إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد


مصر الجديدة :

النداهة.. صوت الرواية

إبراهيم عبدالمجيد

السبت، 12 ديسمبر 2020 - 08:08 م

بشكل عام نحن لا نعرف قصصا عن النداهة بشكل واضح غير ما كتبه يوسف إدريس. والحقيقة أن النداهة هى الغواية، وكل الأعمال الأدبية تدور عن غواية أبطال شخصيات الروايات حتى لو لم تحمل العنوان. النداهة حالة شعبية مصرية ارتبطت بالريف والفضاء وأصوات قد يسمعها شخص ما من فرط الخلاء. وهى أيضا فى الحياة ما يتمناه المرء مبكرا، وقد يكرس حياته كلها للحصول عليه. حتى الغرام والحب يقال عن صاحبه ندهته النداهة. وفى الأساطير اليونانية هناك السيرينيات اللاتى كانت تُسمع أصواتهن الجميلة فى البحار، تغوى البحارة للنزول إلى الماء الذى لا عودة منه. ومن قرأ الأوديسا يعرف كيف أمر أوليس وهو تائه فى عودته إلى إيثاكا بعد أن انتهت حرب طروادة، رجال سفينته أن يضعوا على آذانهم ما يجعلهم لا يسمعون صوت السيرينيات، بينما أمرهم أن يربطوه هو فى صارى السفينة ويتركوه بلا عازل فوق أذنيه، ليسمع هذا الصوت الذى يمتلئ بالغواية ويضيع البحارة وراءه. فعلوا ذلك وسمع هو صوت السيرينيات ولم يستطع المقاومة. راح يمزق الحبال التى ربطوه بها، لكن ما كاد ينتهى من تمزيقها حتى كانت السفينة قد ابتعدت، واختفت أصوات السيرينيات. هو الوحيد الذى فاز بسمع الأصوات ونجا، لأنه كان أوليس التى معناها الرجل كثير الحيل. لم أستطع أن لا أكتب هذه المقدمة الطويلة لأتحدث عن نداهة الأدب العربى الآن، وهى الرواية وفن الرواية. يوما ما كان يقال الرواية فى مصر والشعر فى العراق لكن انتهى ذلك. الشعر موجود بقوة لكن أحدا لا يلتفت إليه كثيرا فى الدراسات. ومعظم الدراسات الجامعية حول الرواية. نادرا ما أجد مواكبة للشعر إلا عند ناقد مثل يسرى عبد الله. أو شعراء مثل جمال القصاص ومحمود قرني. وطبعا هناك غيرهم لكن الرواية أخذت انتباه النقاد بسكل واسع. أفرح كثيرا بمن ينشرون مجموعات قصصية، أو الندوات عنها لكن الرواية صارت النداهة فى العالم العربي. فى العراق عدد رائع من كتاب الرواية وفى الكويت وفى السعودية وفى اليمن والخليج كله والمغرب العربى بكل دوله، ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وأيضا فى السودان والصومال وأريتريا. لم تعد الرواية فى مصر لكنها صارت فى كل العالم العربي. بعيدا عما ساعد على ذلك من جوائز ومؤتمرات وغيره، فالأهم هو ما تمر به الأمة العربية من تغيرات منذ السبعينيات، وهى أمور احتاجت إلى الحكى أكثر من غيره، ويزداد الآن مع الخراب الذى نراه حولنا، والحروب التى بلا معني، وكثير جدا مما يحتاج الحديث عنه إلى صفحات. هناك مدن ضاعت وثورات أُجهضت وشعوب تبحث عن ملاذ فى بلاد الغرب ورحلات موت فى البحار إلخ ما يمكن قوله. لكن الرواية نداهة عصرنا لم تعد سيرينيات يسمعها كتاب الرواية والقصة فقط. أغوت شعراء بالعشرات أن يكتبوا الرواية، وأغوت نقادا يكتبون رواية وأغوت صحفيين وقضاة ومحامين الخ المهن التى تخطر على بالك. البعض يقول إنه ربما بسبب ما تعكسه على صاحبها من شهرة وأبهة، لكنى فى الحقيقة أرى الجوائز كلها مجرد أموال يتم إنفاقها وتنتهي، وأرى الأبهة للكتب التى هى أقل قيمة أكثر، أو ما يسمونه بالبيست سيلر، وهو إنتاج الثقافة السريعة التى احتوت الكثيرين من الشباب الصغير الذين صارت الميديا مصدر ثقافتهم لا الكتب الفكرية العميقة. لقد صرنا نرى إعلانات عن مواقع تقول كيف تكتب رواية فى سبعة أيام! للأسف أصبح النقد عاجزا عن القول الفصل فى هذا الكم الرهيب من الإنتاج الروائي، ومن ثم يستمر صوت النداهة، لكن لا أحد يقف عند الأصل. السيرينيات التى تأخذ من يسمعها إلى أعماق البحار، ولا ينجو منها إلا أوليس كثير الحيل، فيجدد فيما يكتب ويحتال لإخراج شكل فنى جديد لما يكتبه. وهذا جهد عظيم جعلته سهولة الميديا لا يقف عنده إلا الموهوبون. هو جهد عظيم حتى لو انتهى بصاحبه بتمزيق كل ما يربطه بالواقع.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة