محمود الوردانى
محمود الوردانى


كتابة

فى مديح محمد صالح ( 2 – 2) عن الشعر المستحيل

أخبار الأدب

الأحد، 20 ديسمبر 2020 - 08:48 ص

بقلم : محمود الوردانى

«يتصادف أنهم يستوقفونه/ كلما عاد متأخرا إلى بيته/ يتفحصون الأوراق/ ويسألونه عن اللوحات المعدنية/ ثم يسمحون له بمواصلة السير/ يتصادف أنهم يستوقفونه أخيرا/ يكون قد تأخر أكثر مما اعتاد/ ويكونون قد انتظروا طويلا/ دون أن يعثروا على ضالتهم/ يتفحصون الأوراق/ ويتركونه مثلما يفعل كل مرة/ يغادر السيارة/ ليتأكد من وجود اللوحات ذاتها/ فى مكانها هناك/ ثم يطلقون عليه الرصاص»

 آثرتُ أن أنقل هنا قصيدة الكمين لمحمد صالح كاملة، فهى فيما أتصور تحمل الكثير من ملامح القصيدة التى أمضى عمره يشيدها بدأب وعزلة وصبر كلمة وراء كلمة، وليس بيتا وراء بيت. فالمشهد هو مايرسمه صالح. المشهد عاريا جارحا بحد ذاته، منطويا على كل الاحتمالات ومفتوحا على كل الأخطار المسلطة والغامضة. يكتب صالح عن رجل عادى لانعرف عنه شيئا، ويبدو أن كل جريمته التى استحق بسببها إطلاق الرصاص عليه، هى تأخره أكثر مما اعتاد..

  من بين الجمل التى كان يرددها دائما: أين الكتابة؟! وكيف يكتب الشعراء والروائيون كل هذه الصفحات؟ الكتابة صعبة جدا! من أين يأتى الكاتبون بالكتابة؟ كان صالح فى كل قصيدة يسعى متعمدا ليصطدم بجدار مسدود، لسبب بسيط، أنه لاشئ يمكن أن يقال أكثر من ذلك، كما أنه لايمكن قول هذا الشئ إلا على هذا النحو الذى توصل إليه محمد صالح.

من جانب آخر، أليس غريبا أن يكتب شاعر على مشارف السبعين بكل هذه الحيوية والفرادة والشباب؟ ربما لذلك لم يكتب إلا ست مجموعات شعرية تظل أغلب قصائدها جزءا أساسيا ومتفردا من متن الشعر العربى المعاصر. ليس من عادتى المبالغة، ولا أميل مطلقا لأفعال التفضيل، كما أننى لاأرثيه هنا، لكنه حالة خاصة وفريدة.

  لقد ظل خلال ساعات الليل والنهار وطوال سنوات وسنوات يبحث عن الشعر المستحيل، ولم يكن ممكنا له أن يكتب إلا تلك القصائد القليلة والمستحيلة ذات العدد المحدود من الكلمات- ولاأقول الأبيات- التى لاتسلّم نفسها لقارئها ببساطة. قصائد صالح تُقرأ مرة ومرات حتى تنفض عنها غبار العادية واليُسر الخادع.

كان ديوانه الأول «الوطن الجمر»-1984 يضم قصائد التفعيلة التى اختارها، بينما كان ديوانه الثانى « خط الزوال» يضم قصائد من شعر التفعيلة، وقصائد أخرى من قصائد النثر، وفى مجموعاته الشعرية الأربعة التالية، كان قد أدرك خطل مقاومته الضارية لكتابة قصيدة النثر، وسرعان ماأصبح أحد سادتها الكبار، وواحد من مجددى الشعر العربى المعاصر دون أى مبالغة.

  فى قصيدته كيف تكتب الخبر مثلا: «كان بإمكانه أن يبتلع كل شئ/ السياق المضطرب/ والوقائع الملتبسة/ أما مالم يكن يسمح به/ فهو الآقوال المرسلة/ التى لاتدعمها مصادر/ فأيا ماكان يجري/ وأيا كان مايتعلق به/ فإنه يطمئن إلى شئ أكيد/ أنه ينقل عن آخرين/ وأن شيئا لايشغله الآن/ سوى أى الصيغ أفضل لكتابة الخبر».

  تلك هى كتابة صالح: باردة تقريبا وغير انفعالية، ودقيقة وكارهة للغنائية ولاتقف فى الطابور، لذلك لم تكن مصادفة أن كل ديوان من دواوينه قصيدة واحدة، وأن كل أعماله تشكل عملا شعريا واحدا غائرا..

 بالنسبة لى على نحو شخصي، فأنا ماأزال حتى الآن أشعر بالخسارة و الألم لأننى فقدته مبكرا  منذ أحد عشر عاما.. لترقد فى سلام ولروحك السكينة ياصديقى الغالي.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة