نادر حلاوة
نادر حلاوة


عصر الباروك والحقبة التوكتكية

نادر حلاوة

الإثنين، 30 نوفمبر 2020 - 04:09 م

 

عصور وحقب تمر بها البشرية فيستخلص المؤرخون ملامح كل عصر وصفاته فتكون مرجعا لمن يبحث عن أسباب الرقي أو التدني في كل مجتمع لذلك ستجد مصطلح مثل عصر "الباروك" في أوروبا يختصر أهم صفات هذا العصر التي بدت بوضوح في فنونه وفي نمط الحياة فيه.

 

ظهرت ملامح عصر "الباروك" في نهاية القرن السادس عشر في نمط فن العمارة و الموسيقى وفي الأزياء وفي أسلوب حياة الناس ثم تطور أسلوب "الباروك" ليأتي عصر جديد هو عصر "الروكوكو"  بطرازه الأكثر بساطة و رقياً .

 

فما الذي أفاد البشرية من آلاف الكتب والأبحاث حول هذين العصرين وغيرهما؟

 

الفائدة العظمى هي فهم كيفية تطور المجتمعات وعلاقة كل ذلك بمختلف مجالات الحياة ومن هذا الفهم لما جرى تتشكل رؤية ما ينبغي أن يجري في المستقبل.

 

ولا أدري على وجه الدقة ما الذي سيكتبه التاريخ عن الحقبة التي نعيشها والممتدة منذ عشرات السنين لكن كعادة المؤرخين في اختيار عنوان لكل عصر أو حقبة فربما سنجد مصطلح "الحقبة التوكتكية" هو المتصدر ليختصر ملامح مجتمع برزت فيه ثقافة "التوكتوك" وطغت على كافة المجالات.

 

لا تحتاج قيادة "التوكتوك" إلى الكثير من الخبرة ولا إلى الالتزام بقوانين المرور أو غيرها، وهي صفات تنعكس جليا على نطاق واسع فالفهلوة لا الخبرة هي سيدة الموقف والالتزام بالقوانين عموما يبدو أمرا شاذا.

 

أما الطابع الفني للحقبة "التوكتكية" فقد ظهر مباشرة عبر سماعات الصوت داخل "التكاتك"، ولم يكن دخول صناع أغاني "المهرجانات" إلى ساحة النجومية الفنية إلا عن طريق "التوكتوك" .

 

وهكذا شارك كل سائق "توكتوك" في صياغة الذوق الفني لقطاعات عريضة من الشعب ، بينما ألقت طبيعة مهنة قيادة "التوكتوك" ومعاييرها الأخلاقية بظلالها على مختلف المهن الأخرى فقد ترى طبيبا محترما يتعامل مع مرضاه بنفس قواعد تعامل سائق "التوكتوك" مع زبائنه ، وسترى أصداء الحوارات داخل "التوكتوك" تتردد في أرجاء المجتمع وفي وسائل الإعلام وفي غرف الاجتماعات و في قاعات الدراسة، لذلك أنتج المجتمع رموزا تتوافق مع قيم ومباديء ثقافة "التوكتوك"، رموز في مجال الرياضة بعضهم بالغ في البذاءة حتى الاحتراق، وآخرون حولوا ساحات "السوشيال ميديا" وبرامجهم التليفزيونية إلى وسيلة لنشر الثقافة "التوكتكية" بكل سطحيتها وضيق أفقها، وفي فن التمثيل استحق من يجسد القيم "التوكتوكية" المركز الأول بين أبناء جيله لاخلاصه في نشر مبادئ البلطجة و العنف وهي مبادئ تأسست عليها مهنة قيادة "التوكتوك" باعتبارها من المهن التي تعيش في عالم موازٍ بعيدا عن القانون.

 

ووصل الأمر إلى توغل الثقافة "التوكتكية" حتى في مجال الدعوة الدينية ليظهر بعض الدعاة وقد تشبعوا بهذه الثقافة مع إسباغ الطابع الديني على آرائهم، وليس داعية التحرش إلا نموذجا واحدا من نماذج عدة تنوعت بين الاسفاف والدعوة للعنف وإدمان أسلوب "السباب الشرعي" .

 

أما القيم الجمالية في الحقبة "التوكتكية"، فلن تجد لها وجودا فلا صوت يعلو على صوت "أكل العيش"، والعذر دائما للغلابة في رحلة الكد اليومي وكأن القبح قدر كل مجتمع به "غلابة"، وكأن كسر القوانين شرط أساسي لكي يسترزق "الغلابة"، لذلك عليك تحمل فوضى الشوارع والأرصفة فثمة غلابة من سائقي التوكتوك والباعة الجائلين يسترزقون، وعليك أن تعتاد تشويه كل جدران المدن بالملصقات الإعلانية والانتخابية فثمة مطابع يعمل بها "غلابة" بسترزقون منها.

 

ومفهوم "الغلابة" الخارق للقانون وللقيم الجمالية هو جزء أصيل من الثقافة "التوكتكية" التي سادت مع سيطرة منظومة "التوكتوك" بعد أن فرضت سطوتها على الشارع لتمنح حضورا قويا لمهن شقيقة تترعرع أيضا في عالم موازي لا يعرف القانون، وتجمع هذه المهن بين قواعدها الخاصة والبلطجة أو التسول في مزيج يشكل الواقع اليومي في الشارع المصري، فمن "المنادي" الذي يبسط نفوذه على منطقة سكنية بعينها لا شريك له فيها، إلى المساحة المخصصة من الرصيف التي يدافع عنها البائع الجائل بالمطواة إذا لزم الأمر، وإلى أصحاب شبكات التليفزيون الشعبي "الوصلة" وأسلاكها العابرة للشوارع عبر أسطح العمارات.

 

كل هؤلاء وغيرهم هم الآن من يرسمون مسارات التطور القيمي في المجتمع، ويحددون ثقافته العامة التي تقدم لنا كل يوم منتجاتها المتنوعة ورموزها البارزة، فهل لاحظت انتشار مفهوم اللجوء للقوةلا للقانون لاسترداد الحقوق؟، وهل يسترعي انتباه أذنيك كمية البذاءات اللفظية التي تسمعها يوميا؟ وهل أدركت كيف تحول التشجيع الكروي إلى حالة مرضية انزلق فيها حتى بعض الكتاب و الأدباء والصحفيين بحيث لن تجد فرقا بين سلوك أحدهم كمشجع وسلوك مشجع ينتمي إلى رابطة سائقي "التكاتك"؟!. 

 

جذور الحقبة "التوكتكية" قديمة قِدم كل خرق للقوانين وقِدم كل استهانة بالقيم الجمالية في الشارع والبيت و المدرسة تحت مبرر الضرورات أولى ، فهذا مجتمع لا يعتبر الجمال من ضرورات الحياة على عكس ما قد تراه داخل الأحياء الفقيرة في كثير من بلدان العالم حيث يظل الجمال حاضرا ولو بأبسط الوسائل.

 

القيم الجمالية واحترام القوانين من أبرز ملامح المجتمعات المتحضرة، أما القبح فلا يجلب إلا قبحا وبعدا عن التحضر، والاعتياد على المشاهد اليومية القبيحة هو الباب الفسيح لعبور القبح إلى كافة المجالات، ثم ترتفع الشكوى الممزوجة بالدهشة عن أسباب انتشار رموز القبح في المجتمع!!.

 

ومع غياب القانون يسود العرف الاجتماعي وهذا العرف ليس ثابتا فهو يتغير وفقا لطبيعة الحياة ومتطلباتها فإذا كان "التوكتوك" مشاركا بنصيب الأسد في صياغة أعراف المجتمع وتشكيل ذوقه العام حاليا فلا تندهش إذن حين يكتب عنا التاريخ واصفا ملامحما يُسمى بالحقبة "التوكتكية".

 

اقرأ ايضا|

شرائح الديمقراطية المقلية بالنكهة «البايدينية»

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة