عبدالفتاح الجمل
عبدالفتاح الجمل


أسرار «محب» المخطوطة

أخبار الأدب

الإثنين، 21 ديسمبر 2020 - 11:20 م

 

كتب: عائشة المراغي

الفصل الأول بالقدر الأكبر من التعديلات.. سواء قبل النشر أو بعده

سافرتُ قبل عام إلى دمياط لزيارة الأرض التى شهدت سنوات عبدالفتاح الجمل الأولى ومثواه الأخير، وهناك قابلتُ عائلته واستمعتُ منهم لبعض ذكرياتهم معه، وحينما وصل الحديث إلى الأوراق والمخطوطات التى وجدوها فى شقته عقب رحيله لم أجد ردًا مرضيًا، ولم يبد أن أحدًا يعرف مصيرها، خاصة بعد ربع قرن من الوفاة.
فى الأوراق التى تمكـــنتُ من الوصــــول إليها ـ وتنشـــر للمـــرة الأولى ـ لمستُ حِرص الجمل على الاحتفاظ بكل أقصوصة، ووجدتُ صفحات مخطوطة لبعض أعماله، ونسخة منقَّحة من روايته الأهم والأكثر شهرة «محب» فى طبعتها الأولى الصادرة عن دار الهلال عام 1994، أجرى عليها تعديلات بالقلم الرصاص وأضاف إليها سطورًا، وأصلح أخطائها اللغوية التى نتجت عن الجمع، لربما يأتى يوم ويُعاد طبعها بتلك الصورة النهائية، وهو ما لم يحدث عند إصدار طبعة ثانية منها عام 2009 عن دار الشروق.
انشغلتُ بتصفح الرواية ومطالعة تعديلاتها، لكنى توقفتُ بعد وقتِ قصير وهمستُ لنفسى متسائلة «أين مخطوطها؟ أيعقل أن يحتفظ الجمل بكل هذه الأوراق دون مخطوط محب؟َ!».
دفعنى التساؤل إلى البحث عن النصف الآخر من الأوراق، ليس فقط المخطوطات، وإنما بقية مذكراته ورسائله التى تكمل الناقص مما لدىَّ. وبعد عدة مغامرات صحفية وشهور من تتبع الآثار أصبحت «محب» معى، بخط يد عبدالفتاح الجمل، وقلمه الأسود، وأوراق الدشت التى اعتاد الكتابة عليها بحكم عمله فى الصحافة.
>>>
كيف يكتب الجمل؟
لم تكن إجابة هذا السؤال هى هدفى من مطالعة المخطوط، فما سبقه من أوراق أتاح لى معرفة ذلك، إذ يكتب الجمل من الورقة الواحدة أكثر من نسخة ـ قد تصل لأربع أو خمس ـ ليعدِّل فيها بعض سطور أو كلمات، ويستمر فى المراجعة حتى يدفع بالعمل للنشر، وما بعده.
ما أردت معرفته هو حجم التغيير الذى طرأ على أيقونة الجمل «محب»، وهل شكلها النهائى هو ما خطّه منذ البداية أو يقترب منه مثل رواية «الخوف»، أم أنها خضعت لاستبدال تام فى تكوينها كما حدث مع رواية «آمون وطواحين الصمت».
>>>
ظهر الاختلاف مبكرًا، منذ الصفحة الأولى التى تتضمن إهداء منه لأخيه الحاج عبده، إذ جُمِعت علامات الترقيم بشكل خاطئ، واستُبدلت جميع النقاط بـ«فاصلات»، فاختفت معها الوقَفات وارتبك المعنى بعض الشىء.
وفى الجملة الأخيرة من الإهداء استبدل الجمل كلمة «جحافلها» لتصبح «قطعانها»، إذ تشير الأولى إلى كثرة العدد بينما تزيد الثانية على الكثرة صفة الانسياق دون عقل. كما أضاف بين كلمتى «الزلط» و«الإيقاع» فاصلتين تتوسطهما «من محب»، وقد كان الإهداء فى صورته الأولى كالتالى:
«إلى أخى الحاج على.. أهدى هذا العمل. منذ أن أسعفتنى ذاكرته فى القريب من الأحداث. أما البعيد الموغل، فهو لى. منذ أن جنحت منى الملعونة، وحرَنت فى الخط هناك. وقد زحفت بأظلاف جحافلها المدينة، والتهمت فى معدتها الزلط، الإيقاع والملامح والنفَس والنكهة»
بينما جاء المنشور، بأخطائه وتعديلاته، كالتالى:
«إلى أخى الحاج على.. أهدى هذا العمل، منذ أن اسعفتنى ذاكرته فى القريب من الاحداث، اما البعيد الموغل فهو لى، منذ أن جَنحتْ منى الملعونة وحرَنت، ونامت فى الخط هناك، وقد زحفت بأظلاف قطعانها المدينة، والتهمت فى معدتها الزلطِ، من محب، الإِيقاعَ والملامح والنفَس والنكهة»
>>>
تنقسم رواية «محب» إلى ثلاثة فصول أو ثلاث «محبيات» كما أسماها الجمل، يسرد من خلالها سيرة قريته وسكانها من بشر وحيوانات ونباتات وجماد، وتزفر «محبيات 1» بالنصيب الأوفر من الحذف والإضافة، سواء قبل الطبع أو بعده.
السمة الأبرز فى الفصل والمتجلية بمجرد التصفح، هى استغناء عبدالفتاح الجمل عن 85 ٪ من عناوينه الفرعية، والاكتفاء عند الطبع بستة فقط من أصل أربعين عنوان، هى «فى سيرة محب»، «ياسين الفران»، «زَرّْ»، «وتريات الغاب»، «مابَّسش» و«مسك الختام». لكنه أضاف إليهم عنوان سابع بخط يده فى النسخة المطبوعة، يحمل كلمة «تأجيج»، كان فى المخطوط «ردّاحة محب» وتم حذفه.
ولم ينتبه الجمل إلى أنه لم يحذف عنوان «الابتداع والاتّباع» بل سقط سهوًا أثناء الجمع، مثلما سقطت كل علامات التشكيل تقريبًا. أما بقية العناوين التى حذفها، فهى: طه أبو إسماعيل، الحصن، سر الخلود، جاموسة الجلّادى، ذكر البط، نكاية (1)، نكاية (2)، الجنانوة، متحف القرية، المزين الصموت، أم قرشين، شايلة قفة، قنطرة الانتخابات، سابقة، كلما زنّ الكيف، أبو النوم وأبو رياح، البياض المقلى، الحمارة والشال، بلحة، إطفاء المطفأ، الحدث الأكبر، زرزور، ما علينا، عسل وطحينة، على الكسار، سر التوتة، المزراب المعطوب، نورة، أصل ربنا ما أرادش، النبتة الجارحة، الرجل الذى نجاه زناد عقله، والشَّمَلْتِيَّة.
>>>
فى الثُلث الأول يرسم عبدالفتاح الجمل بورتريهات لأفراد قريته، ممن اصطفاهم ليصبحوا شخصيات الرواية، وبين كل بورتريه وآخر ترك مسافة فاصلة.
من شخصياته «عمّ رخا الخفير» الذى وصفه قائلًا: «يخاف هو الخفير المسلح، ويصطك جسمه كله، وشعر رأسه يقف، حتى سمَّوه عم رخا القُنفد»، وقد جاءت الجملة الأخيرة بديلًا لجملة «كأنه رجل القنفذ»، ليدلل على أن صفة «القنفذ» تعدت التشبيه إلى التسمية والاشتهار بذلك بين أبناء القرية.
وفى واحدة من الجُمل الحوارية يقول أحدهم لفتاة «ايوه ياختى ايوه. هو الملعوب ده يخيل علىّ. كان غيرك أشطر» ثم استبدل الكلمات الثلاث الأخيرة بجملة «اشَّخلعى لى ياخْتى اشّخلعى» لكنها كُتبت دون أى علامات تشكيل.
>>>
يميل عبدالفتاح الجمل فى أحيان كثيرة إلى التخفف من الكلمات الزائدة التى لا تضيف إلى المعنى، مثل أن يصف كرسى بأنه «غالى مذهب» ثم يحذف كلمة «غالى» لأن «مذهب» تفيد المعنيين.
وفى جملة أخرى تحدَّث عن القمر فكتب أنه «مقياسنا للشهور العربية لأنه صانعها، وأهم شهورنا بالطبع رمضان» لكنه حذف كلمة العربية، باعتبار أن «نا» تعود عليه وعلى قرائه من العرب، كما أن ذِكر شهر رمضان قد أوضح المقصود بالشهور دون زيادة.
>>>
وأحيانًا يكون الاستبدال أو الحذف لاكتشافه أن الكلمات لا تؤدى المعنى المطلوب، كتلك الجملة «وفجأة أحسا بالحائط بثقله وعرضه يهوى عليهما» إذ استبدل فيها كلمة «عرضه» بـ «سُمكه» لأنها المناسبة والأكثر ارتباطًا بالثقل، وقبلها بسطور قليلة استبدل نفس الكلمة من جملة تصف الجدار بأنه يناهز المتر سُمكًا بدلًا من عرضًا.
وفى أحد تشبيهاته لطبقات الناس ومعادنهم، تحدَّث عن المعدن الكرومى الأبيض الطويل الفارع، قائلًا: «يعتلى جسور الترع العذبة الحادة المقددة، تمسك أقدامه الجسر المنحدر» ثم حذف كلمة «المقددة» لأنه وضعها كوصف للجسور، لكن موضعها بالجملة بعد العذبة الحادة جعلها صفة للترع، فقرر الاستغناء عنها.
>>>
وبعض التغييرات تكون بمثابة إشارة إلى سمات فى شخصية عبدالفتاح الجمل، كاستبداله لكلمتى «سنة الكون» فى تساؤل أحد سكان القرية «أم تريد أن تغير من سنة الكون؟» لتصبح «سنة الله فى كونه»، وهو استبدال يشير إلى النزعة الإيمانية الموجودة لديه وتظهر أحيانًا فى كتاباته منذ كان شابًا، ولم يفقدها حتى أيامه الأخيرة.
وهناك اختلافات تحدث بالخطأ عند الجمع لكن نتيجتها تكون تغييرًا فى المعنى، ومنها هذه الفقرة التى يقول فيها «اللعبة الانتخابية لا شأن للبلد بها إلا زعزعة أحلامها» والأصل هو «زغزغة أحلامها» بمعنى الدغدغة، وتلك لم ينتبه لها الجمل، لكنه انتبه لأخطاء أخرى مثل «شفَّت» التى أصبحت «شغت عن التهديد»، و«غطيان حللهن المجنزرة» التى كُتبت بالخطأ «غيطان».
>>>
وعلى عكس المتن الذى طغا الحذف على تغييراته، فإن السطوة فى الهوامش كانت للإضافة، فيما عدا هامشًا وحدًا كان يوضِّح فيه معنى كلمة «الماصَّة» بأنهم مصاصو القصب، ثم قام بشطبه، وهامش آخر لكلمة «نغرِّهولك» بمعنى «نثبته بالغراء» سقط من الجمع، أما البقية فتباينت بين هوامش فى النسخة المطبوعة لم تكن موجودة فى المخطوط، أو هوامش مكتوبة بالقلم الرصاص فى الكتاب المطبوع.
نجد مثلًا؛ رقم أعلى كلمة «اللمبة الصاروخ» فى المخطوط، لكن أسفل الصفحة لا يوجد هامش، وإنما تضمنه الكتاب المطبوع، بترقيم خاطئ ـ وهى سمة منتشرة على طول الهوامش ـ إذ جاء الهامش برقم (1) بينما ما يسبقه رقمه (5)، ويفسِّر الصاروخ بأنه «زجاجة صغيرة بها وقود، وبفوهتها لبوس من صفيح، يتخلله فتيل، يوقد ليخرج صاروخ الشعلة».
وفى موضع آخر لم يكتب الجمل لكلمة «يُشَنكله» توضيحًا فى المخطوط، لكنه عرَّفها فى الكتاب المطبوع بأنها «يعرقله بقدمه ليقع»، بينما يضع تعريفًا مختلف لها فى سياق آخر «يشنكل بابها» أى «يقفل بابها بالشنكل الكبير، وتسميه محب الغراب»، ومثلها كلمة «فَلْفِلى الرز» التى وضَّح معناها فى الكتاب بأنها «أنضجيه حتى لا يتعجن أو تتلزق حباته وتلتصق، بل يبدو متفردا كحبات الفلفل».
وكذلك كلمات «الشرشوحة» بمعنى «ذات اللسان الفالت المقذع»، «وقِدَّة» التى يحاذى بها الطوب عند البناء، «بكيب» وهو منسوج البردى والكيب أحنى من السدة التى من الغاب الريحى، «شوَّرى» أى جهزيه بمتاع بيته، «التحاريق» ومعناها شتاء حين تنحسر مياه النيل، «برد العجوزة» وهى الأيام الثمانية الأولى من شهر أمشير القبطى والعجائز أكثر تأثرًا بها، و«البتاو» وتعريفه هو «رغيف مرحرح واسع جدًا وهش، تضاف الذرة إلى قمحه لتقطع عرقه، فلا يعلو ولا يشغل حيزا، بعض المحافظات تستبدل بالقمح وعرقه البامية الجافة مع الذرة وبعضها تضيف الحلبة».
أما الهوامش التى أضيفت بالقلم الرصاص ولم تُطبع إلى اليوم، فمنها «القُزْعة» ومعناها «قليل الشعر فى وسط الرأس وفى العامية القصير الضئيل»، و«الفسكرية» التى كتب فى توضيحها «هكذا تنسب محب إلى فارسكور المركز، بالاستغناء عن خدمات الراء الأولى والواو الأولى وهو إجراء سليم».
>>>
فى الفصلين الثانى والثالث اختلف نهج الكتابة، إذ ظهرت العناوين بوفرة؛ رئيسية وفرعية، وهى نفسها الموجودة فى المخطوط بدون تغيير، لكن ما تبين أن كل عنوان رئيسى كتبه عبدالفتاح الجمل اعتبره قصة منفصلة، حتى أنه وضع توقيعه فى نهاية كل منها، وهو ما يفسِّر وصف بدر الديب لـ«محب» فى الصفحة الأخيرة، إذ كتب: «تنتمى السيرة التى كتبها المؤلف لقريته إلى فن القصة القصيرة أو الرواية».
لم يكتفِ الجمل بكتابتها كقصص، وإنما بدأ منذ أوائل التسعينيات فى نشرها هكذا أيضًا، كل منها قائمة بذاتها، مثل «من كَفَنِه خَرَج» التى نُشرت فى مجلة نصف الدنيا و«حكمة.. يطارد عزرائيل» بجريدة الجمهورية، وربما لذلك لم يطرأ عليهما تغيير ملحوظ فى المخطوط، وإن كانت القصة الثانية قد أضيف إليها بعد الطبع ثلاث كلمات بالقلم الرصاص، فى إحدى الجُمل الحوارية على لسان البطل يقول فيها «مفيش عدل ولا أصول؟» فشطَب عبدالفتاح الجمل على كلمة أصول، وجعل الجملة «مفيش عدل ولا إنصاف؟ مافيش أصول؟».
>>>
من أبرز المحذوفات فى الفصلين؛ وصفه لشخصية فى قصة «زفاف الملائكة» قائلًا: «الله وحده أعلم بما تحمله بذرته، كما تحمل النواة أدق ملامح النخلة» إذ حذف الجملة الأخيرة وتوقف عند كلمة «بذرته».
والاختلاف الأكبر بين المخطوط والكتاب المطبوع ظهر فى قصة «الحدق يفهم» رغم قِصرها، إذ عجَّت باستبدال كلمات وجُمل حتى نهايتها، أولها تغيير كلمة «الإنسان» مرتين؛ ووضع كلمة «الآدمى» بدلًا من الأولى و«ابن آدم» بدلًا من الثانية، وسبب ذلك أن كلمة إنسان تحمل معنى لا ينطبق على ما يُذكر بجانبها من صفات التعذيب والسجن والصراخ، فكل بشرى هو ابن آدم، لكن الإنسانية صفة لا تتوفر لدى الجميع.
وفى الفقرة التالية استبدل الجمل كلمات «الدين والأخلاق والتقاليد والحرية والعدالة» بكلمة واحدة هى «مقدسات»، فكتب أن السجن أبشع ما أقامه ابن آدم على الأرض من بنيان «يزج فيه باسم مقدساته كل من يخالفه» وتبع ذلك بجملة طويلة لم تكن موجودة فى المخطوط «حتى عمدة محب الأكتع يحول إليه كل من لم يدخل له من زور».
ومن وصف الحضارة الدموية حذف جملة شارحة عنها وهى «المدموغة بالسجن والمعتقَل والمتحفَّظ عليه والمحدد إقامته».
>>>
أما هوامش الفصلين فكانت عزيزة فى المخطوط، وأضيف إليها المزيد فى النسخة المطبوعة، بدءًا من الصفحة الأولى التى وضع الجمل فيها تعريفًا لكلمة «البِربرة» بأنها الأنثى من الدجاج فى أول عهدها بالبيض، ليفسِّر كلمتى «ديك البرابر» فى مستهل قصته.
وبقلمه الرصاص، أضاف هامشين إلى الفصل الثانى بالكتاب المطبوع، هما «سوارى جلبابه» إذ عرَّف السوار بأنه «حلية المعصم وجمعها أسورة وأساور، وتطلق محب الجمع على بداية كم الجلباب أو القميص، الجمع الأول مفردا والآخر جمعا له»، و«الندوة» وهى آفة تصيب الزرع فى الندى والرطوبة.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة