جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

الوحش الجميل

جمال فهمي

الخميس، 03 ديسمبر 2020 - 06:50 م

أما عن قبح الشكل وجمال الجوهر فإن من اكثر الأعمال الفنية بلاغة فى تجسيد هذا المعنى، فيلم «الحسناء والوحش» الذى كتب له السيناريو وأخرجه جان كوكتو (1889 ـ 1963) هذا المثقف الفرنسى النادر ومتعدد المواهب (شاعر وكاتب ورسام وموسيقى وسينمائي).
حشد كوكتو فى فيلمه (المأخوذ عن رواية أطفال مشهورة) بمشاهد ومعان أكثر تفلسفا وعمقا بكثير من المعنى البسيط الراقد فى ثنايا الحدوته الأصلية، وهذا ما جعل النقاد الكبار الذين لم يخفوا فى البداية استنكارهم لاختيار هذا المبدع الكبير تلك الحكاية ليعاود بها نشاطه السينمائى فى وقت (1946) كانت بلاده ماتزال تلملم جراح حرب التحرير من الاحتلال النازى، للتراجع فقد قلب هؤلاء موقفهم السلبى من الفيلم وتحولوا إلى الإشادة والترحيب المتحمس بهذا العمل الفنى الساحر الذى حاول تأسيس مفهوم جديد، أكثر إنسانية وأشد رهافة، للقبح والجمال، والخير والشر.
و.. ربما كان اهتمام جان كوكتو بالشرق وافتتانه بطرق سرد حكاياته وأساطيره (كتب نصا مميزا عن مصر بعنوان «معهلش») هو سر افتتاح سيناريو الفيلم على النحو نفسه الذى تبدأ به حواديتنا، أى على طريقة: كان ياما كان فى سالف العصر والأوان، تاجر واسع الثراء رزقه الله بأربعة أبناء أولهم هذا الشاب الشقى اللعوب المدعو «لودفيك»، وثلاث بنات هن «إدلاييد» و«فليسي» الشرير تان المدعيتان، بخلاف أختهم الثالثة والأصغر «بيل» التى تبدو على النقيض التام من أخواتها جميعا، فهى إلى جمالها الأخاذ، رقيقة المشاعر وخلوقة وطيبة جدا (تشبه «سندريلا» فى الحدوتة المشهورة) وقد جعلتها هذه الصفات مضطهدة ومعذبة ومحسودة من شقيقتيها.
تبدأ وقائع مختصر الحكاية ذات مساء عندما يكون الأب فى جولة داخل غابة كثيفة، ومن دون أن يقصد أو يدرى عواقب فعلته، يقطف الرجل زهرة من مقتنيات وحش مخيف له جسد إنسان ورأس أسد يعيش معزولا وسط أحراش الغابة فى قصر غامض مظلم.. يعرف الوحش الذى يظهر دائما وهو غارق فى حزن عميق وكآبة واضحة، بما اقترفه التاجر الثرى فيغضب ويثور ويطالب بتعويض عن زهرته المقطوفة، هذا التعويض ليس مالا ولا أشياء مادية ثمينة وإنما ما يريده الوحش هو الجميلة «بيل» التى يطلب أن تأتى لتعيش معه فى القصر حتى يتسامح وينسى اعتداء والدها على زهرته الأثيرة.
الابنة الطيبة المخلصة لا تتردد فى تنفيذ شرط الوحش لكى يعفو عن أبيها، وتقرر التضحية بنفسها والذهاب إلى القصر المخيف وهى على أتم استعداد لتحمل كل صنوف العذاب الذى توقعت أن تكابده هناك، غير أننا وإياها نكتشف أن شيئا من ذلك لا يحدث، وإنما يحدث العكس إذ يبدو هذا الوحش الغامض بالغ العذوبة والرقة فيغمر الجميلة «بيل» بلطفه وكرمه الزائدين مظهرا حقيقة أخرى مختلفة كل الاختلاف عن الانطباع المرعب الذى يتركه شكله الدميم المشوه.
وفى يوم تعود «بيل» إلى بيتها وأهلها، فيندهش هؤلاء وهم يرون أمارات الهناء والسعادة تلون ملامحها بينما هى ترفل فى ملابس غالية شديدة الأناقة تبرز جمالها وبهاء طلعتها.. عندئذ يتفجر حقد أختيها عليها ويعود الحسد أقوى مما كان، ثم يبدأ صراع ضار يخوضه شبان الحكاية للفوز بالجميلة الصغيرة وحرمان الوحش الطيب منها، غير أن هذا الصراع ينتهى بموت صديق شقيقها المدعو «أفنان» بعدما تهور وهاجم الوحش فى عرينه، لكن «وحشنا جميل الطبع» لا يخسر فى هذا الصراع الدموى شيئا سوى جلده وملامحه الخارجية المخيفة بتأثير فورى ومباشر من نظرة حب ساحرة أرسلتها له «بيل» أثناء المعركة، فيظهر جميلا شكلا وموضوعا وجوهرا، وبهذا انتصر الحق والخير والجمال الحقيقى على الشر والقبح المزوق بالكذب.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة