محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

برلمان له تاريخ

محمد السيد

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2020 - 07:46 م

يحق لنا أن نفخر بأننا أول دولة فى المنطقة كلها عرفت البرلمان، وهذه لمحات من تاريخنا البرلمانى لعلها تثير فينا الاعتزاز به.

البداية
سار شريف باشا مشدود القامة نحو سمو الخديو إسماعيل، الجالس على عرشه. انحنى انحناءة خفيفة. قال: تأمرنى يا مولاى الخديوى. بلغنى أنك تريدنى.
نهض إسماعيل من عرشه. سار نحو شريف باشا. وضع يده على كتفه. قال له بود: شريف باشا، هل تذكر ما رأيناه حين كنا فى بعثتنا فى فرنسا؟ هل تذكر البرلمان الفرنسى الذى يعبر عن إرادة الشعب؟
قال شريف باشا: وهل هذا شيء ينسى يا مولاى؟ لقد كنا نحلم رغم سننا المبكرة أن يكون لنا ذات يوم برلمان مثله، وأن تكون مصر قطعة من أوروبا.
ضرب إسماعيل على كتفه ضربة خفيفة وهو يقول: قد جاء وقت تحقيق الحلم. أريدك أن تنشئ لى برلماناً. أنت وزير الداخلية، وأنا أكلفك بإنشاء هذا البرلمان، وتكليف أحد رجال القانون بوضع القانون واللوائح المنظمة له.
قال شريف باشا: ثق يا مولاى أنى سأفعل كل ما هو ضرورى لإنشاء هذا البرلمان.
لم تكن المهمة سهلة، لكن من أصعب الموضوعات التى واجهت شريف باشا موضوع الانتخابات. هل يمكن إجراء انتخابات شعبية فى مصر؟ هل يدرك الشعب الذى تنتشر بين أبنائه الأمية، ويكبله الفقر والحاجة، أهمية التصويت أو الانتخابات؟ وبعد تفكير عميق، واستشارات، قرر أن يكون الانتخاب عن طريق العمد والمشايخ والأعيان والوجهاء فقط. ووضع قانوناً ينظم هذا، كما وضع لائحة للعمل البرلمانى. وتشكل البرلمان فعلاً، وتم افتتاحه فى 25 نوفمبر 1866.
قصة كوميدية
فى يوم الافتتاح جاء الأعضاء جميعاً، خمسة وسبعون نائباً بالتمام والكمال. بعد قليل دخل عليهم شريف باشا فوجدهم يجلسون كيفما اتفق. قال لهم إن البرلمانات الأوروبية عادة تتكون من كتلتين: كتلة مؤيدة للحكومة وكتلة معارضة لها. المؤيدون يجلسون فى اليمين والمعارضون يجلسون فى اليسار، وعلى الفور انتقل الجميع للناحية اليمنى، وقال أحدهم لشريف باشا «إننا كلنا عبيد أفندينا، فكيف نكون مقاومين للحكومة؟».
حكى المؤرخ إلياس الأيوبى هذه القصة فى كتابه عن الخديو إسماعيل، لكن الرافعى أنكرها بشدة، وقال إنها لم تحدث أبداً.
نضج مبكر
سواء حدثت هذه القصة أم لم تحدث، فقد أدرك أعضاء المجلس الوليد بسرعة أنهم يمثلون الشعب، ولابد أن يحافظوا على مصالحه، وأن من وظائفهم مراقبة الحكومة ومحاسبتها. ها نحن فى عام 1879، وهو العام الذى اشتدت فيه الأزمة المالية، وأجبر إسماعيل على ترك عرش مصر، وها هو رياض باشا، رئيس النظار، يأتى إلى المجلس نائباً عن الخديوى ليفض الدورة النيابية. وقبل دخول القاعة جلس يشرب القهوة فى قاعة كبار الزوار. لاحظ رئيس المجلس أن رياض باشا شارد البال. سأله: مالك يا باشا؟ فأجابه رياض: أعلم أن مدة المجلس ثلاث سنوات، وأن النواب لم يُدعوا للاجتماع إلا فى العام الأخير فقط، ترى هل سيستجيبون للأوامر ويفضون المجلس؟ وصمت رئيس المجلس ولم يجب.
دخل رياض باشا القاعة الرئيسية. بدأ فى إلقاء كلمته. شكر المجلس على ما بذله من جهد خلال الدورة، ثم أمر بتلاوة الأمر الخديوى بحل المجلس. وهنا نهض النائب عبد السلام المويلحى قائلاً:
«- لا أدرى معنى لشكر الحكومة، فإننا لم نقم بعمل إلى الآن يكون له شبه فائدة تعود على البلاد، فما هى المآثر التى سنتركها وراءنا لتشكرنا الحكومة، فيما لو فرضنا المستحيل وانفض المجلس؟» وانزعج رياض باشا، هل يرفضون فض المجلس؟. صاح: ماذا تقول حضرتك؟! مستحيل أن ينفض المجلس؟! كيف يكون مستحيلاً وقد أمر به سمو الخديوى؟! أفاهم أنت مسئولية ما تقول؟
- أنا فاهم جيداً ما أقول، وأقدر مسئوليته دون إنكار.
إلتفت رياض إلى بقية النواب، وسألهم: أتوافقون على هذا الكلام؟
فارتفعت الأصوات بالموافقة. وهنا لم يتمالك رياض نفسه. صرخ فيهم: أنتم عصاة. وواصل المويلحى كلامه. أكد أن المجلس لم يستوفِ مدته. ومرة أخرى قال رياض بعصبية: إذن أنتم بعمائمكم وقفاطينكم تقلدون نواب فرنسا؟ فارتفعت أصوات الاحتجاج من كل مكان. وقال المويلحى: إعلم يا باشا أن أهل وطنك ليسوا بأقل شعوراً بما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات من نواب فرنسا، والمسألة ليست مسألة ثياب تلبس، ولكنها مسألة عقول وأفهام.
وانسحب رياض باشا، ولم تلبث النظارة أن سقطت، وبقى فى تاريخنا أن هذا المجلس منذ نعومة أظفاره كان يسعى للحفاظ على حقوق الشعب.
أول برلمان حزبى
كان يحيى باشا إبراهيم يشعر بالحيرة الشديدة وهو يتجه بعربته نحو القصر الملكى. ترى فيم يريده صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول؟ حاول أن يتذكر الفترة التى قضاها فى الوزارة السابقة، لعله يجد شيئاً أخطأ فيه، ويستحق أن يؤنبه عليه صاحب الجلالة، فلم يجد. لقد كان يؤدى عمله بنزاهة تليق بقاضٍ سابق. ترى فيم يريده الملك فؤاد؟.
بعد لحظات كان فى حضرة صاحب الجلالة. استقبله الملك بترحاب، حدثه بود. أحس أنه لا يفهم شيئاً. وبعد مقدمات موجزة جداً فوجئ بصاحب الجلالة يقول له: لقد اخترتك لتشكيل الوزارة الجديدة. لم يصدق المفاجأة؟! هو؟! يشكل الوزارة؟! ولماذا هو بالذات؟! هناك رجال لهم تاريخ سياسى عريق، كيف يتركهم الملك فؤاد ويعهد إليه هو بالوزارة، رغم أنه ترك العمل بالقضاء بالأمس القريب، وليس له خبرتهم بالعمل السياسى؟! لكن الملك سرعان ما وضح له الأمر. قال: أنا أريد وزارة إدارية، لا صلة لها بالسياسة، تعبر بالبلاد هذه الفترة العصيبة، فالعلاقة -كما تعلم- سيئة مع الإنجليز، ولابد من تجاوز عنق الزجاجة. وأجابه يحيى باشا قائلاً: أنا طوع أمرك يا مولاى، وأدعو الله أن يوفقنى لهذه المهمة. وشكل الرجل الوزارة.
كان يحيى باشا شديد القلق بعد تشكيل الوزارة. سأله أحد المستشارين من أصدقائه: ما الذى يشغلك هكذا؟ إننى لم أرك تبتسم منذ صرت رئيساً للوزراء. قال له: لا أستطيع أن أكون مجرد رئيس وزراء لوزارة إدارية. البلد تحتاج لإنجازات كبرى، وأشعر أن علىّ أن أقوم بها. وشرح له التحديات التى يراها. قال: بعد تصريح 22 فبراير يجب أن يصدر الدستور، وأن تجرى أول انتخابات برلمانية على أساس حزبى، وأن يكون لدينا قانون للانتخابات. كيف أقف صامتاً وأترك هذه المهام؟ قال الصديق: ألن يغضب صاحب الجلالة منك لو فعلت هذه الأشياء؟ أجابه: حتى لو غضب، سأنجز هذه المهام وليكن ما يكون.
ضغط يحيى باشا على لجنة كتابة الدستور حتى انتهت من كتابته، وقدمه للملك فاعتمده دون اعتراض. واستغل الرجل علاقاته القانونية، وأصدر قانون الانتخابات، بعد ذلك لم يعد هناك حائل يحول دون إجراء الانتخابات البرلمانية، ففتح باب الترشيح وأجرى أول انتخابات برلمانية فى تاريخنا. والمهم أنه رشح نفسه. وكان يتولى وزارة الداخلية إلى جانب رئاسة الوزارة، وهى الوزارة المسئولة عن إجراء الانتخابات، ورغم هذا فقد جاءه أحد كبار مساعديه عشية ظهور النتائج ليخبره بأنه خسر الانتخابات. كانت الخسارة مؤلمة بلا شك، لكن القاضى القديم الذى تمسك بالنزاهة، رضى أن يسقط فى الانتخابات عن أن يجرى انتخابات مزورة. وتشكل أول برلمان حزبى فى تاريخنا الحديث.
محطم السلاسل
دق إسماعيل صدقى باشا بقبضته على المكتب بقوة حتى كاد زجاج المكتب أن ينكسر. قال بلهجة تحذيرية صارمة لحكمدار بوليس القاهرة: لقد طلبت من جلالة الملك أن يوقف البرلمان الوفدى الذى يعارض حكومتنا، واستجاب جلالته، وأصدر أمراً بوقفه، وأنا أتوقع أن يتحدانا الوفد باعتباره صاحب الأغلبية، لذلك أحذركم من أن تتيحوا له الفرصة، ولو حدث فسوف يكون حسابكم عسيراً.
خرج الحكمدار من مكتب رئيس الوزراء مرعوباً، فصدقى باشا رجل جبار، لم تر مصر أكثر ديكتاتورية منه. يفعل أى شيء دون أن تهتز فيه شعرة. أمر بسد كل الطرق المؤدية للبرلمان. تأكد بنفسه استحالة الوصول إليه. لكن النواب قرروا تحدى صدقى، وعقد اجتماعهم داخل البرلمان. واستطاع النحاس باشا رئيس الوفد اختراق الحصار، وخلفه بقية النواب. ووصل الجميع إلى باب البرلمان، لكنهم وجدوا الباب مغلقاً بالسلاسل. وطلب النواب من النحاس أن يأمر بتحطيم السلاسل ليدخلوا البرلمان ويعقدوا جلستهم رغم أنف صدقى. لكن النحاس قال لهم: إن رئيس مجلس النواب هو وحده صاحب الحق فى أن يأمر الحراس بفتح الأبواب. وتقدم ويصا واصف، رئيس المجلس، وأمر الحرس بتحطيم السلاسل، وفتح الأبواب، وتقدم الصفوف إلى الداخل، وكسروا هيبة الظالمين، وكتبوا صفحة مجيدة فى مواجهة الطغاة.
الهوانم فى البرلمان
قالت الشابة راوية عطية لصديقتها: لقد فعل عبد الناصر شيئاً لم يفعله أحد قبله على مدار تسعين عاماً. سألتها صديقتها: ماذا فعل؟ أجابت: أعطى المرأة فى الدستور الجديد حق الترشح للبرلمان. جحظت عينا الصديقة وهى تقول: هل يمكن؟! إن كل القادة منذ عام 1866 لم يتخذوا مثل هذه الخطوة؟ لمعت عينا راوية عطية وهى تقول: سأرشح نفسى فى الانتخابات البرلمانية القادمة. وبالفعل رشحت نفسها. ورشحت خمس نساء أخريات أنفسهن معها فى دوائر مختلفة. نزلت راوية الشارع. التقت بالناس. دعتهم لانتخابها. قالت إن وجود المرأة داخل البرلمان مهم للغاية، فالمرأة هى المسئولة عن البيت، وهى التى تعرف معنى غلاء الأسعار، ومشاكل الأبناء، وأقنعت الناس بأن انتخابها ضرورة، فانتخبوها، وكانت أول امرأة مصرية تدخل البرلمان عام 1957. وكان الفضل للزعيم الذى آمن بأن المرأة نصف المجتمع.
 والآن
كان عدد النساء دائما قليلاً فى المجلس، لكن الآن صارت لها نسبة محددة، ولأول مرة يبلغ عدد النساء فى البرلمان الماضى 87 نائبة، منهن أربع عشرة سيدة عينهن الرئيس السيسى ضمن العدد الذى يعينه طبقاً لصلاحياته الدستورية. إنها نسبة غير مسبوقة، تشير بوضوح إلى أن المرأة تحتل الآن مكانة غير مسبوقة فى حياتنا النيابية.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة