إيفان بونين
انتشلته جائزة نوبل من الفقر:
روسيا تحتفل بمرور 150عاماً على ميلاد إيفان بونين
الخميس، 24 ديسمبر 2020 - 01:35 م
د. مكارم الغمرى
احتفلت الأوساط الثقافية فى روسيا وخارجها بذكرى مرور 150 عاما على ميلاد الشاعر والكاتب إيفان بونين(١٨٧٠ ذ ١٩٥٣ )أول أديب روسى يحصل على جائزة نوبل 1933.
بدأ بونين كتابة الشعر وهو فى السابعة، ولم يكمل تعليمه الجامعى رغم أنه ولد فى أسرة إقطاعية نبيلة، لكن أسرته عانت من الإفلاس. مع ذلك،تميز بونين بغزارة المعارف وتنوعها، وبمعرفة كبيرة باللغات الأجنبية مكنته من ممارسة الترجمة إلى جانب الكتابة الأدبية. عبر بونين عن صلته الحميمة بالشعر حين أشار اولدت لأكون شاعرًاب، وظهرت باكورة قصائده عام١٨٨٧، أما أول مجموعة شعرية فظهرت فى ١٩٠١ بعنوان اسقوط الأوراقب، ومعها بدأت شهرة بونين بوصفه شاعرا للطبيعة.
يكتسب المنظر الطبيعى فى أشعار بونين سمات محددة، ويخيم على الطبيعة فى أشعاره جو الخريف والفناء، ويكتسى المنظر بنغمة من الحزن، وخصوصا، فى أشعاره التى تتناول وصف انهياراعروش النبلاءا: الموضوع الأثير فى إبداع بونين الشعرى والنثرى. إن المخرج من الحزن يجده بونين فى التواجد مع الطبيعة؛ التى يجد فيها السلوى وسكينة النفس، هكذا نجد الطبيعة فى قصائد بونين: اتنمو، تنمو، أعشاب القبرب، اسيحل يوم أتوارى فيهب، وغيرها. وتلتحم صورة الطبيعة بصورة الوطن الأم، كما تمتزج الصورة الشعرية بعناصر الفولكلور والموتيفات الدينية التى تشغل مكانة مهمة فى إبداع بونين. ويتميز إنتاج بونين الشعرى بالقالب المهندم والجرس الموسيقى الذى عبر بونين عن علاقته الحميمة به، كما يخصه الغنائية والرؤية الفلسفية المتأملة.أما إنتاج بونين النثرى فقد جسد جانبا كبيرًا منه ظاهرة سقوط عروش النبلاء التى أخذ بونين يبكيها فى بعض قصصه مثل االقاع الذهبىب اتفاحات أنطونياا االلقاء الأخيرب اكأس الحياةب، ما دعا بعض نقاده إلى وصفه بـ امنشد الإقطاع الآفلب.ارتبط موضوع زوال عالم الإقطاع فى إبداعه بالمرحلة التاريخية التى كان بونين شاهدًا عليها، مرحلة الانهيار الاقتصادى والتاريخى لطبقته النبيلة الإقطاعية، وهى مرحلة اتخذت مدارها فى ثمانينات وتسعينيات القرن 19، وقد لعب دورًا كبيرًا فى اهتمام بونين بهذا الموضوع أصول الكاتب الطبقية والتحامه بعالم النبلاء الإقطاعيين الذى خرج منه وتشرب ثقافته.
رواية االقريةب
االقريةب هو عنوان رواية قصيرة لـ بونين، وهى واحدة من مؤلفاته التى عكست صورة القرية الروسية وتناولت وصف الإقطاع والفلاحين، وتعكس علاقة الكاتب الوثيقة بعالم القرية، وهى علاقة أشار إليها حين قال إن االصلة الحية مع القرية الروسية كانت دوما منبع الإلهامب. تميزت الرواية، كما القصص، بالوصف المقتصد وواقعية التفاصيل، بالإضافة لدقة اللغة والولع بالتحليل النفسى للشخصيات التى تتجسد أمام القارئ بكل سماتها الفردية المميزة. ويتغلب مزاج االخريفب الذى ميز طابع أشعاره على نتاجه القصصى.
من الأيام الملعونة للمهجر
حين قامت الثورة البلشفية كان بونين واحدا من الرافضين والمعارضين لها. بعدها كتب االأيام الملعونةب فى الفترة من ١٩١٨ذ١٩٢ فى موسكو وأوديسا، وخرجت على شكل يوميات تسجل فيها الأحداث العاصفة فى روسيا إبان الثورة وأحداث الحرب الأهلية التى أعقبتها.عكست اليوميات لمحات من المعاناة وتضارب المشاعر والمآسى التى صاحبت فترة الحرب الأهلية، كما جسدت قلق بونين على حال روسيا ومستقبلها. وجه الكاتب الروسى نقده لسلطة البلاشفة الجديدة، وعبر عن تشككه فيها، وحاول كشف ممارسات العنف التى مارستها الثورة فى موسكو واوديسا فى تلك الفترة ، وشاهد فى الثورة كارثة قومية.
فى عام ١٩٢٠ رحل بونين من روسيا ضمن موجة الهجرة الأولى للمثقفين الروس الذين رفضوا ثورة أكتوبر، ولم يتقبلوا ظروف الحظر والرقابة المشددة والملاحقات التى طالت المعارضين. تشكلت مراكز الهجرة الروسية فى مدن أوروبية وأمريكية، واستقر المقام ببونين فى باريس. فى تلك الفترة صارت باريس مركزًا مهما من مراكز الهجرة الروسية،حيث استقرت جالية روسية كبيرة تضم صفوة من الأدباء والفنانين التشكيليين والفلاسفة والعلماء، وقد نشأت فى اباريس الروسيةب المدارس والمؤسسات العلمية الخاصة بالمهاجرين الروس، وتكونت الجماعات الأدبية، وأسهم بونين بدور كبير فى مساعدة الأدباء المبتدئين وفى إسداء النصح والإرشاد لهم بخصوص مهارات الكتابة الأدبية، وكان يقص عليهم تجربته فى الكتابة الأدبية ويروى لهم عن لقاءاته مع تولستوى وتشيخوفوجوركى. عانى الأدباء الروس فى ظروف المهجر، ومنهم بونين، من العوز، وقد أنقذ بونين من الفقر المبلغ المالى الذى حصل عليه من جائزة نوبل فى عام ١٩٣٣، وتبرع بجزء منه لمساعدة الأدباء المحتاجين، وتشكلت لهذا الغرض لجنة لتنظيم التصرف فى المبلغ.
إبداع بونين فى المهجر
شغلت موضوعات الحب والموت والطبيعة والذاكرة ومغزى الحياة مكانة مهمة فى إبداع بونين فى فترة المهجر، ومن أهم مؤلفاته فى تلك الفترة ززهرة أريحاب احب ميتياب اضربة شمسب احياة ارسينيفب اتحرير تولستوىب واالدروب الظليلةب وتعتبر االدروب الظليلةب و احب ميتياب من أهم مؤلفاته التى تناولت موضوع الحب ، حيث يتخذ وصف الحب فيها منحى مأساويا، وهو قرين الصلة بالموت والفراق. وتعد الرواية البيوجرافية احياة أرسينيفب من أهم أعمال فترة المهجر، وهى رحلة فى الذاكرة عبر الأنا والوطن الضائع،أما دوافعها كما كتب بونين فى تصديره االأشياء والأعمال ما لم يكتب عنها تغلفها الظلمة، وتنتقل إلى مقبرة النسيان، كما أن الكتابة عنها تبعث بالإلهامب.
يتوقف بونين عند محطات حياتية فى حياة بطله الرئيسى أرسينيف الذى يحمل جانبا منه، وتستوقفه فترة الطفولة خاصة، حيث تلتحم فى الذاكرة بصورة الوطن والأرض والحقول والطبيعة والكون. ويكتسى الحديث عن الوطن بنغمة من الحزن والأسى على روسيا االضائعةب. وبالتوازى مع سرد حياة أرسينيف، يصور لقطات من الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد فى روسيا فى العقود الأخيرة من القرن الـ 19 وبداية ال ـ20، كما تعكس تأملاته فى الفن والثورة والثقافة والموت والحياة والطبيعة.
وتعتبر اتحرير تولستوىب من أعماله المهمة. يجمع فيها بين عناصر الدراسة البيوجرافية وأدب المذكرات والدراسة النقدية والعمل الفنى.
ينطلق بونين فى كتابه عن تولستوى من حبه العميق لتولستوى الإنسان والمفكر والأديب ومن تأثره بأفكار تولستوى، فقد كان بونين واحدًا من مريديه وأحد أتباع الحركة التولستوية التى ظهرت فى روسيا فى ١٨٨٠ واستمرت حتى بداية القرن الـ 20 تحت تأثير فكر تولستوى وفلسفته، حيث تبنت هذه الحركة أفكاره فى الزهد وحب الطبيعة ونبذ الحروب والعنف، والدعوة للحب العام والتسامح والعمل اليدوى.
بناء النص فى اتحرير تولستوىب غير تقليدي، فأحيانا يتقاطع صوت بونين مع صوت تولستوى نفسه، كذلك نجد بونين يتخلى أحيانا عن دوره بوصفه السارد الرئيسى ويترك المجال لروايات أفراد عائلة تولستوى و المقربين وبعض المعاصرين لتولستوي. ويتكشف من خلال رواية بونين والآخرين ملامح من شخصية تولستوى وعاداته اليومية ومأكله ومشيته وتعبيرات وجهه وطريقة حديثة وهواياته وصفحات من سيرته الذاتية: تولستوى الضابط المحارب فى معارك سيباستوبل، تولستوى الأديب المبدعوالإنسان، والمفكر الذى انشغل طويلا بالتفكير فى مغزى الحياة والموت والوجود الانسانى، وهى نفس القضايا التى شغلت فكر بونين نفسه.
يروى لنا بونين فى اتحرير تولستوى ب عن تأثره العميق بتولستوى الانسان والأديب والمفكر، وعن لقاءاته معه، وتشجيع تولستوى له على الكتابة فى بداية طريقه الأدبى ، فى وقت انتابه اليأس من الكتابة، وربما كانت تجربة تولستوى السابقة مع بونين هى الدافع لتشجيع بونين للكتاب المبتدئين فى المهجر. ويتزامن صدور ترجمتى العربية لـ اتحرر تولستوىب عن مشروع اكلمةب مع الاحتفالات بمرور 150عامًا على ميلاده.
ثقافات الشرق والغرب
يتميز إنتاج بونين بالانفتاح على ثقافات الشرق والغرب، ويعتبر إيفان من أكثر الأدباء الروس اهتماما بالشرق العربى، وقد سافر بونين إلى دول عربية كثيرة مثل مصر وفلسطين والأردن وسوريا ولبنان والجزائر، وكتب من وحى زياراته العديد من القصائد والاستطلاعات الأدبية، وسبق أن تناولت فى كتابىامؤثرات عربية وإسلاميةب التأثير العربى والإسلامى فى إبداع بونين، وتناولت فى هذا السياق اهتمام بونين بحضارة مصر القديمة وتقديره العميق للأثر الحضارى الباقى الذى تركته الحضارة الفرعونية.