طارق عبيد
طارق عبيد


المتقاطع والمتوازي في الأمن القومي وسؤال الهوية

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 02 ديسمبر 2020 - 04:54 م

 

في مشهد النهاية من  مسلسل ارابيسك رائعة مولانا العارف بمصر  أسامة أنور عكاشة، يتساءل على لسان حسن اربيسك بطل المسلسل عن هوية مصر وكأنه يعرف أن اضطراب الهوية هو كعب أخيل، فيه مكمن ضعفنا ونقطة اختراقنا تحت مسميات كثيرة منذ فجر التاريخ، لكن كي يكون الكلام أكثر تحديد لابد أن نعرف ماذا نعني بالأمن القومي، وهل الهوية جزء منمحدداته، ولماذا تبدوا بعض ملفاته متناقضة أحيانا أو بالأدق متقاطعة ؟

بدايةً مصطلح الأمن القومي من أكثر المصطلحات التي تم استهلاكها حتى انه فقد الكثير  من معناه، حتى أصبح فهمه قاصرا عند البعض وضبابي عند البعض الأخر والحقيقة أن الأمن القومي مفهوم متداخل وله أكثر من مستوى يمكن تقسيمهم بالشكل الأتي:
المستوى الأمني: وهو المستوى الأكثر شيوعا ويقصد به الاستعداد العسكري والمعلوماتي لمواجهة اي خطر محتمل تتعرض له الدولة بشكل مباشر او يهدد مصالحها الحيوية.

الجبهة الداخلية: كي يتحقق الاستعداد لمواجهة المخاطر لابد من وجود  جبهة داخلية متماسكة، فلا يمكن لدولة ما تواجه خطر وجبهتها الداخلية منقسمة حول تعريف هذا الخطرأو طبيعة وجودة او أولوية مواجهته. 

السلم الاجتماعي: وهو من أكثر محددات الأمن القومي أهمية وعامل اساسي في استقرار الجبهة الداخلية، لذلك  لابد من الحفاظ على السلم الاجتماعي بين مكونات المجتمع  على المستوى السياسي/الاقتصادي/العقائدي، من خلال الحفاظ على مسافات معقولة بين الطبقات بما يضمن إمكانية الترقي الاجتماعي والحفاظ على قوام الطبقة المتوسطة  المكون الأعظم لأي مجتمع، ضمان حرية العبادة بعيد عن الاضطهاد الدينى أو الطائفي، ثم ضمان وجود آلية سليمة لتداول السلطة تجنب الدولة السقوط في الأزمات أو الاحتراب الأهلي.

المحيط الحيوي: الأمن القومي عبارة عن دوائر تحيط بأي دولة تتضمن أمن حدودها مع الدول المجاورة، بما يضمن عدم وجود أنظمة او جماعات تعادي  وتهدد الدولة داخل دائرة الأمن القومي القريبة( ليبيا و السودان و فلسطين نموذجا)، ثم تتسع تلك الدوائر لما هو ابعد من الحدود كي تغطي تهديدات حيوية مثل مصادر المياه (اثيوبيا نموذجا) او الثروات الطبيعية (تركيا وغاز المتوسط نموذجا) أو تهدد الحلفاء الداعمين ( الخليج نموذجا).

الهوية والأمن القومي: أسوأ سيناريو ممكن ان يواجه دولة ما هو ان يكون جزء من شعبها  متعدد الولاءات أو حتى فاقد الولاء، وان يسبق ولاءه لوطنه ولاءات أخرى تحت مسميات مختلفة  مثل الإنسانية/الديمقراطية/الدين. في سنة ١٩٢٨ تشكلت أول نواه لأكبر خطر هدد الأمن القومي المصري في العصر الحديث، ولادة جماعة الإخوان المسلمين. خطورة الجماعة أنها أرست مفهوم جديد للولاء متجاوز الولاء للوطن، الولاء هنا يكون للدين بالفهم الإخواني، ثم الولاء للجماعة ثم تأتي اي ولاءات أخرى لاحقة، في بداية نشأة الإخوان فكرة تعدد الولاءات لم تكن واضحة لأمور متعلقة بنمط الحكم الملكي الذي لم يرى  في الإخوان تهديد الا في ازدياد نفوذها  السياسي على الأرض أو لجوءها للعنف أحيانا، لكن خطر الاخوان الحقيقي على الهوية تزامن مع بداية ثورة٥٢ عندما أصبحت مصر جمهورية لها ملامح قومية وهوية مستقلة بعيده عن النفوذ العثماني القديم والملكية الخاضعة للاحتلال، هنا بدأ الصراع يظهر بين الإخوان أصحاب الولاء المزدوج المتجاوز لفكره القومية وبين الدولة المصرية.بدأ تأثير الاخوان يظهر في محاولتها المستميتة تغيير الهوية المصرية و محاولة إظهار الدولة في شكل الكاره للدين. 

تعامل الأمن القومي مع ملف الهوية والأخوان وخطرها اختلف من نظام حكم لأخر، مرة تحجيم الإخوان ومرة بمحاولة احتواءهم ، في هذا الإطار تم ارتكاب خطايا في حق الامن القومي المصري ، انتهت بتمدد الفكر الإخواني الفاسد في قواعد المجتمع وما تبع ذلك من خلق ولاء مضطرب عند معظم الناس بين الدين و الدولة فيما يشبه حالة الفصام، ترتب على ذلك خلق أجيال تكفر بالدولة و يتجاوز ولاءها للجماعة وما تمثله الولاء للدولة، في اكبر اختراق للأمن القومي المصري .

لذلك فإن الحفاظ على الهوية المصرية وتنقيتها من أي فكر شاذ من أهم  مقتضيات الأمن القومي، لابد ان تبقى هويتنا مصرية فقط، هوية جامعة  تستوعب وتهضم روافد كثيرة،فيها  تعدد أديان وأعراق وثقافات، مصر بوتقة كبرى ينصهر فيها كل شيء ليخرج بروح وشكل مصري خالص وان اي محاولة من اي طرف الحجر على الهوية المصرية ومحاولة مصادرتها هو  اخلال عظيم بالأمن القومي ونوع من العبث.

المتقاطع و المتوازي في مسألة الأمن القومي: احيانا يضطر صانع القرار للمناورة بها مش محسوب في التعامل مع قضايا الأمن القومي فيما يشبه التناقض الذي يربك البعض ،لكن الحقيقة انه تقاطع بين الملفات وليس تناقض، لكي تتضح الصورة أكثر سنطرح بعض الأمثلة لهذة الملفات المتقاطعة:

•    بعد ٢٥ يناير حاول المجلس العسكري احتواء الإخوان في مناورة شديدة للنجاة من سيناريو صدام كان كفيل بإدخال مصر في حرب أهلية نتيجة الدعم الدولي والإقليمي للإخوان، وشعبية على الأرض كونتها صورة مكذوبة للمتدين الوسطي الناجح اعتمادا على نموذج أردوغان/تركيا. وقتها كان معظم الناس تتحدث عن تحالف بين المجلس العسكري والإخوان فيما يتناقض مع مبادئ الجمهورية وشرعية نظام امتد من يوليو حتى سقوط مبارك، لكن الحقيقة أن هذا ابعد ما يكون عن الحقيقة، وانه مجرد تقاطع لحظي ومناورة بهامش محسوب فرضها الظرف التاريخي والأمني والدولي، و التي أكدتها الأيام بعد ذلك ابتدا من حل مجلس شعب  الأخوان و إصدار الإعلان الدستوري المكمل في محاولة لتحجيم الإخوان ومنعهم من السيطرة على أركان الدولة،  ثم اللحظة الأعظم في التاريخ المصري ٣٠ يونيو. 

•    المثال الثاني كان محاولة احتواء الممولين من شباب الثورة بالرغم من التسجيلات والدلائل القاطعة على انحرافهم و استغلالهم من قبل اطراف خارجية، لكن اللحظة كانت تقتضي تقاطع مافي هذا  الملف لاستيعاب الموجة الثورية ومحاولة تحييدها بما يخدم الامن القومي الشامل.

•    الإفراج عن المتهمين الأمريكان في قضايا التمويل الأجنبي، وقتها تعرض المجلس العسكري لهجوم شديد، وبدت الخطوة متناقضة وغير مفهومة لكن الحقيقة انها كانت مثال أخر للتقاطع في ملفات الأمن القومي، حيث كانت تلك المناورة للضغط على الأمريكان للافراج عن صفقة طائراتF16 Block52  المتأخرة وبعض قطع الغيار المهمة لدبابات الابرامز M1A1 ، هذا التقاطع بالإفراج عن متهمين  اسهم بشكل قاطع في  حماية للأمن القومي بمفهومه الأوسع.

•    وجود حزب النور في مشهد ٣٠ يونيو: و كان السؤال كيف قمنا بثورة على فصيل إسلام سياسي  ثم يكون حزب النور السلفي في صدارة المشهد، هذا التقاطع كان الأهم والأخطر، الدولة رأت انه ليس من الحكمة تجييش الإسلاميين في معسكر واحد، وخاصة ان الاتفاق بين الإخوان والسلفيين اكبر بكثير من الاختلاف و كان من الممكن أن تنضم قواعد حزب النور للاخوان فيما يشكل ضغط كبير على الامن القومي وعلى صورة مصر التي "تحاربالاسلام!"، هذا التقاطع الذي يبدو غير مفهوم عرض الدولة لهجوم رهيب من داخلمعسكر ٣٠ يونيو، رغم انه تقاطع فرضه الظرف السياسي والامني.

•    تعيين البرادعي نائب لرئيس الجمهورية و اسناد تشكيل الوزارة لمجموعته، كان السؤال عندالبعض كيف تسمح الدولة للبرادعي المتهم بالتخاذل في اروقة اجهزة الامن بتولي شئوونالبلاد، هذا التقاطع كان مطلوب وقتها لاستخدامه كوجه له حضور دولي ينفي عن 30 يونيو صفة الإنقلاب  ومحاولة وضعه  امام تحديات الامن القومي الحقيقية واجبارة على  اظهار انحيازة الحقيقي و والذي انتهى بمشهد خذلانه العظيم  و هروبه  من المركب بعد فضرابعة  لينتهى دور السياسي من المشهد المصري  للأبد.

الشاهد ان ملفات الامن القومي لا تسير دائما  في خطوط متوازية واضحة،  واحيانا تتقاطع مع ملفات أخرى والتي تبدو غير مفهومة في حينها، وان المخفي في ملفات الامن القومي أكثر بكتير من الظاهر و أن الصورة الكاملة دائما عند صانع القرار ، هذا لا يعني بالضرورة ان القائمين على الحكم معصومين من الخطأ او سوء التقدير، لكن المقصود أن  ملفات الأمن القومي لدولة بحجم مصر وموقعها الجغرافي و الإقليمي هي ملفات شديدة التعقيد والتداخل وفهمها يحتاج الكثير من الصبر و والتحليل والهدوء في التناول .


 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة