إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

مشاعر.. تحت الطلب!

إيهاب الحضري

الخميس، 17 ديسمبر 2020 - 07:43 م

 

تعجبتُ من الاسم، وزادتْ دهشتى عندما اكتشفتُ أنه يشير إلى مطرب رجل! احتفظتُ باكتشافى داخلي، كى أتجنب اتهاما صريحا أو ضمنيا بالجهل.

جايب لى سلام
الخميس:

أجلس فى غرفة مكتبي. نسمات باردة تأتى من الخارج. أشعر بالامتنان لها، بعد أن نجحتْ فى طرد كائنات طُفيلية تتجمع مع ليالى الصيف، فى أمسيات سمر صاخبة تختلط فيها الدعابات السمجة مع عبارات سُباب يتبادلها الشباب، ويعتبرونها دليلا على التقارب الوثيق! المناخ الآن مناسب للكتابة. يبقى فقط اتخاذ قرار حاسم بما سأبدأ العمل عليه، لأن الأجندة حافلة رغم نهاية الأسبوع. فجأة ينساب صوت ملائكى قادما من الخارج.
"جايب لى سلام.. عصفور الجناين.. جايب لى سلام من عند الحبايب". لحن مُولّد للشجن، أنسى الكتابة وأتماهى فيه، يمنحنى طاقة إيجابية كفيلة بتوليد الأفكار، لكن الأغنية التالية تجعل الذكريات تتداعى: "يا مرسال المراسيل ع الضيعة القريبة.. خد لى بدربك هالمنديل واعطيه لحبيبي". هذه الأغنية تحديدا أول نقطة اتصال جمعتنى بفيروز. فى الصف الثالث الإعدادى تقريبا سمعتُها فاجتذبتني، لتصير ضيفة مُحتفى بها فى أول شريط "كاسيت" اشتريتُه من مصروفي، كى أُسجّل عليه ما يُعجبنى من أغنيات. ظل العامل المشترك الذى يربط بين أغنياته أنها مبتورة البدايات، والسبب أننى أجلس مُتحفزا بجوار المذياع، وإذا راقتنى الأغنية ضغطتُ على الزر لأبدأ عملية الحفظ. فى الشريط الثانى اكتسبتُ خبرة أكبر، وبمجرد إعلان المُذيع عن الأغنية أقوم بالتسجيل فورا. تعلمتُ أننى يمكن أن أحكم بالإعدام حذفا على ما لا يُحرك مشاعري.
مُتعة لم تعد متاحة لدى الأجيال الحالية، التى تستمع لما تحب عبر تقنيات أكثر حداثة، وأصبحتْ أشرطة "الكاسيت" مجرد تُحفة قديمة، تربط جيلنا بزمن يُلملم أوراقه. " طيرى يا طيارة طيرى يا ورق وخيطان.. بدى إرجع بنت زغيرى على سطح الجيران.. ينسانى الزمان على سطح الجيران". هل هى الأغنيات تتتابع لتناسب أفكاري؟ أم أن تداعى الأفكار هو الذى يتماشى مع ما يترامى إلى سمعى؟ لا أعتقد أن الفارق مهم، لهذا ألقى بالاستفسار جانبا، وأواصل الاستماع لنغمات تأتينى عبر شباك شبه مغلق، اختارها ذلك الجالس فى مكان بعيد نسبيا، ربما سيارة أو على رصيف مجاور، أو فى شرفة منزل، لكن اختياراته تؤكد أنه يجترّ ذكريات ماض ليس قريبا. طبيعة الأغنيات يُمكن أن تُحدّد اتجاهات الزمن والحالة الشعورية، واستدعاؤه لألحان فيلمون وهبى تحديدا يُثبت أنه يعيش حالة حزن قد ترتبط بحب مفقود، ويُمكننى استنتاج أن عمر المُستمع الخفي(أو المستمعة) يدور فى حدود الخمسين عاما. إنها باختصار.. السن الأكثر تفاعلا مع الشجن.
 بين البهجة والشجن
ذات عُمْر مضى، استطاعت فيروز أن تمنحنى حالتين مُتناقضتين، الأولى ترتبط بالوحدة ليلا فى مكان مُغلق. تُضفى حالة شجن على المساءات بألحان فيلمون وهبي، وتثير بداخلى ذكريات هجر تفوق طفولة مشاعرى فى العُمْر. بينما تنطلق الحالة الثانية فى أجواء باعثة على البهجة مع نغمات الأخوين رحباني، وترتبط بفضاءات مفتوحة بلا نهاية. كثيرا ما حرصتُ على اصطحاب جهاز تسجيل إلى "الغيطان"، عند زيارتى كل فترة لقريتنا. أرفع صوت الجهاز على آخره كى ينطلق صوت جارة الوادى بحُريّة، معانقا المساحات الخضراء المحيطة. غالبا كان الفلاحون ينظرون باستنكار، إلى ذلك الفتى المُرفّه الذى يعتقد أن الحقول مُنتجع ترفيهي، بينما يعانق عرقهم طين الأرض. لم أشغل نفسى كثيرا بردود أفعالهم، فالمُتعة تستحق دفع مقابل لها، حتى لو كان الثمن تشكيكهم فى سلامة قواى العقلية. عموما كادت الذكريات تغيب، لكنها تظل حاضرة "تحت الطلب" كل فترة، بينما احتضر اللون الأخضر بفعل تعديات جرّفت الأراضي، لكنها لم تنل من الذاكرة لحسن الحظ.. حتى الآن!
 
تاريخ من الفقد
الجمعة:
جلستُ أنتظر زائر الأمس غير أنه لم يحضر. ربما اكتشف أن جُرعة الألم فاقت قدرته على التحمل. قررتُ أن أستعين على قضاء حوائجى باليوتيوب. لأن العثور على أشرطتى القديمة يحتاج إلى مُعجزة.. وجهاز تسجيل صالح للعمل. أتصفح قائمة أغنيات فيروز وأضغط على الرابط، ينبعث صوتها دافئا: "ليل بترجع ياليل.. وبتسأل عالناس.. وبتسقيهم يا ها الليل كلْ واحد من كاس".. سلسال الشجن يستمر مع ألحان فيلمون وهبي. تُحيلنى الكلمات إلى تنويعة الفقد التى تتسم بها عواطفنا العربية. كثيرا ما تندّرتُ بأن قصائد عنترة عن عبلة توقفتْ بعد الزواج، كما أن قيس بن ذُريح ظل يتغزّل بحبيبته لبنى، إلى أن تزوجا على غير العادة فى قصص الحب المبتورة. عندها أصيبتْ قصائده بالسكتة القلبية، وبعد فترة العسل بدأت أمه تمارس دورها كحماة متعنّتة، ووقع الطلاق ليعود قيس لإطلاق أشعاره بشكل مكثّف، لكنها أصبحتْ تدور حول الفقد! تُرى لو كُتب لقيس بن الملوّح أن يتزوج ليلى العامرية، هل كان سيستمر فى كتابة قصائده المُسيلة للدموع؟ أم أن الارتباط بالحبيبة كان سيُفرغ الطاقة العاطفية، ويُحوّلها إلى أحاسيس سلبية تنتهى بدعوى خُلع؟ سؤال ساخر أحاول الخروج عبره من حالة حزن ساهمتْ الأغنية فى تصنيعها، غير أن له ما يبرره، فالدموع حاضرة فى الغالبية العظمى من قصائدنا، دون أن يرتبط ذلك بزمان محدد أو مكان بعينه، بدليل أن الكثير من أغنياتنا المعاصرة تمضى فى الاتجاه ذاته. لأننا مقتنعون على ما يبدو بأن" الحب من غير أمل أسمى معانى الغرام"، حسبما أكدت إحدى أغنيات فريد الأطرش منذ سنوات طويلة.
 
المليحة.. والخمار الأسود
الأحد:
تُحيلنى الذاكرة إلى ذكرى عمرها ربع قرن. ركبتُ السيارة مع الأديب الكبير جمال الغيطاني. طلب من السائق تشغيل شريط لصباح فخري. تعجبتُ من الاسم، وزادتْ دهشتى عندما اكتشفتُ أنه يشير إلى مطرب رجل! احتفظتُ باكتشافى داخلي، كى أتجنب اتهاما صريحا أو ضمنيا بالجهل.. فجأة تقفز الكلمات إلى أذني:" قل للمليحة بالخمار الأسود.. ماذا فعلتِ بناسك متعبّد؟". أنتبه إلى أننى كثيرا ما استمعت لها من صديق عذب الصوت فى الجامعة. وقتها لم تكن تستهويني، فأطلب منه غناء ما يناسب ذائقتي، التى لم تكن تعترف سوى بأغنيات أم كلثوم وفريد ونجاة وعفاف راضي، ومن يمضى فى سياقهم من المطربين. صُحبتى للغيطانى جاءت فى سنوات تالية، بعدها بدأ صوت صباح فخرى بات يُطربنى بشكل مُبالغ فيه، ربما لأن الذائقة صارت أكثر نُضجا أو أنها العدوى!
خلال عملى بمجلة "أخبار النجوم" طلبتُ من زميل مُسافر إلى سوريا شراء عدد من أشرطة هذا المطرب الكبير، لأننى لم أستطع الحصول عليها فى مصر. بعد عودته أخبرنى أنه بذل مجهودا حتى عثر عليها. كانت الـ" سيديهات" قد بدأتْ تهز عرش الوسائط التقليدية، غير أننى أرى أن الشرائط طقس ارتبط بمرحلة من عمرى ويصعب أن أبتعد عنه بسهولة. إنه الحنين الذى يحاصر وجداننا على الدوام. هو نفسه الذى جعلنى أشعر بالرغبة فى أن أقضى سهرة تلك الليلة مع مطرب الشام الكبير.
"قدك المياس يا عمري.. ياغُصين البان كاليُسر.. إنت أحلى الناس فى نظري.. جلّ من سواك يا قمري". عادة ما منحتنى هذه الكلمات بألحانها طاقة، تزداد بعذوبة صوت صباح فخري. قوته تمتزج بنعومة مثيرة للدهشة، وتمنح الشجن إيقاعا راقصا فى معادلة عجيبة، لا تتحقق حسبما أعتقد إلا فى موسيقانا العربية، قد يكون انحيازى سببا فى إطلاق حكم خاطىء، لكننى عموما لا أستسيغ الموسيقات الأجنبية. تنتابنى حالة" صهللة" مع الأغنيات المتتالية، مثل "يا مال الشام"، و"آه يا حلو يا مسليني.. ياللى بنار الهجر كاويني.. إملا المُدام يا جميل واسقيني.. من كُتر شوقى عليك ما بنام"، وتصل "الصهللة" إلى ذروتها وصوته يتألق فى رائعته: "يا طيرة طيرى يا حمامة".. التى تفتح مع سابقاتها ملف مراسيل الغرام!
تمضى الأغنيات لدينا فى سياق معتاد. البحث دائم عن وسيط يُبلغ الحبيب بالهوى المكتوم، فى مفارقة واضحة بين بوح مُعلن عن بُعْد، وعدم قدرة على المواجهة المباشرة مع المحبوب، ولا يُشترط أن يكون الوسيط إنسانا، فقد يتمثل فى أى كائن حي، المهم أن تصل الرسالة وردُها. إنه نوع من الحب أصبح منقرضا، وقد يثير سخرية أجيال جديدة، لا تجد مشكلة فى البوح المباشر. حتى إذا افترضنا أن الخجل لا يزال عقبة مُحتملة، فإن رسالة عبر تطبيقات التواصل كافية لتأدية المهمة دون تلاعب أو تحريف، كما أن الإجابة مضمونة وفورية. إنه زمن يرفع شعار: وسطاء الغرام يمتنعون!
مشاعر موسمية
الثلاثاء:
اتخذتُ قرارا بعدم الاستماع إلى أية أغنيات هذه الليلة، فعلى مدى الأيام التالية جعلنى الطرب سجين الذكريات. تتداخل الأحداث القديمة مع أخرى طازجة، لكنها مُلبّدة بالأسى، كلها ترتبط برحلة تكاد تنتهي. اختطف الموت أديبيْن ممن يدورون فى فلك قريب.. هما بهاء عبدالمجيد ومنار فتح الباب، اكتشفنا فجأة أن فقدهما قاس، رغم أن صخب حياتنا جعلنا متباعدين دوما. شهد "فيس بوك" احتفاء بهما بعد الرحيل. أدمنا عبارات الرثاء الموسمية، رغم أن الكلمات نفسها لو قيلت مُقدّما لمنحتْ الراحليْن قدرا من البهجة، حتى لو لم تمتلك قدرة تأجيل القضاء والقدر. كم هو مؤلم أن تُصبح مشاعرنا "تحت الطلب"!

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة