوظ» الذى اقترب منه سعيد وقدَّم إليه نفسه، وحاول أن يظل قريبًا منه دون أن يتعدى الأسوار.
صحيح أن «شلة المحلة الكبرى» قد تفرَّقت مع الأيام خصوصًا بعد أن أصبحتُ أنا مُعيدًا فى كلية الآداب سنة 1966 وناقدًا مُبتدئًا أسعى كى أصعد السلالم الأولى فى ممارسة النقد الأدبى، وشيئًا فشيئًا وجدتُ إلى جانبى فى القاهرة نصر حامد أبو زيد الذى انتقل من شرطة النجدة بالمحلة الكبرى إلى شرطة النجدة بالعجوزة لكى يكون قريبًا من الجامعة، وأضف إليه محمد صالح الذى تخرَّج وأصبح صحفيًّا يُمارس الصحافة شأنه شأن صديقه محمود الوردانى. وسنة بعد سنة انتهى محمد المنسى قنديل من دراسة الطب فى جامعة المنصورة وبدأ حياته القاهرية قبل أن يهاجر من القاهرة إلى الكويت للعمل فى مجلة «العربى». واستقر محمد فريد أبو سعدة فى القاهرة قريبًا من أحمد الحوتى الذى عمل بالثقافة الجماهيرية، لكن سرعان ما اختطفه الموت مِنا.

باختصار انتقلت «شلة المحلة الكبرى» إلى مدينة القاهرة، وكان على أبناء هذه الشلة أن يثبتوا وجودهم ومواهبهم الأدبية والنقدية على السواء. ودخلوا جميعًا مرحلة النضج، وتجرأ سعيد الكفراوى أخيرًا على اقتحام عالم القصة القصيرة التى انتقل إليه عِشقها من أستاذه زكريا التوابتى. وتوالت مجموعاته القصصية: «مدينة الموت الجميل» (1985)، «ستر العورة» (1989)، «سدرة المنتهى» (1990)، «مجرى العيون» (1994)، «دوائر من حنين» (1997)، «كُشك الموسيقى» (2003)، «يا قلب مين يشتريك؟» (2007)، «البغدادية» (2004)، «زبيدة والوحش» (2015)، فإذا بها تلفت الأنظار إليه، وتجعل منه واحدًا من أبرز الكتّاب الكبـار فى مجال القصة القصيــرة، لكـن قصصه ظـلـت محتفظــة بخصائصهـا الدالة على طبيعتـه الشخصيـة، وعلى رؤيـة عالمـه الخاص. فقد كانت القرية تتجاور مع المدينة حقًّا فى قصص سعيد الكفراوى، إلا أنها كانت هى الفضاء الأوسع لهذه القصص؛ إذ كانت القرية تأخذ القارئ إلى عوالمها الخاصة وتجذبه إلى سحرها الغريب كما لو كانت هى صورة أخرى من النَّـدّاهة.

ومن الواضح أن سعيد الكفراوى خلال مسيرته فُتن بالواقعية السحرية، الأمر الذى جعله يخلق شخصيات وعوالم تنوس ما بين الخُرافة والفانتازيا، حائمة دائمًا حول الموت الذى لا يفارق الحياة فى هذه القرى لأسباب مُتأصلة فى الوعى الميتافيزيقى لسعيد الكفراوي وفي رؤاه الخاصة للعالم. وهى رؤى لم تخلُ من تأثرٍ - كما ذكرتُ - بالواقعية السحرية التي دفعتُه إلى أن يصوغ موازيات عربية لها فى عالم القرية الذى عاشه فى دروب قرية «كفر حجازي» القريبة من مدينة المحلة الكبرى.

والحق أن الفارق بين الحقيقة والتخييل يكاد ينمَحِى فى حالات عديدة من تلك القصص، ولذلك كثر فى قصصه القصيرة، الحديث عن الموت، وعن الأب الذى تتعدد تمثيلاته الرمزية، وعن الأم التى تتحول فتبدو أشبه بالأم الكبرى فى عوالم الأساطير الرمزية أو فى عوالم ما يمكن أن نسميه بــ: «الرموز العتيقة»، وهى الترجمة الاجتهادية لمصطلح: «Archetypal Patterns». ومن المؤكد أن القصة القصيرة على نحو ما كتبها سعيد الكفراوى تبين عن تيارٍ تحتى مقموعٍ هو تيار الحكى الروائى.

هذا التيار يبين عن نفسه صراحة فى قصةٍ قصيرةٍ مطوَّلةٍ بعنوان: «البغدادية» نشرها سعيد فى جريدة «الحياة» ثم أُعيد نشرها فى أماكن أخرى، كما يبين كذلك فى محاولةِ كتابة سعيد لبعضٍ من سيرته الذاتية فى عَمله الجميل: «يا قلب  من يشتريك؟». والحق أننى كنتُ أُشاكسه دائمًا وأدفعه دفعًا إلى أن يُجرِّب كتابة الرواية؛ لأننى كنتُ أرى فى كتابته تيارًا روائيًّا مقموعًا محكومًا عليه دائمًا أن يكون فى شكل القصة القصيرة. وكان سعيد - عليه رحمة الله - يَعدُنى بأن يترك العنان لهذا التيار الروائى المقموع فى كتاباته من القصة القصيرة.

والحق أننى عبَّرتُ عن إعجابى بكتابات سعيد الكفراوى فى أكثر من موضعٍ وفى أكثر من مقالٍ نقدى. وأذكر أننى كتبتُ مقالًا مُنفصلًا عن «البغدادية» التى كنتُ أرى فيها مشروعًا لروايةٍ جميلةٍ إلى أبعد حد، وقد عانيتُ فى قراءتها نوعًا من الشعور المُمتع بالإبداع المُقبِض الذى يدفعُ القارئ إلى استساغة الحزن القاتم المُر. ولا أريد أن أمضى فى مديح أعمال سعيد الكفراوى عملًا عملًا؛ فذلك موضعه فى دراسات خاصة مطوَّلة عن رؤى سعيد الكفراوى الإبداعية، ولكن من المؤكد أن عشقه للقصة القصيرة هو الذى ظل يلفتنى ويثير أسئلة فى نفسى إلى هذه اللحظة وأنا أكتب عنه، فسعيد الكفراوى حكّاء بارع بكل معنى الكلمة.

وعندما يحكى شفاهة لا يستطيع المُستمع له أن يُمايز بين الحقيقة والخيال. فغلبة الإبداع التخييلي في كتابة سعيد الكفراوى أو فى حكيه الشفاهى، يضعنا فى عالمٍ عجيبٍ من التمثيلات التى تتصل أطرافها بالواقعية السحرية من ناحيةٍ، وبالأخيلة الشعبية من ناحيةٍ أخرى، وبالحس الفلاحى الذى يحكى لأبناء القرية ما حدث وما لم يحدث فى اندفاعة القص التخييلية التى تصل الحقيقة بالخيال والواقع بالفانتازيا، خالقة نوعًا فريدًا من الكتابة التى ستُخلِّد اسم سعيد الكفراوى فى تاريخ الأدب العربى بكل تأكيدٍ. رَحِمه الله فقد خسرنا بوفاته أديبًا كبيرًا لا ينتسبُ إلى «شلة المحلة الكبرى» فحسب، وإنما ينتسبُ بكل معنى الكلمة إلى كبار مُبدعي العالم.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة