قصة: إدويج دانتيكات
قصة: إدويج دانتيكات


ضبط الجودة .. قصة: إدويج دانتيكات

أخبار الأدب

الخميس، 10 ديسمبر 2020 - 04:20 م

 

قصة: إدويج دانتيكات - ترجمة: رفيدة جمال ثابت

فى الطائرة، حلمت ببندقيتى قنص مصوبتين نحو رأسها.
استيقظت فزعة على صوت إعلان الهبوط.


كان مطار جوزيف سلفادور محاطًا بأسوار تعلوها الأسلاك الشائكة، وكل ما يقع خارجه يبدو خطيرًا؛ مثلما يتضح من المبنى الخرسانى المحصن للهجرة والجمارك. لكنها وافقت على كتابة قصة ملهمة على جزيرة السيدة الأولى؛ رفيقتها القديمة التى شاركتها الغرفة إبان سنوات الجامعة.
وصلت فى عشية رأس السنة بعد الظهيرة بوقت متأخر، وقد بلغت الحرارة 37 درجة مئوية. كان معظم الركاب الذين يقفون معها فى الخط من أهالى الجزيرة المنفيين، بعضهم يسحب حقائب تكتظ بالمنتجات الأمريكية الخاصة بحساء شهير تعده الجزيرة فى يوم رأس السنة.


اعتادت فى الماضى تجاذب أطراف الحديث مع رفاقها من الركاب أثناء انتظار الطائرة المتأخرة. لكن الملاريا، والصمم المؤقت الذى أصابها جراء سيل من المقذوفات الصاروخية التى نسفت سقف آخر فندق أقامت فيه، خففا من حماسها تجاه أى شيء عدا ما يتعلق بعملها.


كانت على وشك أن تأخذ دورها فى خط الجمارك عندما اقترب منها جندى ملتح كلل شعره البياض، يمسك بلافتة تحمل صورة قديمة لها ترتدى فيها خوذة وسترة واقية من الرصاص أثناء تغطيتها الأخبار من دمشق. أم كانت حينها فى الكونغو، أم القاهرة، غزة أم كابول؟
أشار لها الرجل العجوز لتخرج من الصف، وبمجرد أن فعلت، اندفعت نحوها مجموعة من الجنود الشباب الذين يرتدون ملابس عسكرية مموهة خضراء، وأحاطوا بها من كل جانب. رافقوها إلى حجرة فخمة مليئة بالأرائك الوثيرة واللوحات، وتبدو من ضخامة حجمها وتفاصيلها الزهرية الكثيرة أنها كنوز قومية.


«السيدة الأولى تتطلع إلى مقابلتك» قالها الرجل العجوز بلكنة وسط غرب أمريكا. علمت بخبرتها، إذ كانت قد قضت عشرة أعوام تعمل مراسلة حربية، أن هناك دومًا طاغية، أو مساعد طاغية، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة أو كان من أوائل دفعته فى الجامعة. إن العجوز ليس بحاجة إلى أن يقص عليها حكايته، فهى تعلمها بالفعل، برغم أنها ليست القصة التى جاءت لترويها.


بناءً على طلب السيدة الأولى اختارها رؤساء تحرير المجلة التى تعمل بها لكتابة مقال رئيسى عن أول زوجين يجلسان على عرش أضخم احتياط من النفط والغاز الطبيعى فى نصف الكرة الغربي، وكيف سيقضيان عشية رأس السنة منذ تبوئهما السلطة للمرة الأولى. كان التوقيت ممتازًا؛ إذ كانت تفكر بالفعل فى الخطوة التالية فى مسارها الوظيفي. ففى الأسابيع القليلة المنصرمة قُتلت صديقتاها الصحفيتان، إحداهما رُميت بالرصاص فى شقتها، والأخرى ماتت فى انفجار سيارة مفخخة. عندما كانت صغيرة تشاهد التقارير التى تبث حية من الكويت وأفغانستان وأماكن أخرى، أرادت أن تقضى حياتها تسير على الخط الرفيع بين الحياة والموت. لكنها لم تتخيل أبدًا الثمن الباهظ الذى لم يقتصر على الخطاب العنصرى والمتحيز ضد المرأة من الجيش، ومن بعض الزملاء أيضًا، والوحدة التامة النابعة من كونك الشخص الوحيد دومًا. بل تضمن كذلك الموت، كل هذا الموت غير الضرورى.


دون سابق إنذار، خرجت السيدة الأولى من غرفة مجاورة. لم تنل يد الدهر منها يومًا؛ فلم تتغير منذ أن سكنت معها فى الغرفة فى جامعة برنارد. كانت السيدة الأولى ترتدى بنطلونًا جينزًا أزرق باهتًا وبلوزة قطنية بيضاء، وما زالت أطول منها قامة، خصوصًا وهى تنتعل حذاءً طويلًا بكعب عالٍ. وقد تركت شعرها الكثيف الطويل الأسود يسترسل على كتفيها.


«تسعدنى رؤيتك يا جيس». فى العادة تتكلم السيدة الأولى بلكنة تخلط بين الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، اللغات التى تربت على الحديث بها بصفتها الابنة الوحيدة لأحد دبلوماسيى الجزيرة الذين يتنقلون طوال الوقت. مؤخرًا، انطلقت فى رحلة إلى مدريد لحضور مؤتمر عن النساء والإيدز، ومن ثم التصق بكلامها لهجة إسبانية خفيفة.
«آسفة على التأخر»، قالت جيس.


«الطائرة تأخرت، وأعرف أنكِ لم تقبلى بالقدوم على متن طائرتنا».
  «شكرًا لكِ يا سيدتى، ولكن حقًا لم أستطع»، لم تكن جيس تعرف البروتوكول المتبع.
«ما زال اسمى مارلين»، قالت السيدة الأولى ثم غمزت بعينها إلى الجندى الشايب، فخلع قبعته العسكرية وسحب الباروكة عن رأسه ونزع لحيته، كاشفاً عن وجه شاب لفحته الشمس.
«قابلى زوجى. الرئيس»، قالت السيدة الأولى.
     «مرحبًا»، قال الرئيس ضاحكًا.
>>>
فى سيارة الدفع الرباعى المصفحة، فى منتصف موكب مكون من عشر سيارات متجهة إلى مقر إقامة الزوجين فى التلال، تحفزت جيس لتسأل عن الانقلاب العسكرى الذى صعد بهذا العقيد الشاب إلى السلطة، ولكن عوضًا عن ذلك سألتهما كيف التقيا. وبينما كانت مارلين تصف رحلات العودة إلى الوطن والحفلات الكثيرة التى كانا يتقابلان فيها مصادفة، حاولت جيس النظر من النوافذ لترى الشوارع، لكنها كانت معتمة كأن ستائر أُسدلت عليها، بالإضافة إلى وجود طريق مخصص للرئيس، ترتفع حوله أسوار شاهقة تحول دون رؤية المدينة.تمنت لو طرحت بعض الأسئلة السياسية على الرئيس، لكن المكتب الصحفى للسيدة الأولى أخبرها أن طرح تلك الأسئلة ممنوع.


كان المقر الشخصى فى الأساس فندقًا فاخرًا، يشمل ملهى ليليًا، وحدائق نباتية، ومنتجع صيد، وحديقة حيوانات. افترقت جيس عن مضيفيها أمام النافورة الداخلية فى الرواق الشاهق.
«سنراك فى الحفل»، قالت السيدة الأولى وهى تمسك بيد زوجها، وأومأت برأسها لمجموعة من الحرس لإرشاد جيس إلى غرفتها. كانت تبدو هى وزوجها فى حالة من البهجة المدوخة مثل أى شخصين متزوجين حديثًا ورثا مملكة صغيرة تساوى مليارات الدولارات.


كان جناح جيس يشرف على إطلالة بانورامية كشفت لها المكان والمدينة بالكامل، وقد دكها الجيش إبان انقلاب قضى فيه عشرة آلاف شخص نحبهم، طبقًا لمعظم التقارير.
بعيدًا، وسط البحر النيلى الجميل فى الخارج، لمحت سفينة يرفرف عليها علم الجزيرة بلونيه الأحمر والأسود. قديمًا، فى عامهما الأول فى الجامعة ثبّتت مارلين أحد هذه الأعلام فوق سريرها فى الغرفة التى تشاركا فيها سويًا. أخبرتها أن الأحمر يمثل دماء الشعب، والأسود يمثل جذوره.


على متن السفينة أبصرت جنودًا يلقون فى البحر بحقائب سوداء من النوع الذى يتسع لحجم جسم إنسان.
     تمنت جيس لو كان معها عدسة مكبرة، وبسرعة راحت تفتش فى حقيبتها باحثة عنها، لكنها وجدت الفستان الطويل الرقيق الأبيض، الذى طُلب منها ارتداؤه فى الحفل الراقص الذى سيقيمه الزوجان للمرة الأولى فى عشية رأس السنة. بعد فترة وجيزة تناهى إلى أذنيها صوت موسيقى.


من أسفل التل ترددت أصداء دق الطبول، التى ينجح دوماً كُتّاب الرحلات فى تصويرها فى قصص يكتبونها حول هذا المكان. وسرعان ما لحقت بالطبول المئات من الدفوف، ثم أصوات القواقع المدوية. قديمًا أخبرتها مارلين أن أسلاف سكان الجزيرة، من كانوا من العبيد، استخدموا القواقع لتبادل الرسائل فيما بينهم.


نظرت إلى تل يصعده الآن مئات الأشخاص بقمصان حريرية بألوان حمراء فاقعة، ويضعون أقنعة ورقية اتخذت شكل حيوانات الأدغال، وبخاصة الأسود والنمور.
التقطت جيس مفكرتها وجرت تهبط الدرج.
توقفت الموسيقى.
كان الرئيس والسيدة الأولى يقفان عند الباب الرئيسى يحييان الموسيقيين. صدحت الموسيقى مجددًا بينما كانت الجوقة تغنى بمرح «مرحبًا بكِ يا سيدة جيس».


فى جامعة برنارد، تخصصت مارلين بوير فى المسرح. شاهدتها جيس وهى تؤدى أدوارًا فى العديد من العروض المسرحية للكلية مثل «حكاية سيدة باث» من «حكايات كانتربري»، ودور هستر براين السمراء فى النسخة الحداثية من رواية «الحرف القرمزي». لكن مارلين الآن تستأثر وحدها بخشبة المسرح، وأرادت من جيس أن تشهد على ذلك وتخبر العالم أجمع.
>>>
قضت جيس الوقت بين الاستماع إلى الغناء والموسيقى والسير فى الأرجاء، وعند كل منعطف وزاوية كانت تجد علامة تنم عن ذوق مارلين؛ تمثال رمزى قام بصنعه فنان عالمى شهير مبطن بأندر وأغلى أنواع زهور الأوركيد فى العالم، وأرائك مخملية تطل على أروع مناظر المدينة والبحر. شعرت بأربعة رجال يرتدون بِدلًا متشابهة بلون بنى فاتح. حاولوا الحيطة، لكن نظارتهم السوداء وهمسهم المستمر فى أكمامهم كشفهم.


فى نهاية الممر الذى تحفه أشجار الصنوبر حيث عُلقت زينة الكريسماس، وقفت السيدة الأولى. تبادلا عناقا كانت جيس تتوقعه فى المطار، ثم تشابكت أيديهما وتفحصت إحداهما الأخرى من الرأس حتى القدمين.
«ظننت أنكِ ستقودين انقلابك العسكرى وتحققين الديمقراطية فى هذا المكان»، قالت جيس.


رفعت السيدة الأولى إصبعها نحو شفتيها تطلب منها الصمت.
«إنهم يسمعون كل شىء»، قالت وهى تشير إلى الرجال القريبين.
سارا معًا وجلستا إلى إحدى الآرائك المطلة على البحر.
«إننا لا نعيش بالطريقة التى يصفوننا بها فى الصحف العالمية»، قالت السيدة الأولى. استقر نظر جيس على ماسة كبيرة الوردية فى شكل قلب، تزين الخاتم الذى ترتديه السيدة الأولى فى إصبع يدها اليسرى. «نحن نختلف عن آبائنا، نحن شباب، متعلمون، نعم، نحن أغنياء، لكنهم مازالوا يتحدثون عنا وكأننا نعيش فى العصور الوسطى، كأننا متوحشون».
«سجل زوجك فى حقوق الإنسان»، لم تفلح جيس فى كبت شخصيتها القديمة.
تظاهرت السيدة الأولى بعدم سماعها، ثم قالت: «أعتمد عليكِ يا جيس، مثلما كنتِ تعتمدين عليّ».


لطالما تساءلت جيس فى قرارة نفسها متى ستطلب منها ذلك. هل حان وقت تسديد دينها؟
كانت جيس أول فرد يلتحق بالجامعة فى عائلتها. نجحت هى ووالداها فى الحصول على مساعدة كافية وتوفير أموال المنحة الدراسية لعامها الأول فى الجامعة، ولكن لم تستطع تدبير مبلغ السنوات الثلاث التالية. أوشكت على الالتحاق بوظيفة بدوام جزئي، أو ترك دراستها، لكن مارلين أقنعت عائلتها بالتكفل بدفع كامل التكاليف. والآن تريد منها أن تفى بدينها وتكتب عنها قصة جيدة.
نظرت جيس إلى السفينة البيضاء الوحيدة الطافية وسط المياه، وقد صار متنها الآن خاليًا، وببطء تعود إلى الشاطئ.
«ماذايجرى هناك؟»، سألت جيس وهى تشير إلى السفينة.


«من المعتاد أننا ننظف المنزل فى عشية رأس السنة»، قالت السيدة الأولى، «نطلق على هذه العملية ضبط الجودة».
>>>
أُقيم الحفل تحت خيمة ضخمة شُيدت فى مقر الزوجين. ارتدى الجميع ملابس بيضاء، ما جعلهم يبدون كأشباح مرحة فى الضوء الذهبى المتعمد المنبعث داخل الخيمة.
تألقت مارلين وهى تلقى بالتحية على ضيوفها، وكان زوجها يحذو حذوها ويقلدها فيما تفعل، فيرسل القبلات فى الهواء ويعانق أحدهم، ويحافظ على مسافة بينه وبين آخر، وينتفض متحمسًا مثلما تفعل.


انتظرت جيس حتى ينفض الحشد ويبتعد الزوج قبل أن تقترب منها مجددًا.
«أريد منكِ كتابة مقال عني»، قالتها السيدة الأولى ملتمسةً. «ربما ليس الآن، ولكن يوماً ما. أحب أن يكون مقالًا رائعًا، بعنوان جذاب مثل «سيدة أمريكا الأولى المثقفة تكرس حياتها من أجل شعبها»، يمكننى أن آخذك إلى دور الأيتام وملاجئ النساء التى نديرها ونقدم فيها خدمات خيرية».


لاحظت جيس للمرة الأولى منذ وصولها لمحة من شخصية مارلين القديمة؛ برغم أموالها وعلاقاتها، دومًا يراودها شعور ضئيل بأنها مهجورة ومهملة.
أحد الأسباب التى جعلت مارلين تطلب من عائلتها دفع نفقات تعليم جيس أن يتسنى لها الحصول على صديقة تثق بها فى الجامعة.لكنها لم تكن الصديقة التى تدعوها إلى منزلها، أو تحضر حفل زفافها. كانت مجرد صديقة حسب الظروف والحاجة.


بعد مأدبة العشاء رقص الرئيس والسيدة الأولى رقصة فالس أدياها من قبل فى حفل زفافهما، ويبدو أنهما اعتادا عمل ذلك فى كل حفلة منذ ذلك الحين. ثم تغيرت الموسيقى، وتبادلا الشركاء فرقصت السيدة الأولى مع مسئول آخر بهدوء على الموسيقى البطيئة ذاتها، ورقصت جيس مع الرئيس وقد تجهم وجهه الآن ولاذ بالصمت.
بعد فترة وجيزة، خرج الجميع ليتفرجوا على الألعاب النارية. وخلال آخر انفجار، تسارعت دقات قلب جيس حتى أنها شعرت بالإغماء. فى العام الماضي، كانت قريبة للغاية من عدة انفجارات حقيقية. غطت أذنيها وشقت طريقها إلى غرفتها.
>>>
فى صباح اليوم التالي، استيقظت جيس ووجدت على الكومودينو طبقًا مليئًا بالحساء الساخن تعده الجزيرة فى يوم رأس السنة.
كان رأسها مازال يطن كما لو أن الألعاب النارية أخذت تنفجر داخله. تجاهلت الحساء وترنحت نحو الشرفة طلبًا للهواء المنعش.


أرسلت شمس الصباح أشعتها المشرقة فانعكست السماء على صفحة البحر. لم يكن ثمة سفن فى ذلك الصباح، وفرغت شوارع المدينة القابعة أمامها من الحركة.
تناهى إلى أذنيها صوت ضحكات بالأسفل. نظرت ورأت الرئيس والسيدة الأولى يجلسان إلى إحدى الأرائك أسفل شرفتها، ما زالا يرتديان ملابس الليلة الفائتة؛ بدلته البيضاء، وفستانها الفضفاض الأبيض. جلسا صامتين، ينظران إلى المدينة والبحر، كما لو أنهما يستوعبان الآن بدايتهما الجديدة.


تساءلت جيس هل اتخذا هذا الوضع من أجلها، أم من أجل شعبهما، أم من أجل نفسيهما، أم ختامًا للقصة التى عرفت السيدة الأولى أن جيس ستكتبها.

> إدويج دانتيكات: (الولايات المتحدة، 1969) روائية وقاصة أمريكية من أصل هايتي. تركز كتاباتها على حياة النساء والسلطة والظلم والفقر. من أبرز أعمالها «نفس وأعين وذاكرة»، «أخى إننى أحتضر» و«فن الموت: كتابة القصة الأخيرة».


 

 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة