خطاب نوبل
خطاب نوبل


ذعر الخروج إلى الضوء

لويز جلوك فى خطاب نوبل

أخبار الأدب

الإثنين، 14 ديسمبر 2020 - 04:56 م

أعتقد أنه من خلال منحى هذه الجائزة، تختار الأكاديمية السويدية تكريم الصوت الحميم والخاص، والذى يمكن أن يزيده الكلام العام أو يوسع مجاله، لكنه لا يحل محله أبدًا.

عندما كنت طفلة صغيرة أبلغ من العمر حوالى خمسة أو ستة أعوام على ما أعتقد، نظمت مسابقة فى رأسي، وكانت مسابقة لتحديد أعظم قصيدة فى العالم. كان لدى قصيدتان تأهلتا للتصفيات النهائية: “The Little Black Boy" لبليك، و”Swanee River"  لستيفن فوستر. سرت ذهابا وإيابا فى غرفة النوم الثانية فى منزل جدتى فى سيدارهورست، وهى قرية تقع على الشاطئ الجنوبى لجزيرة لونج آيلاند، أتلو بعقلى لا بلسانى كما فضلت، قصيدة بليك التى لا تُنسى، وأغنى أيضًا فى رأسي، أغنية فوستر المقفرة المؤرقة. كيف بدأت قراءة بليك؟ هذا لغز بالنسبة لي. أعتقد أنه كان هناك بعض المختارات الشعرية فى منزل والديّ من بين الكتب الأكثر شيوعًا حول السياسة والتاريخ والعديد من الروايات. لكنى أربط بليك بمنزل جدتي. لم تكن جدتى امرأة مولعة بالكتب. ولكن كان هناك بليك، أغانى البراءة والتجربة، وأيضًا كتاب صغير من الأغانى من مسرحيات شكسبير، والتى حفظت الكثير منها. لقد أحببت بشكل خاص أغنية Cymbeline، ربما لم أفهم كلمة واحدة منها، ولكن سماع النغمة والإيقاعات والرنين، كان شيئا مثيرا لطفلة خجول وخائفة للغاية. "وليشتهر قبرك." لقد كنت آمل ذلك.
بدت المسابقات من هذا النوع على الشرف والمكافأة العالية طبيعية بالنسبة لي؛ فقد امتلأت بها الأساطير التى كونت قراءاتى الأولى. بدت لى أعظم قصيدة فى العالم حائزة على أعلى درجات الشرف حتى عندما كنت صغيرة جدًا. كانت هذه أيضًا هى الطريقة التى نشأت بها أنا وأختي، لإنقاذ فرنسا (جان دارك)، لاكتشاف الراديوم (مارى كوري). وفى وقت لاحق بدأت أفهم مخاطر وقيود التفكير الهرمي، ولكن فى طفولتى بدا أنه من المهم منح جائزة. وجود شخص واحد يقف على قمة الجبل، مرئيًا من بعيد، وأن يكون الشيء الوحيد الذى يثير الاهتمام على الجبل. كان الشخص الموجود بالمستوى الأسفل قليلا غير مرئي.
أو فى هذه الحالة كانت القصيدة. شعرت بالتأكد من أن بليك على وجه الخصوص كان على دراية بهذا، عازمًا على نتائجه. فهمت أنه مات، لكننى شعرت أنه ما يزال على قيد الحياة، حيث كنت أسمع صوته يتحدث معى من وراء حجاب، لكنه صوته. شعرت بالحديث الذى كان موجها فقط لي، أو لى بشكل خاص. شعرت بالتميز والتفرد؛ شعرت أيضًا أن بليك هو الذى كنت أطمح إلى التحدث إليه، وأن الذى كنت أتحدث إليه بالفعل كان شكسبير.
كان بليك الفائز فى المسابقة. لكننى أدركت لاحقًا مدى تشابه هاتين النغمتين؛ لقد انجذبت عندها، كما هو الحال الآن، إلى الصوت البشرى المنفرد، الذى أثير بعاطفة رثاء أو شوق. والشعراء الذين عدت إليهم مع تقدمى فى السن هم الشعراء الذين لعبت فى أعمالهم بصفتى المستمع المختار دورًا حاسمًا وحميميًا ومغريًا، غالبًا ما يكون خفيًا أو متواريًا. لا مع شعراء المسارح. ولا الشعراء الذين يتحدثون مع أنفسهم.
أعجبتنى هذه الاتفاقية، أحببت الإحساس بأن ما قالته القصيدة كان ضروريًا وخاصًا أيضًا، أنها الرسالة التى تلقاها الكاهن أو المحلل.
كما بدأ حفل توزيع الجوائز فى غرفة نوم جدتى الثانية، بحكم سريته، امتدادًا للعلاقة الشديدة التى أوجدتها القصيدة: امتداداً وليس انتهاكًا.
كان بليك يتحدث معى من خلال الصبى الأسود الصغير. كان هو الأصل الخفى لهذا الصوت. لم يكن من الممكن رؤيته، مثلما لم ير الصبى الأسود، أو شاهده الصبى الأبيض عديم الإدراك والمتوجه له بالاحتقار بشكل خاطيء. لكننى علمت أن ما قاله كان صحيحًا، وأن جسده الفانى العابر يحتوى على روح النقاء المضيئة؛ لقد عرفت هذا لأن ما يقوله الطفل الأسود، وروايته لمشاعره وتجربته، لا يوجد بها أى لوم، ولا رغبة فى الانتقام لنفسه، فقط الإيمان بأنه سيُعترف به وبحقيقته فى العالم المثالى الذى وُعد به بعد الموت. وفى فورة من الفرح يحمى الطفل الأبيض الأكثر هشاشة من الفائض المفاجئ للضوء. أن هذا ليس أملًا واقعيًا، يجعل القصيدة مفجعة، وأيضًا سياسية فى عمقها. إن الأذى والغضب الصالح الذى لا يستطيع الصبى الأسود أن يسمح لنفسه أن يشعر به، وتحاول والدته حمايته منه، يشعر به القارئ أو المستمع. حتى عندما يكون هذا القارئ طفلًا.
لكن التكريم الرسمى أمر آخر
كانت القصائد التى استمعت إليها طوال حياتى بحماس شديد هى قصائد من النوع الذى وصفته، قصائد عن الاختيار أو التآمر الحميم، قصائد يشارك فيها المستمع أو القارئ بدور أساسى كمتلقٍ موثوق به أو محتج صارخ، وفى بعض الأحيان كمتآمر. تقول ديكنسون: "أنا لست أحدًا". "هل أنت أيضًا لا أحد؟ / إذن هناك زوج منا - لا تخبر أحدًا... "أو إليوت:" دعنا نذهب إذن، أنت وأنا، / عندما تنتشر الظلمة فى السماء / مثل مريض مثقل على طاولة ..." إليوت لا يجمع فرقة الكشافة. إنه يطلب شيئًا من القارئ. على عكس قول شكسبير مثلا: «هل أقارنك بيوم صيفى»، شكسبير لا يقارننى كقارىء بيوم صيفى. بل يُسمح لى بالاستماع إلى براعة مبهرة، لكن القصيدة لا تتطلب حضورى.
ويكون صوت أو حكم المجموعة أمرًا هامًا جدًا فى نوع الفن الذى انجذبت إليه. حيث يزيد عدم استقرار الكلام الحميمى من قوته وقوة القارئ، الذى يُستحث من خلاله الصوت فى مناشدته أو ركونه العاجل.
ماذا يحدث لشاعر من هذا النوع عندما تحييه الجماعة وترفع من شأنه بدلاً من نفيه أو تجاهله ظاهريًا؟ أود أن أقول إن مثل هذا الشاعر سيشعر بأنه مهدد ومحاصر. وهذا هو ما تتحدث عنه إيميلى ديكنسون، ليس دائما، ولكنه موضوع متكرر.
بدأت قراءة إيميلى ديكنسون بحماس شديد عندما كنت فى سن المراهقة. عادة فى وقت متأخر من الليل، بعد وقت النوم، وعلى أريكة غرفة المعيشة.
أنا لا أحد! من أنت؟
هل أنت أيضا لا أحد؟
وفى الإصدار الذى قرأته حينها وما زلت أفضّله:
إذن هناك زوج منا - لا تخبر أحدًا!
سوف ينفوننا عندها، كما تعلم ...
اختارتنى ديكنسون، أو تعرفت عليّ، وأنا جالسة هناك على الأريكة. كنا اثنين من النخبة، رفقاء فى السر، كنا حقيقة معروفة لنا فقط، وقد أكدها كل منا للآخر. أما بالنسبة للعالم، فلم نكن أحداً.
ولكن ما الذى يمكن اعتباره نفيًا للأشخاص الموجودين كما فعلنا فى مكاننا الآمن تحت لوح الخشب؟ النفى عندها هو إزاحة اللوح.
وأنا لا أتحدث هنا عن التأثير الخفى لإيميلى ديكنسون على الفتيات المراهقات. بل أتحدث عن حالة مزاجية لا تثق بالحياة العامة أو تعتبرها مجالًا يطمس فيه التعميم الدقة، وتحل الحقيقة الجزئية محل الصراحة والكشف المشحون. وعلى سبيل التوضيح: لنفترض أن صوت المتآمر، صوت ديكنسون، قد استبدل بصوت محكم. "نحن لا أحد، فمن أنت؟" وهكذا أصبحت هذه الرسالة شريرة فجأة.
لقد كانت مفاجأة لى فى صباح الثامن من أكتوبر أن أشعر بنوع من الذعر الذى كنت أصفه. كان الضوء شديد السطوع. والمنصة واسعة للغاية.
يوجد منا، من أولئك الذين يكتبون الكتب، من يرغبون فى الوصول إلى الكثيرين. لكن بعض الشعراء لا يفكرون فى الوصول إلى الكثير من الناحية المكانية كهذه القاعة الممتلئة. بل يرون الوصول إلى كثيرين حسب الزمان والتتابع، مع مرور الوقت، فى المستقبل، ويأتى هؤلاء القراء دائمًا منفردين، واحدًا تلو الآخر، بطريقة عميقة. وأعتقد أنه من خلال منحى هذه الجائزة، تختار الأكاديمية السويدية تكريم الصوت الحميم والخاص، والذى يمكن أن يزيده الكلام العام أو يوسع مجاله، لكنه لا يحل محله أبدًا.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة