عبدالله ناصر
حوار| عبدالله ناصر العالق في يومه الخاص: الفن منأى للكريم عن الأذى
الجمعة، 27 نوفمبر 2020 - 09:15 ص
حوار: ياسر عبدالحافظ
بلا ضجة، وعبر مجموعتين قصصيتين فرض الكاتب عبد الله ناصر وجوده على الساحة الثقافية العربية في زمن يتراجع فيه الفن الجاد خطوات لصالح الجماهيري، وفي وسط أدبي تتداعى أركانه تحت وطأة ضغوط سببتها ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية محلية وعالمية تتحول فيها القناعات والقيم الفنية إلى عوائق أمام توزيع النص وقراءته والبناء عليه.
يمكن ببساطة ضم ناصر إلى فئة قليلة تكتب ولا يشغلها إلا الفن، غير أن أعماله تميزت بقدرتها على تخطي مسلمات أساسية، وواحدة من تلك، الانتشار جماهيريا مع تمتعها بتلك السمة الفنية النخبوية، وهو أمر لافت لأنه يشير إلى أن ما نعتمده حول المعايير الجماهيرية في القراءة قد يكون زائفا، أو على الأقل فإنه ليس جامدا كما نتصور، وأن هناك قارئا عربيا ينتظر الفن، لكنه فقط يشبه ما يقرأ، يشبه أعمال ناصر التي تحفر طريقها بهدوء نهر داخل عقل المتلقي.
هل فاتتني الإشارة في بداية هذه المقدمة إلى أن عبد الله ناصر كاتب سعودي؟ هذا ما تقتضيه قواعد العمل الصحفي، غير أني وددت لو أملك شجاعة المضي في إغفال المعلومة لأنه لا ضرورة لها في سياق مشروعه الأدبي الذي تتبدى ملامحه بقوة عبر مجموعتيه القصصيتين، إذ لا يمكن تخمين جنسيته عبر ما تقرأ، هو، كشخص، لن تلمحه في أي من نصوصه، يتعثر قارؤه كثيرا في الأيام والساعات، في الأشياء النابضة بالحياة، وفي الناس المنضغطين بتأثيرات لا علاقة لها بالواقع المادي المألوف وقضاياه المعتادة، ولا مبالاته ككاتب بذلك الواقع والانتماء إلى مشاعر وانفعالات إنسانية عامة تجعلنا نحذر قبل وصفه بالكاتب السعودي أو الخليجى، إلا في إطار أنها واحدة من المسلمات التي أشرت إلى أنه يتجاوز قواعدها.
يخلص عبد الله ناصر للقصة القصيرة، ليس هذا حكما مبنيا على إصداره مجموعتين، بل لأنه ليس عصيا على من يقرأهما أن يلمح ولعه بهذا النوع من الفن، وبما يستدعيه من أدوات على رأسها التقتير: هنا لكل جملة وظيفة تتكامل مع البقية لإنتاج نص لا تمنع سياسة التقشف، التي يتخذ منها الكاتب مبدأ عاما، غناه بالأفكار واعيا بأن كثرة الكلام قد تعني الخرس مثل بطل قصته «المعجم» في مجموعته «العالق في يوم أحد» ذلك الذي «يترك باب فمه مفتوحا طوال الوقت، تدخل الكلمات ولا تخرج أبدا، حتى عندما يضطر إلى الكلام كان يستعين بيديه فقط».
مساحات يسودها ولع بصمت يمضي فيه أبطاله راضين ومستسلمين بالكامل لناي صاحبهم يقودهم به على طريق عمليات تجريب لا تنحصر عند عناصر الفن وحسب بل تمتد إلى قوانين الوجود ذاتها لإنتاج كتابة عربية بمذاق خاص، ولا يبدو أنها تسعى لهدف ما سوى التحرر.
مع هذا، مع أنها تجربة مكتملة ويمكن الاكتفاء بها فقد كانت لدي أسئلة، دائما هناك أسئلة! طمحت لأن أحصل منها على خيوط لكيفية تكون تلك النصوص داخل عقل عبد الله ناصر، كيف له أن يحيا نائيا عن ضجيج العالم حوله منصتا فقط إلى الموسيقى وأغاني عبد الوهاب ونوازع شخصيات تصحو في بيوت غير بيوتها وتحل في أجساد ليست لها بينما أزمنتها تطول وتقصر بإرادتها الخاصة.
لكن ناصر مخلص للغاية لكتابته، لكل ما يقول، يدعك تتحدث كثيرا ويشجعك على هذا ثم ينطق بالقليل، وعلى هذا جاء حواري معه يشبهه ويشبه أعماله معبرا عن أفكاره حول الفن والقصة واللغة..
إن لم تكن ثمة معلومات ما عن أى من المجموعتين القصصيتين ومؤلفهما فلن يتمكن القارئ من إحالة النص إلى ثقافة ما.. هنالك رغبة فى العالمية، بمعنى الانتساب إلى هم إنسانى عام، لكن إن كان الحال هكذا فماذا عن معيار: العالمية خطوتها الأولى الإغراق فى المحلية؟
لقد طُرح علىّ هذا السؤال أكثر من مرة وبأكثر من صيغة حتى كدت أفعل ما يفعله ماركيز فأخترع إجابةً جديدة فى كل مرة. ليس فقط لأن السؤال ينظر إلى الفن كما ينظر البعض إلى قمة إيفرست فيرى ضرورة أن يغرز فيها علم الوطن، بل لأن الفنان فى النهاية ابن للعالم كما يقول بودلير. يجدر بالقارئ أن يفحص نصوصى لا جواز سفرى فذاك شأن موظف الجوازات فى المطار. هل يمكنك أن ترى بوينس آيرس فى قصص بورخيس؟ لقد ذهب أحدهم فى تحامله بعيداً وقال إن بورخيس قاص إنجليزى يكتب بالإسبانية! وبهذا المنظور غير الواسع كيف نصف هؤلاء الذين يتخصصون فقط فى كتابة قصص الفضاء أو الحيوانات؟
مع قبول الاعتراض، لكن ربما تتكرم بتفسير أن هذا النزوع للانتماء إلى ثقافة عالمية مشوب بالتواصل مع ثقافة بعينها عبر مؤلفين وأسماء أعمال أجنبية مع قطيعة تكاد تكون تامة مع مفردات الثقافة العربية.. هنا لم يعد الفنان ابنا للعالم! ما تفسيرك فى إطار إجابتك السابقة، ما الضرورة الفنية؟ هل يمكن اعتباره كاشفًا عن الانتماء المعرفى للكاتب؟
بلا شك، لا بد أنها تكشف عن انتماء الكاتب وميوله، مع التأكيد على أن الضرورة الفنية أحياناً تقتضى ذلك فيحضر شاغال ومخلوقاته الطائرة فى «هاوية على الطراز العمرانى الحديث»لأسباب فنية بحتة- وهل كان ليبقى أحدهم فى الهاوية لو استطاع الطيران-كما تحضر للأسباب الفنية نفسها، فى القصة ذاتها، زها حديد.
يرصد من يقرأ العملين «فن التخلي» «العالق فى يوم أحد» التجريد فى الأول ثم العمل على تطبيق هذا ودمجه مع الواقع فى الثاني، هل يمكن النظر إلى هذا باعتباره تغيرا فى زاوية النظر إلى فن القصة؟ ربما تحدثنا عن الإطار النظرى السابق على الكتابة، لديك؟
لبيكاسو دراسة فنية شهيرة عن الثور، يرسمه إحدى عشرة مرة فيبدأ من ثور بمقدوره أن يحرث الحقل وحده حتى تكاد ترى البخار يتصاعد من منخاره، ولو لمسته لربما علق بعض الوبر فى يديك، ثم يتدرج حتى ينتهى إلى تجريد الثور ورسمه ببضعة خطوط، سبعة أو ثمانية على أبعد تقدير. أظن نصوص «فن التخلي» تشبه هذا الثور الأخير، نص من جملة واحدة أو عشر كحد أقصى.
على أنى لم أغير جلدى فى «العالق فى يوم أحد»، وإن طمحت لذلك، لكن الثور اكتسى بعض الحمرة والوبر، ولا أقول العافية، وإن كان لا يزال أقرب إلى التجريد. المجموعة الثانية لا تبتعد كثيراً عن الأولى لكن لا تمتد منها، أو هذا على الأقل ما أتمنى، تنتمى المجموعتان إلى فصيلةٍ واحدة إن لم نقل عائلة واحدة. والحق أن نظرتى للقصة حتى الآن لم تتغير تماماً، ما زلت أفضلها نحيلة، تقول الكثير فى القليل من الكلمات والإيماءات والصمت.
نعم، لكن هذا الولع بالتقشف كيف بالإمكان التحكم فى سطوته التى تهدد على الدوام أن تقود إلى فراغ، وصمت تام!
لطالما رأيت أن الكتابة عملية نحت فى المقام الأول، فما بالك عندما تكون قصة، وما بالك عندما تكون القصة قصيرة، بل قصيرةً جدا. أحب أن أشبهها بمنحوتات جياكوميتى على وجه التحديد وقد وقفت على تماثيله مطولاً وهالنى نحولها الشديد حتى تعرفت على فلسفته فى النحت أكثر من مرة حتى لا يبقى من المنحوتة إلا ما هو ضروري، ولربما راح ينحتها مراراً فلا يبقى منها شيء وهذا ينطبق أيضاً على القصة القصيرة جداً. فى حالة جياكوميتى كان الأخ الذى يعمل مساعداً فى الوقت نفسه هو من يحول بينه وبين أن يأتى عليها تماماً. على من يكتب مثل هذا النصوص أن يكون جياكوميتى فيصل بالنص إلى أقرب نقطة إلى الفراغ وعليه أن يكون أخوه فى الوقت نفسه فيتوقف عند تلك النقطة بالضبط.
واحدة من العناصر المميزة فى عملك إعادة تعريف المتناقضات، على سبيل المثال الأمل يصبح شريرًا مقابل اليأس. والأمر هنا يدعو للتفكير إن كان الواقع يلقى بظلاله على الفن رغمًا عن كاتبه الساعى دومًا للنأى عنه.. جدل الواقع والفن كيف تراه؟
يظهر الأمل أول مرة مثل مسيح، ويظهر فى قصة ثانية مثل غول، وفى المرة الثالثة يكون هابيل وقابيل فى آن. أردت فى المجموعة الأخيرة أن أكتب القصة نفسها مرتين وأحياناً ثلاث مرات، بالألوان تارة، وبالأسود والأبيض تارة أخرى، من الأمام ومن الجانب، وبالعكس. بالنظر إلى الفهرس فقط يمكنك أن تخمن بعض الروابط بين «بابل» و»المعجم»، بين «حوادث الأيام» و «العالق فى يوم أحد»، بين «الذى لا يستطيع الدخول» و«اللذان لا يستطيعان الخروج»، بين «عبد الله ناصر» و«الآخر» وقصص أخرى بالطبع.
وبالعودة إلى سؤال الفن والواقع رأى الشنفرى «فى الأرضِ منأى للكريم عن الأذى» أما اليوم وقد ضاقت الأرض بما رحبت ففى «الفن» منأى للكريم عن الأذى/ الواقع، بيد أنه لا يمكننى فصل الفن عن الواقع تماماً فى حياتى وإن كانا يتسقان فى الغالب وهكذا أستعين بالأول لفهم الثاني، ويساعدنى الثانى فى كتابة الأول. أتنقل أحياناً بينهما كما يتنقل صاحب البيت الصغير الذى يقع بين حدود هولندا وبلجيكا إذ يمكنه أن يرتحل من هنا إلى هناك والعكس فى خطوة واحدة، ولربما جعل الأريكة فى منتصف البيت واستلقى فكان نصفه الأعلى يقيم فى هولندا ونصفه السفلى يرتحل فى بلجيكا.
تبدو بعض القصص أحيانًا وكأنما تبتعد عن نوعها لتغدو أقرب إلى تأملات أو إلى مطاردة لفكرة غائمة.. كيف ترى حدود التجريب فى فن القصة والفن بشكل عام؟
أرى التجريب فى القصة والفن بشكل عام ضرورة لا بد منها حتى لو كان لمجرد التجريب. التجريب بلا حدود، ذاك أننا متى وضعنا حدوداً فقد قيدنا النص، وقد قيل قديماً لن يذهب بعيداً من يعرف إلى أين يذهب، لا يجب أن ننسى أن التجريب فى الأصل بذرة أى ثورة فنية. ليس من الممكن أن نكتب اليوم كما لو أننا نعيش فى القرن التاسع عشر لذلك تختفى القصة عندى فى بعض الأحيان حتى لا يبقى منها إلا النَفَس. أُدرك بالطبع حجم المغامرة فى القصة إذ يبدو لى القاص أشبه بحارس مرمى، هفوة واحدة تكلفه الخسارة وربما سُمعتُه الطيبة أيضا.
رغم أن قصصك تبدو موغلة فى التجريب إلا أنه تم استقبالها بشكل جيد من قبل الجمهور والنخبة وهذا ليس معتادًا فى عالمنا العربى المفتون بالأعمال الجماهيرية.. أتظن أن ظاهرة الـ«بيست سيلر» تتغير لصالح ما هو فني؟
حينما راجعت المسودة الأخيرة لكتابى الأول قال أحد الأصدقاء فيما يشبه المصارحة -أو ربما المواساة المبكرة- إن الدائرة التى سينتشر بها الكتاب صغيرة، حتى إنه رسمها بسبابته فبدت مثل عدسة النظارة، وهكذا ظن الناشر العزيز حين خمن أن مبيعات الكتاب لن تتجاوز فى أحسن الأحوال بضع مئات، والحق أن هذا ما توقعته أنا أيضاً لكن كان للكتاب رأى آخر، أو ربما القارئ، إذ راح يولِّد الدوائر مثل حجر فى بحيرة حتى تجاوز الطبعة الخامسة. لا أدعى أننى أنتمى إلى هؤلاء بل أؤمن بما يؤمن به السنباطى حين قال إنه لا يمكن تخمين التلقى الجماهيرى فكم لحن اجتهد فيه ولم ينجح بقدر ما نجحت ألحان أخرى لم يبذل فيها الكثير، وأعلم أن الحظ غالباً، ولا أقصد حظ اليانصيب الصرف، إنما ذلك الذى يتعلق بالتوقيت والظروف الأخرى يلعب دوراً بارزاً فلربما نجح كتاب بعد عشرات السنين من صدوره مثل ستونر للأمريكى جون ويليامز ولربما نُسيت إلى الأبد بعض كتب «البيست سيلر» فى السنة التالية من صدورها. لا أرى فى ظاهرة «الأكثر مبيعاً» شراً مطلقاً بل لعلى أدين لها أحياناً كما حدث مع «جنتلمان فى موسكو» لأمور تاولز.
تطمح أعمالك لتأسيس علاقة جديدة مع الزمن ويبدو أن ثمة إصرار على ذلك حتى ليبدو كأنه البطل الأساسي.. لماذا الزمن العنصر الأهم لك فنيًا إلى هذا الحد؟
الزمن هاجسى القديم مذ كنت ولداً، بدت حينها الثلاثين بعيدة بل ومستحيلة -كما تبدو المئة الآن- حتى ظننت أن التقدم فى العمر وحده لا يكفى ليبلغها المرء. ما إن دخلت الثلاثين حتى رأيت رأى العين طوفان الزمن. بدا من العبث أن نضع هذه المصدات (الساعات والتقاويم) لتكسيره وتهدئته كما نضع المصدات قبالة السواحل. وهكذا صرت مثل رسول بُعِث لينذر نفسه -لا قومه- وإن كُذِّب فى النهاية كالعادة.
وبما أنذرت نفسك؟ وما كان جوابها قبل أن تكذبك؟
أنذرتها هذا «الحيوان الرخوى العملاق» كما وصف آينشتاين الزمن، وما كان جوابى بعيداً عن جواب قوم إبراهيم « اقتلوه أو حرِّقوه» وإن لم أفعلها بالطبع، على الأقل حتى الآن، اخترت منذ زمن أن ألقى هذا الرسول فى غيابة الجب، ومع ذلك ما زلت أسمع صوته مع كل منبه للساعة. يذكرنى هذا السؤال بقصة وددت كتابتها عن رجل يمكنه سماع حركة الوقت، يسمع الوقت حين يعدو بالوضوح نفسه الذى يسمعه حين يمشى على أطراف أصابعه. تدوى فى أذنه تكتكات الساعة، كل ساعة يد أو حائط فى البلدة حتى ينتهى به الأمر فيصعد قمة جبل ليحذر الناس من الزمن.
من خلال القصة المعنونة عبدالله ناصر نعرف أنك لست عبدالله ناصر، تشبهه لكنك أذكى.. فمن أنت؟
لا أدري، عندى حيرة أليس بدون بلاد العجائب. «أعرف ما كنته هذا الصباح، لكن أظن أنى تحولت عدة مرات منذ ذلك الحين» وعندى استسلام صلاح جاهين بدون رباعياته «لو كنت عارف مين أنا كنت أقول».
حضور المرأة- الآخر، فى أعمالك يبدو كما لو أنه انعكاس لتحديق مطول فى مرآة.. هل يعنى غياب الذات أو تغييبها ضياع لصورة الآخر بالضرورة؟
حين نكتب الآخر نكتب بعضاً من أنفسنا، لأننا فى الحقيقة نكتبه من واقع تجاربنا الشخصية حتى يتداخل الأنا والآخر فيغدو من الصعب التفريق بينهما. لعل هذا ما جعل فلوبير يقول أكثر من مرة إنه مدام بوفاري.
صرحت قبلًا أنك تكتب فى عمل روائى إلى أين انتهيت فيه، وكيف يمكنك مع نزوعك إلى الاقتصاد الفنى معالجة متطلبات الإسهاب فى الرواية؟
مشروع الرواية متوقف لأجل غير مسمى ذاك أنى أكتب ما لم أخطط له، وأخطط لما لن أكتب. كنت قد انتبهت منذ زمن أننى بمثل هذا الوسواس من الاقتصاد والتقشف لا يمكننى المضى بعيداً فى عمل طويل. يرى يوسا أن الرواية لا تنفصل عن التجربة الحية ويعنى بذلك النقص البشرى وبالتالى لا يمكن للرواية أن تكون كاملة بل من شروطها الرئيسية النقص وهذا بالتحديد ما حدا ببورخيس أن يحتقرها ويضعها فى منزلة ضئيلة من الأدب. لكننى وجدت بعض الأمل مؤخراً فى رواية «اعترافات شرسة» لميا كوتو إذ بدا من غير المستحيل أن تكتب عملاً طويلاً بالطريقة التى تُكتب فيها القصص القصيرة جداً.
لماذا تكتب؟
لأسباب كثيرة أعرف بعضها وأجهل الآخر، منها محاولة فهم نفسى والآخر، مراسلة أبى الميت، تثبيت بعض الذكريات بالمطرقة والمسامير وإن استدعى ذلك بين الحين والآخر أن أطرق إبهامي.
تشع أعراض الذهان بشكلها الفنى على شخوص شخصياتك.. الحيرة الارتباك الهلوسة ما سر الولع بتلك التقنية؟
فى الحقيقة عندى من الشك ما يكفى لأعتقد بأن الكثير يعانى اليوم من الذهان، ويتفاوت الناس فى هذا بالطبع، وليس فى الأمر ما يدعو إلى القلق، بالعكس يبدو لى أنها ردة فعل طبيعية لعالم مختل «من لا يُجنُّ بهِ فليس بعاقلِ».
سعيت لتعلم الموسيقى وممارستها، ما الدافع، وما الذى تعلمته من التجربة؟
ما كنت لأتعلم العزف على آلة الأورغ لو لم أشاهد فى إحدى الحفلات مجدى الحسينى يعزفها كما لا يفعل أحد. كانت أصابعه تطير مثل الفراشات فى استعراض معجز، لكن مجدى يعزف للعين أكثر من الأذن وهكذا ملت إلى هانى مهنا. قلت فى نفسى إما أن أعزف مثله أو على الأقل أن أبتسم مثله. كان اقتناء الآلة يشبه اقتناء كلب أو قط، والحق أن الآلة الموسيقية فى حاجة إلى رعاية مثلهما أو أكثر. تعلمت من العزف ما لا يجعل أصابعى تشتبك مثل أسلاك الهاتف وما يجعل المستمع يستطيع تخمين الموسيقى وإن بصعوبة.
كيف ترى الفرق بين النوعين من الفن؟ وأيهما تفضل أن تكون.. الموسيقى أم الكاتب؟
يبدو لى الفرق بين الموسيقى والكتابة هو ما ذهب إليه أحد شخصيات أنطونيو مونيوز مولينا حين زعم أن الكاتب يراكم الماضى على أكتافه بينما يعيش العازف فى الفراغ، يكفى أن يتوقف عن العزف حتى يتبدد كل شيء. غنى عن القول إن العزف بحد ذاته لا يجعل منك موسيقياً كما لا تصنع القدرة على النسخ أو حتى الكتابة منك كاتباً. أفضّل الموسيقى بالطبع ولهذا تحديداً لا أجرؤ عليها كما أفعل مع الكتابة. ولو كان عبدالوهاب كاتباً لما كتبت أبداً.
وأنت تضع عبد الوهاب فى مكانة خاصة، ما سر هذا الولع، كيف بدأ، لماذا تراه الأفضل؟
هذه علاقة بعيدة ومتينة، بدأت مذ كنت طفلاً، بينما يغط البيت بأفراده وجدرانه فى القيلولة، كان فى التلفاز،كهلٌ فى التسعين يتحدث عن حياته ويغيّر حياتى ويصادف أنه عبدالوهاب.
عرفت موسيقاه فيما بعد قبل جوجل ويوتيوب وساوند كلاود، جمعتها من الإذاعات والاستديوهات والمسارح،ثم رحت أقرأ عنه ثم رحت أسمع ما تيسر من حواراته التلفزيونية والإذاعية ثم رحت أستمع إلى أصدقائه ومن يظهر من أبنائه حتى إذا قرأت خبراً عن متحف أقيم لعبدالوهاب فى القاهرة ركبت الطائرة وما إن وصلت معهد الموسيقى حتى وجدت المتحف بداخله مغلقاً للصيانة وقد رقّ لى الموظف فاصطحبنى إلى باب المتحف فتجولت عيناى من ثقب الباب حتى تعبت ثم انطلقتُ إلى تماثيله الثلاثة فى الشعرانى وحديقة الأوبرا والمعهد وكانت تلك أهراماتي. عبدالوهاب من الأعاجيب وقد صدق الشريعى عمار حين قال إنه كلما ذهب إلى منطقة موسيقية ليعمل فيها لاح وجه عبدالوهاب.