عبدالفتاح الجمل
عبدالفتاح الجمل


عندما دقَّ القلب

أخبار الأدب

الإثنين، 21 ديسمبر 2020 - 11:13 م

 

كتب: عائشة المراغي

فى شتاء عام 1966 قضى عبدالفتاح الجمل ثمانية أيام بالساحل الشمالى الغربى، عاد بعدها إلى وادى النيل وخطَّ كتاب فى أدب الرحلات بعنوان «الحائط المثقوب»، لكنه أصبح عند الطبع عام 1974 «آمون وطواحين الصمت»، ووضع الجمل فى مقدمته بيتين شعريين لابن عروس، يقول الثانى منهما: مسكين من يعشق الناس.. ويريد من لا يريده.
لم يكن ذلك تقديمًا بقدر ما كان إشارة، أحسَّ بها بهاء طاهر وكتب عنها (عبدالفتاح الجمل.. عاشق الناس والوطن، مجلة الهلال، مايو 1994): «كنا نسمع ضحكاتك دائمًا وتعليقاتك اللاذعة على كل ما يحيط بك، بل من يحيط بك، ولكننا لم نكن نرى لحظات حزنك، ومع ذلك فقد كنت تترك لنا إشارات، علامات يجب أن نتدبرها ونفهمها، وإلا فما معنى هذين البيتين لابن عروس تقدّم بهما لعملك النادر (آمون وطواحين الصمت)».
ذلك البيت الشعرى لم يختاره عبدالفتاح الجمل من الفراغ، وإنما ذهب إليه مدفوعًا بأوجاع قلبه الذى عشق من لا يريده، ذلك العشق الذى أخبرنى عنه أكثر من صديق للجمل، والذى شهدت جريدة المساء مولده وانقضاءه.
بين ليلة وضحاها لم تعد القصة مجرد كلمات أسمعها، بل ظهرت أمامى ملامحها بخط يد المحِّب عبدالفتاح، فى أوراق ظل محتفظًا بها لما يزيد على ثلاثين عامًا، وتجاوز عمرها الآن الستين عامًا، ما بين مذكرات ورسائل متبادلة، وصورة للحبيبة.
اسمها ملك، ومما تكشفه الأوراق؛ هى إعلامية شهيرة من الرعيل الأول فى التليفزيون المصرى، بدأت علاقتها بالجمل عام 1959، منذ كانت طالبة فى قسم الصحافة بكلية الآداب، إذ كانت تعِّد أبحاثًا خاصة بالكلية فى جريدتى المساء والجمهورية، ثم صارت تكتب تقارير فى باب «يوميات شعب».
>>>
بعد شهور قليلة من تعارفهما، بعث عبدالفتاح الجمل بخطاب إلى ملك فى 1 مارس 1960، تكسوه الكثير من مشاعر الغيرة، التى حاول كبرياؤه أن يداريها بتوجيه النصائح، مع طلب أخير بالابتعاد و«رزع الباب»، إذ يقول لها:
«ملك
كنت أود أن أقول لك هذه الكلمات، ولكن خشيت أن تخوننى الكلمات.. أشفقت عليك وعلى نفسى.
من أجل هذا لجأت إلى الكتابة، كالمراهق، لأننى حين أكتب أعنى ما أقول.
لست بالأعمى، ولكننى أحس بكل ما يدور، أرى النشاط المتزايد من بعضهم، هذا النشاط الذى لا يخلقه إلا إثارة منك.. طبعا.
يا ستى.. لسنا فى مباراة ولا فى معركة، تفوزين انت فيها بتدعيم الذات والانتصار، ولست من المتهافتين المتهالكين.
كلما نظرت إلى ما يدور.. أشعر بالقرف والتقزز والغثيان لا مؤاخذة.
لا أحب للعلاقات من أى نوع إلا أن تكون نظيفة مضيئة. أما سياسة الازدواج والزوايا والظلام والوشوشات، فلا أطيق الوقوف فيها طويلا.
إن سياسة إمساك كل الناس بكلمة أو بنظرة، لا تعجبنى.. فأنا لا أعرف إلا فتح الباب على مصراعيه ورزعه.
ماذا قلتِ لبعضهم، وكيف كان العتاب؟ إننى أقول كل شىء وأمام بلد.. لا أحب اللبخ لأنه يصيبنى بالرذاذ.
أحب أن أطهر صدرى دائما.. كل إحساس يخطر لا بد أن يخرج وفى الحال.
فعلا أنت من صنف وجيل غير صنفى وجيلى.
طبعى يا ستى حامى، عواطفى محتدمة دائما.. أقصى الحب وأقصى الكره.. لا أعرف الوسط.
نصيحتى لك كأخ كبير – عرفتيه فى يوم ما واختفى – وأنت مقبلة على حياة ومستقبل.. أن تحددى نفسك، وتعرفى ماذا تريدين، وأن تسيرى رأسا.
نشأت مدللة.. لم تسمعى إلا كلمات الحب والإطراء والرقة. ليس هذا بعيب، ولكن العيب أن تعملى على خلقه والاحتفاظ به دائما.. وهناك فى الحياة ما هو أعمق من هذا وأمتع ألف مرة.
حددى علاقاتك بالناس، علاقات قاطعة ماضية مشرقة.. لئلا تسيئى إلى سمعتك ومستقبلك.
أنت فتاة تتوفر فيها ما لا يتوفر فى عشر فتيات.. فخسارة يا أختى.
اجعلى تصرفات «الأنثى» فيك فى المرتبة الثانية، وأفسحى الطريق لـ «ملك» تتصرف.
ثم.. لى رجاء
أن تبتعدى عن طريقى.. أما أنا فقد نفضت يدى وانتهيت.. لن أذكرك على لسانى، أما الخواطر والذكريات فأنا لها أعرف كيف أمحوها.
ابتعدى عنى الله يسترك يا بنتى.. لست منك ولست منى، لسنا متفقين فى شىء.. أريد أن أعيش فى هدوء.
لن أتبعك ولن أتتبع أخبارك.. سأمضى فى طريقى، وإن قابلتك فلن أراك.
ستحدثك «الأنثى» فيك أن تهدمى كل ما بنيت، ولكننى أكون قد مضيت.
وقبل أن أرزع الباب.. أتمنى لك السعادة فى حياتك وفى مستقبلك»
لكن القصة لم تنتهِ، والباب لم يُرزَع، وبعد أكثر من تسعة شهور، جلس عبدالفتاح الجمل بنفس القدر من التوتر والوجع يدوِّن تفاصيل الحال الذى آلت إليه علاقتهما، إذ كتب يوم 16 نوفمبر 1960 «اليوم كنا فى مفترق الطرق.. كنا نحمل أحاسيس سنة كاملة.. علاقة حائرة ملتاعة لا تدرى أين تتجه».
وتبع تلك الجملة حوار طويل يتبادلان فيه الأسئلة والإجابات. يطالب عبدالفتاح بالغد وتكتفى ملك باليوم. يدركان أن قصتهما لن تستمر لكن وضع كلمة النهاية فعل لا يملكان الجرأة للإقدام عليه.
وخلال خمسة شهور أخرى زادت الأمور تعقيدًا وقسوة، فترسل ملك خطابًا طويلًا شديد اللهجة يعصف بكل المشاعر والعلاقات الطيبة، ويرّد عليها عبدالفتاح الجمل برسالة قصيرة يقول فيها:
«لأول مرة فى حياتى، أطعن فى أعز ما أملك.. وأنا طبعا المسئول الأول والأخير.. رغم كل شىء.
كنت بالفعل أحس بكل هذا وأعانيه بشكل غامض مدمر، وينعكس على تصرفاتى.. ولكن لم تكن لدىّ الشجاعة على مواجهته وحسم الموقف.
أشكر لك شجاعتك وهذا الدرس القيم.
إننى لا أستجدى العواطف.. ولكننى سأعرف كيف أمضى من جديد فى الطريق وحدى.. حتى لا أصبح أكبر من ألعوبة.
أتمنى لك من قلبى التوفيق والسعادة فى حياتك»
>>>
أنهت ملك اختباراتها فى الكلية وغادرت الجريدة لتلتحق بالعمل فى التليفزيون، وظل عبدالفتاح الجمل يصارع مشاعره المتأججة والمتخبطة فى آن، بعدما فقد إيمانه بالحب، الذى بذل فيه كل شىء ولم يحصد سوى الوجع، الذى أفرغه على أوراق من «الدشت» يقول فيها:
«حقل تجارب.. أصبحت حقلا للتجارب، لا للأمصال والعقاقير الجديدة والاكتشافات.. بل للحب.. تأتى البنت تجرب نفسها عندى، وترى مدى قوة عاطفتها واتجاهاتها وإمكانياتها، وتضبط عداداتها كلها ثم تمضى.. العواطف اليوم كالبن تصنع.. تعمل لها بروفات عندى كالترزى.. ترزى عواطف.. لماذا لا أحترف؟ فكرة.. «مركز لحقل تجارب عاطفية».
أعطيتها كل شىء.. لم أترك شيئا وأخذت هى كل شىء.. أقبلت على كل شىء فى نهم.. أخذته كما تأخذ البلوزة الجديدة.. فرحة الحياة ونشوتها.. ثم تضاف إلى المجموعة.. تعلقها إلى جانب أخوات لها وأخوات.
.. وتركت لى .. البلاط تكشطه الريح.. والسقف والحيطان.. وأنا!
قصة تتكرر دائما.. هذه هى الرابعة ولا جديد.. بنظرتها وشحوبها، بنبرتها وروحها وأسلوبها.. لا جديد.. لا إضافات.. الوقوف والموت.
إذا كان موت فى نهاية كل شوط، فلماذا نبدأ ونعيد؟!
حول كامل.. الفصول الأربعة كلها.. وكلما سألتها قالت: ادحنا بندرس بعض.
ــ طيب بس انتى وصلتى لصفحة كام؟ يا سيدتى.. كتابى مفتوح يقرأه الأمى والكفيف، ويزعق على قاعة كل طريق.. فإذا لم تكونى قد استوعبته خلال عام، فرديه.. لن تفهميه.. الله لا يجعلك تفهميه.
لن ينفعك عام ولا قرن.. ولا حتى قرنان! تريدين أن آخذ بيدك.. إذن فكتابك ككتب إحسان.. هل قرأت كتب إحسان؟! تترددين وتفكرين؟ ليس عندى طلبك.. فحل عنى أيها الطاووس البراق.. لست أنا والله العظيم.. أنا برىء.
كلما حسمت أمرى.. دارت الرسل وسعت الوفود لنبدأ من قديم، وننتهى من قديم!
الغرائز.. التى دفنتها من زمان.. بدأت تستيقظ.. أيقظتها الأنثى فيها.
والحب عند الناس يبنى ويشيد.. والحب عندى يمزق ويحطم.
الغيرة والتفاهة.. نعم غريزة التفاهة والسطحية رأيتها تطفو على السطح..
.. والإناء البلورى الذى كنت أحتسى فيه خمر الحب.. وكم لثمته وأنا أكرع الشراب.. الإناء اليوم انشرخ.. الخلافات الصغيرة كانت تقوى وتربط.. إننى أرصد اليوم عواطفى.. الحب وهو يتزحزح.. لا أعرف الوسط.
لم أكن أحبها.. وإنما كنت أعبدها.. كانت إلهى وشيطانى.
هل لو عادت لى اليوم أحصى أنفاسها كما كنت أحصى.. هل أوشوشها بترانيم العبادة وجأرات النهم كما كنت أوشوش.. هل يصطبغ وجهها بخمر الحب كما كان يصطبغ؟!
لا.. لا تعودى إلى أسلوبك فى الخصام يا حبيبتى.. إنك تلعبين بالنار.
وقفت بالأمس تثيرين غيرتى.. كانت الأنثى تتحرك فيك.. تنظرين إلى هناك من يمينى ويسارى.. رأيت حيرتك والهستيرية التى كانت تضج فى صدرك.. رأيت الأنثى فيك.. فأيقنت ساعتها أنك تحبين.. تحبيننى.
لا تعودى إلى مثل أسلوب فى الخصام.. إنك تلعبين بالنار.. لا بل عودى!!»
لم تكن ملك الأولى، لكنها التجربة التى جعلت عبدالفتاح الجمل يقرر المضى وحيدًا، إلى أن صار – كما أجمع إخوته – من الصعب عليه تقبُّل وجود شخص معه تحت سقف واحد، ولم يعد مستعدًا لأى قيد أو مسئولية.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة