علاء عبدالوهاب
علاء عبدالوهاب


يوميات الأخبار

سهرة تنساب أحداثها من الذاكرة وكأنها طازجة!

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 01 ديسمبر 2020 - 07:26 م

فى هذا اليوم، طبعنا مليون نسخة، نعم واحد صحيح يحتضن على يمينه ستة أصفار، ووزعنا هذا المليون دون نسخة واحدة من مرتجع.

ربما لا استعيد             ذكرى هذه الليلة، بقدر ما تُستعاد من ذاتها، بفعل ملابسات مشابهة فى جوها العام- أقصد الحرب الشرسة بين ترامب وبايدن- لكن ما اتذكره مختلف إلى أبعد مدى فى تفاصيله.

يجيء المهرجان الانتخابى الأشهر والأكثر سخونة فى موعده تماماً، يقتحمنا دون استئذان مرة كل أربع سنوات، لكن ما حدث قبل ٤٠ عاماً، كان له نكهة لا تتكرر بالنسبة لى، ولأكثر من سبب.

انها تجربتى الأولى مع حدث بهذاالحجم، ومن موقع ثقة أولانى إياها رئيسى فى العمل، وحملنى مسئولية بقدر ما اسعدتنى، فانها حفزت كل إمكاناتى وحواسى.

يومها كنت فى مطبخ أكبر جرنال فى بر مصر تاثيرا وتوزيعا، وفى موقع يمكننى من رؤية للحدث، وكأنى جزء منه، ثم إن المشهد -يومذاك- كان له ما يميزه عن سوابقه على الأقل لنا كمصريين، إذ تتعاظم أهميته فى ظل توجهات قيادة سياسية تتبنى مقولة إن امريكا تملك ٩٠٪ من أوراق اللعبة فى الشرق الأوسط، وقد بدأت المياه الراكدة تتحرك فى ظل ادارة چيمى كارتر، صديق الرئيس السادات، وشريكه فى «خطة السلام».

من هنا، فان رهاناً على نجاح كارتر أمام منافسه ريجان، لم يكن من جانب مصر الرسمية فقط، وانما له صداه بين بعض النخب، واوساط من الجماهير، وبالمقابل كان هناك من يرى أن احداً فى أمريكا أو غيرها، لن يسلم بالحق من تلقاء نفسه، أو لأنه حق، وانما استجابة لقوة أصحابه، أقصد القوة بمعناها الواسع والشامل.

آنذاك، كانت صالة تحرير «الأخبار» تعكس- بمن فيها- الروئيتين، ليس بشكل متوازن باعتبارها التعبير اليومى عن مؤسسة قومية، تتبنى التوجه السياسى العام، لكن لابأس من هامش متاح لأصحاب وجهة النظر الأخرى، أقله فى الحوارات بين الزملاء على الطاولة.

الذاكرة تنشط

الآن أتذكر حدثا عمره ٤٠ عاماِ، لكن مازال يحتفظ فى جوانحى بطزاجته، وكأنه كان بالامس، بالمعنى الحرفى للكلمة.

الزمان: ٤ نوفمبر ١٩٨٠
المكان: صالة تحرير«الأخبار»، بالطابق الأول من المبنى التاريخى للدار العريقة، وهى مطلة على شارع الصحافة بنوافذها الزجاجية، وشكلها الدائرى، المتناغم مع التصميم الاسطوانى العام لعمارة المبنى.

الحدث: انتخابات الرئاسة الامريكية.

المهمة: تغطية متميزة، تنفرد بها «الأخبار»،  رغم أن الحدث متاح للجميع، وتلك هى المعادلة الصعبة، الحاكمة لاداء فريق العمل -بمجموعاته المتتالية- على مدارنحو ٢٤ ساعة، من الصباح الباكر ليوم الثلاثاء ٤ نوفمبر، وحتى انتهاء الفرز، ومعرفة الفائز، مع بشائر صباح الاربعاء ٥ نوفمبر، طبقاً لفروق التوقيت.

لم أطق صبراً

المفترض أننى ضمن المجموعة التى سوف تحمل على عاتقها السهر حتى تظهر النتيجة الحاسمة، إلا أنى آثرت الحضور قبل موعدى بساعات، كى لايفوتنى أى من وقائع وأحداث يوم لايتكرر إلا كل ٤ سنوات مرة.

استيقظت باكراً -كالمعتاد- أطللت من شرفتى احتسى كوباً من النسكافيه الساخن، فى صباح خريفى بامتياز، كانت بقية من ضباب عالقة ماتزال، تؤكد أن ثمة «شبورة» كثيفة كست السماء طويلاً، بينما تجاهد الشمس على استحياء، لتمرق من بين سحب تنبيء  بأمطار خفيفة كالتى هطلت زخاتها فى اليوم السابق.

لم اطق صبراً، بعد أن تناولت أفطاراً خفيفاً،  واستمعت لنشرة اخبارية من الراديو، سرعان ما ارتديت ملابسى، وبعد دقائق كنت اجتاز بهو المبنى العريق للدار قبل اذان الظهر، صاعداً درجات السلم الضيق فى قفزات، وما أن القيت التحية حتى بادرنى رئيسى مستنكراً وابتسامة خفيفة تكسو ملامحه:

ما الذى اتى بك الآن؟ هل نسيت انك ضمن مجموعة السهرة، وانها ليلة طويلة جداً، غالباً ستستمر حتى صباح الغد؟

لم أنس مطلقاً، لكنه الشغف والفضول تملكانى، وخاصمنى الصبر، فقررت أن أشارك من البداية.

.. وتتوالى الطبعات

دارت العجلة.

فى موعدها المعتاد، ولدت الطبعة الأولى من «الأخبار»، وكانت عنوانها الرئيسى، وباللون الاحمر: «كارتر يواجه معركة صعبة».

كأننا نؤازره، وربما نواسيه!

فى التفاصيل، قدمنا للقارىء متابعة دقيقة لسيرالعملية الانتخابية، وتطور اتجاهات ومعدلات التصويت ساعة، بساعة، مع رصد تكهنات محطات التلفزة، وآراء كبار المحللين.
كان ضمن العناوين البازة -فى العدد- النداء الأخير لكارتر، وكأنه يستعطف الناخبين: «لقد تعلمت الكثير، وسأصبح رئيسا أفضل».

بينما تنطلق كلمات منافسه ريجان، كالرصاص، وبكل ثقة يؤكد:

«الناخبون المصابون بالاحباط والغضب يجب ان ينتخبوني».

بين الطبعتين- الأولى والثانية- توقفت ماكينة الطباعة لتعديل الارقام، واضافة رتوش تترجم آخر تطورات التصويت، لتخرج طبعة معدلة، دون اشارة إلى ذلك، باعتبار ان «الغيار السريع»، لايستوجب تغيير رقم الطبعة، وتكرر الأمر اكثر من مرة بين الطبعات التالية.

بذات المانشيت، واضافة تعديلات جوهرية، انتهينا من إعداد الطبعة الثانية، رغم أن المؤشرات كانت تؤكد تقدم ريجان باطراد وثبات. ربما كان ثمة عبء نفسى يقف حجر عثرة، امام تغيير يتلاءم مع مايشبه اليقين بحسم الفوز لصالح ريجان!

ثم كان لابد مما ليس منه بد، رغم أن الهوى أميل لدعم كارتر، وتمنى فوزه، واعادة انتخابه، لاستكمال مسيرة بدأت فى المنطقة، فإن الحقائق على الأرض، جاءت بما لايشتهى السَّفن المصرى، فكان مانشيت الطبعة الثالثة فى الخامسة بعد الفجر، يمهد لاعلان الحقيقة: «ريجان يتقدم على كارتر».

وفى السابعة صباحاً انتهينا من الطبعة الرابعة، وكان المانشيت: «فاز ريجان بالرئاسة الأمريكية» فكان ذلك ايذاناً بنهاية السهرة الطوييييلة.

مليون نسخة

قبل ٤٠ عاماً، لم نكن نعرف الانترنت بعد، وبالطبع لم نتمتع بالتجليات الثورية فى عالم السوشيال ميديا، التى توالت على مدى العقود الأربعة التالية.

إلا أن ثمة خطًا تليفونىاً كان مفتوحاً على مدار الساعة بين مراسلنا اللامع أحمد أبوشادى فى واشنطن، وصالة التحرير فى القاهرة، ينقل لنا عبره، دقيقة بدقيقة كل ما يحدث خلال نحو ٢٤ ساعة، والافضلية المطلقة لرسائل أبوشادى، رغم تعدد خدمات  وكالات الأنباء العالمية، ونشاط جم للزملاء بقسم الاستماع السياسى، وبمنتهى اليقظة والشعور بالمسئولية.

كانت مطبعة «أخبار اليوم» تشغل «البدروم» والدور الأول من مبنى المؤسسة الوحيد - حينذاك - وكانت عيوننا تلمع، ودقات قلوبنا تمتزج بهدير محركات اسطول سيارات التوزيع، الذى يتحرك بنشاط خلايا النحل، مع ولادة كل طبعة، حاملاً المحصول الجديد، بحصاده المتميز، متجهاًَ إلى حيث تصل اعداد الجريدة فى مواعيدها طبقاً لخريطة زمانية /مكانية، تم رسمها بدقة.

فى هذا اليوم، طبعنا مليون نسخة، نعم واحد صحيح يحتضن على يمينه ستة أصفار، ووزعنا هذا المليون دون نسخة واحدة من مرتجع، بل تلقينا مكالمات تليفونية تطالبنا بالمزيد.

السوق كانت عطشى لمن يروى ظمأ قاريء متلهف لمعرفة تفاصيل، تضعه فى أجواء الانتخابات الأخطر فى العالم، وكأنه فى بؤرة الحدث، الأمر الذى كانت «الأخبار» تدركه تماماً، وتستطيع انجازه.

 كان الوقت غير الوقت، فلافضائيات، ولا انترنت، كان المتاح فقط التليفزيون الرسمى بقنواته الثلاث، والصحف الورقية المحدودة، كانا معاً، همزة الوصل بين ما يحدث فى اركان المعمورة، ومن يريد أن يستقى معلومة أو يحيط بخبر.

بين الناس

صباح الاربعاء، كان اكثر دفئاً، هكذا احسست - عندما خطوت أولى خطواتى هبوطا على درج الدار- بأشعة شمس أكثر حنواً مما كانت عليه بالأمس، تتسلل ناشرة نورها، وكأنها مكافأة عن سهر وجهد نستبدله بمايبث فى أوصالنا نشاطا وهمة.

صافحت عينى وجوه من ناموا ملء جفونهم، ثم استيقظوا دون أن يداخلنى للحظة أى حسد، فقد واصلنا النهار بالليل، ثم استقبلنا نهاراً جديداً بمنتهى الرضا والسعادة، واضاع الانجاز المتميز الاحساس بالتعب والمشقة.

قررت ألا استقل سيارة الجريدة، تحركت سيراً على قدمى، تداعب وجهى نسمات طرية، وبعد دقائق معدودات كنت فى وسط المدينة، وعندما وجهت بصرى الى «فروشات الصحف»، لم أجد اثراً لـ «الأخبار»، يبدو أن القراء التهموها التهاماً، لاشك أنهم وجدوها وجبة لامثيل لها لاسيما طبعتها الأخيرة.

ما لبثت أن بلغت سيدنا الحسين، فلماذا لايكون افطارى فى الحى الشعبى الجميل بناسه ومبانيه وعبقه، وكل مافيه؟

بينما أحتسى «الشاى المنعنع»، ترامى الى سمعى ردود أفعال من قرأوا، أو استمعوا الى نتيجة الحدث الأمريكى الكبير، ولم أستطع اخفاء فرحتى عندما وجدت «الاخبار» فى ايادى معظم من يحيطون بى. ذات الانقسام الذى كان قائماً فى صالة التحرير، ترصد بسهولة صداه فى الشارع:

- لحد كده «كارتر خيره».. كان يريد أن «يلهف» نوبل!
- رغم كل شيء، كانت عين كارتر على سلامة اسرائيل.
-ياناس.. قال «معونة أمريكية»، بالذمة كم قدم كارتر لاسرائيل، فوق ما كان يقدمه من سبقوه.
- لماذا كانوا يكابرون؟ نجاح ريجان لم يكن مفاجأة إلا لمن كان كارتر هواه!
- لم يفز الفيل الجمهورى، على الجحش الديمقراطى، انما الممثل تفوق على الفلاح!

امريكا أم العجائب

.. وتوالت التعليقات الذكية، وسط ضحكات بعضها إلى حد القهقهة، وأخرى وقورة أقرب للابتسام، وهمست لنفسي: ترى هل يمتد الأجل إلى انتخابات أمريكية قادمة؟
ثم شاءت ارادة الله أن أشهد بعدها العديد من المهرجانات الانتخابية هناك، حتى وصلنا لأغربها، وأكثرها اثارة وبهلوانية الى حد الهيستريا احياناً، وافتقاد أبسط حدود الوقار اغلب الوقت، فى عصر سيادة الانترنت،لنشاهد ما يحدث بين ترامب وبايدن على بعد آلاف الاميال وكأننا فى قلب الحدث.
إنها امريكا أم العجائب.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة