نادر حلاوة
نادر حلاوة


خطيئة «البوسطجي»

نادر حلاوة

السبت، 19 ديسمبر 2020 - 05:15 م

في زمن مضى ،قبل أن يرتكب خطيئته الكبرى ، كان "البوسطجي" الشاب قد أمضى شهورا طويلة في قرية صغيرة انتهت بدخوله في نوبة إكتئاب فقد تحول في نظر أهل القرية إلى نذير شؤم فكل رسالة تحمل خبر وفاة كان يجلبها بنفسه إلى ذوي الفقيد ، وكل قرار بالفصل من الوظيفه كان يوصله إلى صاحبه بل ويطلب توقيعه على استلامها .

لم يطق نظرة السيدة التي تلقت على يديه خبر طلاقها ، وشعر بالمرارة حين رفض بقال القرية التعامل معه لأنه كان يحمل إليه رسائل المطالبات المالية من الموردين.

ورغم العديد من الأخبار السارة التي كان يحملها في حقيبة البريد إلا أن نظرات أهل القرية ظلت تخبره في كل وقت أنه "جلاب المصايب" وأنه شخص غير مرغوب في وجوده، وهنا واتته الفكرة التي غيرت حياته وحياة أهل القرية فقد قرر إعادة كتابة الرسائل التي تصل إلى مكتب البريد .

الأب الذي كان ينتظر نتيجة امتحان إبنه وجده ناجحا بتفوق رغم رسوبه بامتياز ، والأم التي تفتش عن عريس لابنتها وجدته في رسالة رائعة كلها تفاؤل رغم هروب العريس المنتظر، وموظف الجمعية الزراعية علم أن عمه توفى لكنه سيرث 60 فدانا أضافها "البوسطجي" من خياله ليخفف وقع الصدمة ،  أما رسائل الديون والمصائب وكل الأخبار السيئة فكان يمزقها إربا إربا فلا تصل لأصحابها.

 كان "البوسطجي" يبرر لنفسه دائما كل ما يفعله ، فهو برسائله المزيفة يمنح الراحة لهؤلاء البسطاء ويحثهم على التفاؤل والأمل في الحياة ، وكان كلما رأى  الابتسامات على الوجوه يؤكد لنفسه أن ما يفعله هو الخير بل كل الخير .

لم تمر عدة أسابيع حتى تغيرت نظرة الناس للبوسطجي وأصبح موضع ترحاب الجميع ، بل أن الكثير منهم ذرفوا الدموع حين جاء موعد مغادرته للقرية عائدا إلى مدينته .

المنهج الذي اتبعه "البوسطجي" لا يزال مستمر دون أن يشعر أي "بوسطجي" من "البوسطجية" المعاصرين بأي وخز للضمير ، فكل يوم تتلقى أنت شخصيا رسائل من نفس نوعية رسائل "البوسطجي" الفاسدة .

رسائل متناثرة من "بوسطجية" الاعلام و الثقافة و السياسة والتعليم تغازل بسطاء الوعي وتتماشى مع مزاجهم العام ، "هل تعشق أغاني المهرجانات ؟" سأقدمها لك لتكون الواجهة الغنائية لبلد عرف الموسيقى من آلاف السنين ، هنا خبر طريف عن نجم المهرجانات ، وهذا تصريح على لسانه ، وهذه أنباء عن سيارته الجديدة ، هل تشعر بالراحة الآن ؟ سأمنحك المزيد .. "ألا تشعر بالضيق من ملابس الفتيات ؟ ألست من المؤمنين أن الفضيلة تنو وتتكاثر فوق غطاء رأس المرأة ؟" إذن سأقدم لك كل التبريرات الممكنة للتحرش فأنت الزبون، والزبون دائما على حق ،ولن أصدمك أبدا وأخبرك بوضوح أنك متخلف همجي ..حاشا لله .. سأعطيك من المبررات ما يريح نفسك ويطمئن قلبك .

وأعرف أنك لا تطيق مبدأ المساواة بين البشر ، وأعرف أنك تخجل من التصريح بنزعتك الطائفية لذلك سأقدم لك ما يرفع عنك الخجل ، هذه هي الفتاوى التي تريحك ، وهذا هو الشيخ الذي سأصنع منه نجما ليتحدث بلسانك وعلى مقاس معتقداتك المشوهة .

 سأساعدك على التخلص من متابعة أي موضوعات مزعجة، سأقدم لك هذه التسلية ،ما رأيك في الأراجوز ؟  أراجوز غير اعتيادي لا أحد يجرؤ على المساس به ، يسب ويلعن بانتظام وبلا حساب ، ينال كل ما يريده بالقانون وبغير القانون ، ما رأيك في هذه الرسالة ؟ ، سأرسلها لك كل يوم تقريبا لعدة سنوات لتعرف أنك على صواب وأن الحق لا يأتي إلا "بالذراع" وأن القانون لا يسري إلا على الضعفاء وأن البذاءة سجادة حمراء مرصعة بنجوم المجتمع .

ما هو معنى البطولة في نظرك ؟ أليس هو البطل المغوار الذي يعتلي فرسا ليقتل ويذبح؟ ، إذن إليك هذا العرض الخاص داخل المناهج الدراسية  قصة بطل عظيم غزا بلادا بعيدة فقتل الآلاف من الأبرياء مع قصة جارية حسناء قتلت خصومها فقتلوها بالقباقيب ، أليس هذا ما ترغب في أن يشكل وعي أبنائك ؟ ، القتل بطولة ودهاء و التعايش مع واقع العبيد والجواري تراث لا غبار عليه،هل تشعر بارتياح الآن ؟ .

ودعني أخبرك أيضا أنك النموذج المثالي لهذا المجتمع ، وأن مجتمعنا بالذات ودونا عن خلق الله له خصوصية تختلف عن أي مجتمع آخر فلا تشغل بالك بهذا التناقض الهائل بين أخلاق المجتمع ووجود مؤسسة دينية كبرى بميزانية مليارية على رأس منظومته الأخلاقية ،ولا تلتفت لمن يطالبونبمحاسبة هذه المؤسسة علىتدهور القيم الأخلاقية أو الفشل في مواجهة التطرف ، سأمنحك كل المبررات التي تريح نفسك الحائرة ، فهناك رونق يجب عدم خدشه والرونق هو أهم ما في الوجود ، ثم إن ما يقال عنه تطرف كما تعرف هو في الواقع إعتدال ووسطية و تقدمية والتزام بالقيم الأخلاقية والدينية وكنافة بالسكر والمهلبية .

وهل تشعر ببعض الضيق مثلا بسبب استباحة ظلم البشر أوحتى قتلهم بناءا على اختلاف الرأي أو المعتقد ؟ ما مصدر ها الضيق ؟ ضميرك؟ ، سأقدم لك بديلا لضميرك ، هذه فتوى مريحة تجعل للقتل مبررا شرعيا ، وهذه فتوى أخرى ستحدد لك إذا كانت سرقة الكهرباء حلال أم حرام ، وأخرى ستخبرك عن جواز استخدام بعض المواقع الالكترونية من عدمه ، لا تشغل بالك ، اطمئن ستصلك كل الرسائل التي تشعرك بالراحة وتتناسب مع مستوى وعيك .

وإياك أن تتساءل عن عدد الدعاة على المنابر أو على الفضائيات في اليابان أو السويد أو أي دولة متقدمة،فكما تعرف مقدماً نحن صنف آخر من البشر لا ينطبق عليه ما ينطبق على غيره،فلا تحدثني مثلا عن المنهج العلمي أو العقل النقدي فما يصلح عندنا فقط هو منهج الخرافة والدجل العلمي لذلك سأمتعك بالعديد من الرسائل المثيرة عن الجن و السحر و"فك العمل" وعن الطالب العبقري الذي اخترع قمرا صناعيا باستخدام أعواد القصب ، سأخبرك بكل مايريح نفسك ويرفع عن كاهلك هم التفكير أو وخز الضمير .

أنت تمثل هذا المجتمع الفاضل الرائع الذي يتعرض للمؤامرات حقدا وحسدا ، وراحتك تهمنا يا عزيزي ، فنم آمنا مطمئنا إلى أبد الآبدين .

هذه بعض رسائل "البوسطجية" المعاصرين التي يحرصون فيها على التماشي مع أدنى درجات الوعي في المجتمع ليكسبوا أرضية أكبر فيتجنبوا تأفف الناس من ازعاجهم بالحقائق ، فالحقيقة رغم أنها شافيه لكنها مرة كالعلقم ، ولا أحد من البوسطجية المعاصرين يريد توصيل رسائل تظهر في عيون الناس غضبا أو ضيقا فتضعه في مرمى حكم الإعدام المعنوي أو حتى الجسدي .  

 

أما "بوسطجي" القرية فقد كان حالة استثنائية  فخلال الشهور التالية لمغادرته القرية لم يستطع منع نفسه من متابعة أخبار الناس هناك فأدرك أن كل الرسائل المزيفة التي كتبها وكل الرسائل الحقيقية التي تخلص منها تسببت في كوارث دمرت حياة أناس بسطاء لاذنب لهم في شيء ، فدخل "البوسطجي" في نوبة إكتئاب جديدة انتهت بانتحاره شنقافقد كان ضميره حيالم يتحمل نتيجة خطيئته التي لا يشعر بها "بوسطجية "هذه الأيام .

 

"من وحي رواية "البوسطجي" ليحيى حقي_بتصرف كبير"

 

شاهد ايضا :- مأساة مدرس «لغة عربية»

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة