طاهر قابيل
طاهر قابيل


يوميات الأخبار

لماذا نعشق بلد «الراين»؟

طاهر قابيل

الإثنين، 30 نوفمبر 2020 - 05:51 م

«كانت الجولة السياحية بين مجموعة من الجزر تستغرق 7 ساعات وأنا لاأريد أن أغيب أكثر من ساعة ونصف، وعندما شرحت للمسئول أخبرنى أن آخذ المركب الواقفة بالميناء إلى الجزيرة الثالثة وسأجد أخرى عند وصولى عائدة»

فى أول فبراير استقل القطار المتجه إلى باريس مصطحبا أسرته إلى مقرعمله الجديد نادما على ترك الجو الحالم والسلام الشامل الذى طوق أسرته مدة خدمته القصيرة بسويسرا ومتوجسا مما ينتظره فى عاصمة النورالتى كان يعرف عنها أنها تستوعب كل شئ وتستبيح كل شئ.
 من «برن» إلى «باريس»
 كان انتقاله إلى فرنسا نقلة من حياة هادئة رصينة لا تحس فيها صخبا ولا جلبة إلى بلد محموم الايقاع وهو ما كلفه جهدا كبيرا حتى يطوع نفسه لمسايرة الوضع الجديد.. فعندما كان فى سويسرا يقود سيارته قيادة هادئة وعندما يصل إلى مفترق طرق ينظرعن يمينه ويساره لعل عابرا يوشك أن يمر فيشير له تأدبا بالعبور قبله فيحييه رافعا قبعته شاكرا له.. وحين أخذ ينتهح نفس النهج فى باريس وجد من يحثه على التحرك ويسمع ألفاظا نابية تنصب عليه حتى من شرطى المرور الذى كان يلوح بالعصا البيضاء صائحا :أسرع..أسرع..أسرع..أتعتقد أنك تتجول فى نزهة.
 بدأ د. ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق عمله بالخارح بسفارتنا فى مدينة "برن" وأسعده كثيرا سلوك السويسريين وأدبهم..وأمضى الأشهر الخمسة التى قضاها بها وهو ينعم بالتطلع إلى معالمها البارزة ونوافيرها البديعة وطرقها وبيوتها عتيقة الطراز. لقد أتاح له عمله العديد من الفرص لزيارة مناطق خلابة فى ذلك الفردوس السويسرى جعله يشعر أنه يحيا أجمل فترات عمره سلاما وطمأنينة.
إحقاقا للحق لست فى إبداع الكاتب الكبير د. ثروت- رحمة الله عليه- فى اختيار الكلمات لوصف ما شاهده فى سويسرا والتى ذكرها فى كتابه "مذكرات فى الصحافة والسياسة".. ولأنى من عشاق أدب الرحلات والسيرة الذاتية فأجد متعة لا توازيها متعة فى الانتقال من بلد إلى آخر مع الكاتب ويزداد شوقى وتغمرنى السعادة عندما أكون زائرا أو زرت تلك الأماكن.. وقد كانت لدىّ فرصة عظيمة أن أسافر إلى سويسرا لعدة أيام تعد على أصابع اليد الواحدة فى مهمة عمل لحضور مؤتمر طبى لنتائج علاج لمرض الأورام والذى عقد بمدينة بازل القريبة من فرنسا وألمانيا نظمته كبرى شركات صناعة الدواء بالعالم "لاروش" وذلك منذ مايقرب من 20 عاما بعد مرور حوالى نصف قرن على رحلة الدكتور ثروت إلى البلد الأوروبى.. والغريب أنى وجدت السويسريين كما شاهدهم يحافظون على قيمهم وأدبهم وحبهم للعمل..ومبانيهم التاريخية الأثرية فى تنسيق حضارى بديع مع الجديد.
  حكاية «الفان والتاكسى»
 قبل أن أصعد إلى الطائرة متجها إلى سويسرا تناولت وجبة سريعة بمطار القاهرة عبارة عن شطيرة من البيتزا وعلبة كنز من البيبسى.. ووجدتنى عندما جاء وقت الحساب أدفع ما يقرب من 100 جنيه غير البقشيش وهو ثمن مرتفع فى ذلك الوقت.. وبعد رحلة طيران استغرقت حوالى 4 ساعات ونصف تجولت فى مطار "زيوريخ" قبل صعودى إلى طيران داخلى إلى مدينة "بازل" حيث مقر الشركة.. وتناولت وجبة أخرى سريعة عبارة عن كوب من "النسكافيه وقطعتين من "الباتيه" الساخن" بعد أن غيرت الدولارات الأمريكية إلى الفرنكات السويسرىة..وهالنى بالمطار أن البائعة أخذت تقلب فى القطع المعدنية التى بين يدى وحصلت على أقل من 10 فرنكات مع ابتسامة وعبارات شكر.. استغرقت رحلة طيرانى "الثانية" 45 دقيقة اكتفى الطاقم فى الرحلة القصيرة بتقديم قطعة "شيكولاته" وزجاجة من المياه.
 وصلت إلى الفندق فى الحادية عشرة مساء بعد أن اتخذت وقتا فى اختيار وسيلة موصلاتى بعد أن شاهدت عربات "تاكسى" وأخرى "فان" تنتظر الركاب لتقلهم داخل المدينة..اعتقدت مثل معظم المصريين أن الفان أغلى محاولا انتظار سيارة تضع علامة التاكسى.. وجاء حظى ودورى فى "الفان" وأخذت طول الطريق أحسب الفرق فى الأسعار وأتمنى إن كنت قد وجدت اوتوبيسا أو مترو للأنفاق لأصل إلى الفندق..وضحكت على نفسى وظنى السيئ عندما وصلت للفندق ودفعت فقط ما قاله "العداد" مع ابتسامة من السائق وهو يعيد لى الباقى من حقيبة "الفكة"التى يحملها دائما ومعها إيصال بتكلفة الرحلة التى لا تختلف بين الفان والتاكسى.
 بعد وصولى قدم لى موظف الاستقبال رقم ومفاتيح الغرفة مؤكدا أن الحجز بالإفطار فقظ وأعطانى خريطة للمدينة والعنوان وكارت هدية حتى أتمكن من ركوب الترام والأتوبيس مجانا خلال تواجدى بالمدينة مع الإشارة لبعض الأماكن التى يمكن زيارتها.. وشكوت للموظف "المبتسم دائما" بأنى مدخن "شره" ومن الصعوبة أن أنزل من غرفتى إلى مدخل الفندق للتدخين.. فقال لى ليس لدينا غرف للمدخنين ويمكنك فتح "الشباك" والبقاء خارجه للتدخين.. فوجدت أن الصعود والنزول والإحساس بالدفء بالاستقبال أفضل من البقاء مع السيجارة فى البرد القارص.. وطلبت من موظف الاستعلامات أن يدلنى على مطعم لتناول وجبة العشاء فأخبرنى أن محلات الأكل فى "وسط البلد" وهو لا يعرف إن كانت مازالت تفتح أبوابها أو أغلقت.. فسألته عن "سوبر ماركت" فاعتذر بأنها تغلق بالثامنة فقلت أريد أن اشترى "بسكويت" لأنى جائع فقام وأحضر لى أصابع "موز" وقطعتين من الكيك من وجبة "الإفطار" التى كان يجهزها فتناولتها وأنا سعيد وذهبت لغرفتى لأحصل على قسط من النوم والرحة بعيدا عن التدخين بعد رحلتى سفر تقترب من 12 ساعة.
 تناولت طعام الإفطار بالهواء الطلق وسط سائحين سعداء وموظفون بسطاء يقدمون الخدمة للزبائن وتعلو وجهوهم الابتسامة وينشرون بين الحاضرين جوا من التفاؤل والسعادة..وغادرت الفندق إلى مكان المؤتمر الذى لا يبعد كثيرا عنه وشاهدت مجموعة من المدخنين يقفون خارح المبنى وبجوارهم طفايات معلقة على الحائط ليلقوا فيها أعقاب السجائر.. وفى مدخل القاعة استقبلنى مجموعة من الشباب والفتيات مع ابتسامة لتسجيل الأسماء والبيانات الصحفية والحصول على بطاقة المشاركة والأوراق التى تتضمن كلمات المتحدثين وجدولا يوضح كل فترة زمنية يستغرقها كل متحدث والتى لا تتعدى سوى دقائق.. وتخصيص وقت للأسئلة وفترة للقاء وسائل الإعلام مع مديرشركة "لاروش".. وجولة فى متحف شركة الدواء العملاقة التى بدأت تاريخها بصناعة دواء "الكحة" وذلك بعد تناول طعام الغداء الذى كان فى الثانية عشرة ظهرا.. وأطلب من مرافقى "بروشور" عن محتويات المتحف بعد أن علمت أن البدايات كانت صناعة أدوية البرد والانفلونزا التى يحتاجها السوسريون.. وقبل أن أغادر بعد أن استمتعت بمعلومات جديدة خاصة عن محاربة السرطان والنجاح فى القضاء على «سرطان الثدى» تم إهداء كتاب عن تاريخ الشركة والمراحل التى مرت بها منذ بداية القرن الماضى تضمن العديد من المعلومات والصور التى أعتز بها إلى الآن.. أتجول فى شوارع وأدخل المحلات بمدينة "بازل" الجميلة بعد أن تناولت وجبة من "المكرونة "اللذيذة جدا بأحد المحال فى شارع تم تنسيقه بطريقة جيدة واقتطاع جزء صغير من الرصيف للجلوس به بضع "تربيزات" وترك المساحة الأكبر للمشاة تحيط بى مبانى وبيوت يحافظون على أصالتها وطرازها المعمارى الفريد.. وتهفو نفسى إلى تناول "الآيس كريم" ويأخذ منى البائع "فرنكين" وأستمتع بأحلى مذاق له.
الأب وطفله
 أنت فى سويسرا ضيف مرحب به فى كل مكان ويتسابق الجميع فى الشوارع والمحال وبالفنادق أو المطاعم وفى الطرقات على خدمتك وإسعادك.. ومن المشاهد التى ما زالت عالقة فى ذهنى أب يصطحب طفله الصغير إلى ماكينة ضخمة لفرم المخلفات بأحد الشوارع والطفل يلهو سعيدا بإدارة المكينة ليتعلم منذ طفولته أن هذا هو مكان لفضلات المنازل وليس قارعة الطريق.
 الشوارع هناك منظمة رغم ضيقها فحارة المرور فى المنتصف لوسائل النقل العام ولها الأولوية فى أى مكان ولعربات النجدة والإسعاف.. والانتظار نصف السيارات على الرصيف ونصفها الآخر بالشارع ومع كل مدخل لشارع جانبى جزء مرتفع من الأرض ليجبر السائق على التهدئة عند دخوله أو خروجه..ولم أشاهد "توكتوك" أو" ميكروباص " أو انتظار فى الممنوع.. وقد سخرت من نفسى عندما توقفت السيارات عندما وجدتنى متجها إلى خطوط المشاه فى شارع ليس فيه إشارات مرور انتظارا لعبورها وتعلمت أن الأولوية للمشاة.
 المدينة الساحرة
  كانت متعتى أن أسير على نهر "الراين" لأشاهد إبداع الخالق وكيف اهتم السويسريون بالحفاظ على نقاء مياهه وآثارهم وهويتهم المعمارية حتى أنهم عندما يبنون مبنى جديدا يجب أن يتماشى شكلا مع المنزل المجاور..وكان اليوم التالى قبل المغادرة جولة سياحية بإحدى المدن القريبة انتهت بوجبة عشاء من الأسماك.. كان علينا أن نركب الترام للوصول إلى محطة "السكك الحديدية" أو بمعنى أدق القطارات التى تعمل بالكهرباء..ولأنه بلد متحضر فليس عليك أن تعد المحطات على اللوحة وتسأل جارك "احنا فين"لأنك قبل أن تصعد لوسيلة المواصلات يكتب لك أنك ستصل للمكان "الفلانى" بعد عدد من الدقائق لايزيد أوينقص..أما القطارات هناك فحكايتها حكاية فالمكان متسع بينك وبين من يجلس أمامك وبينكما "ترابيزة" لتضع عليها احتياجاتك والمواعيد "مضبوطة" بدون تأخير لو حتى ثانية..ولا ترى "الكمسارى" إلا مرة واحدة يضغط فيها "مبتسما" على التذكرة "بدباسة "وحتى لو جلست خطأ بالدرجة الأولى يتعامل معك بأدب جم معتبرا أنك اخطأت بدون قصد ولست متآمرا ومنتهزا الفرص لتجلس فى الأفضل. المهم وصلت"المدينة الساحرة" التى رغبت فيها ولأننى لا آكل غير اللحم البقرى حاولت ان أشرح للبائعة فلم تفهمنى لأنها لا تتحدث الإنجليزية فقامت بتقليد "صوت الخنزير" وأدركت طلبى.. وكانت الجولة السياحية بين مجموعة من الجزر تستغرق 7 ساعات وأنا لاأريد أن أتغيب أكثر من ساعة ونصف وعندما شرحت للمسئول فاخبرنى أن آخذ المركب الواقف بالميناء إلى الجزيرة الثالثة فأجد آخر بعد وصولى عائدا..وهو ما حدث بالدقيقة والثانية.. فالوقت لدى السوسريين هام جدا حنى أنهم أخذونى فى جولة سياحية أخرى بالمدينة مدتها 45 دقيقة بالتمام والكمال وشاهدت خلالها الأسواق وأشاروا لى على مبنى نوافذه من الخشب القديم تغطيها قطع من الصفيح وقالوا إنه كان سجنا وتحول إلى فندق يقبل عليه الزائرون بعد أن تركوه بحالته القديمة..وأشاروا إلى مكان آخر فوق ربوة عالية مؤكدين أن ملكة بريطانيا قضت فيه عدة ليالٍ عندما زارتهم. تركت المكان الساحر وأنا أتمنى ألا أتركه.. وعدت إلى "بازل" لأتجول بين المحال واشترى ما أريد من هدايا قبل السادسة مساء ميعاد الإغلاق فرغم أن الشمس تغيب بالعاشرة مساء واستمتعت بالسير على النهر ومشاهدة أكثر من ممشى يجلس عليه مالا يملكون دفع تكاليف الجلوس فى مقهى..وقلت لأصدقائى عند عودتى للقاهرة بأنى لو تمنيت أن أعيش فى بلد غير مصر ستكون فى بلد نهر "الراين". فشعبها متميز ومبانيها أصيلة رائعة الجمال.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة