بردية محاكمة الموتى بالمتحف البريطانى
بردية محاكمة الموتى بالمتحف البريطانى


تفاصيل رحلة المومياوات الملكية إلى مصر القديمة

آمال عثمان

الجمعة، 25 ديسمبر 2020 - 07:55 م


٢٢ مومياء ملكية تنتقل من متحـــــــــــــــــف «التحرير» إلى «الحضارة»

«السلام عليك أيها الإله الأعظم إله الحق.. لقد جئتك يا إلهى خاضعاً لأشهد جلالك.. جئتك يا إلهى متحلياً بالحق.. متخلياً عن الباطل.. فلم أظلم أحداً ولم أسلك سبيل الضالين.. لم أحنث فى يمين ولم تضلنى الشهوة.. لم تمتد يدى لمال غيري، لم أكن كذاباً ولم أكن لك عاصياً.. ما قتلت وما غدرت .. وما كنت محرضاً على قتل.. لم أرتكب الفحشاء ولم أدنس شيئاً مقدساً.. ولم أغتصب مالاً حراماً ولم أنتهك حرمة الأموات.. إنى لم أبع قمحاً بثمن فاحش ولم أغش الكيل.. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر.. وما دمت بريئاً من الإثم.. فاجعلنى يا إلهى من الفائزين».


هكذا أقسم المصريون القدماء وهم يستعدون للرحلة الأبدية، هكذا كان المصرى منذ أقدم العصور، لديه إيمان راسخ بأن أفعاله وأخلاقه تحدد طريق صعوده إلى العالم الآخر، وكانت تلك النصوص من «كتاب الموتي» محفورة فى عقله وفوق جدران المقابر والمعابد، واليوم تنتظر ملوك وملكات مصر فى العصر الذهبى رحلة أخرى يترقبها العالم، رحلة ملكية تصحبهم فـى موكـب حضـارى مهيـب يليـق بعظمتهم، تبدأ من ميدان التحرير فى قلب العاصمة، وصولاً إلى مدينة «الفسطاط» أول عاصمة لمصر بعد الفتح الإسلامي، لتستقر مومياء الملوك والملكات فى مقرها الدائم على ساحل النيل بالجانب الشمالى الشرقي، وترقد فى سلام داخل متحـف الحضـارة بحى مصـر القديمـة، الحى العريق الذى يحتضن حضارات مصر القبطية واليهودية والإسلامية.

تأتى فكرة الموكب الملكى احتذاء واقتداء برحلة نقل مومياء الملك رمسيس الثانى إلى فرنسا، ومراسم الاستقبال الملكية المهيبة التى كانت فى انتظاره بمطار شارل ديجول، حيث تقدمه حرس الشرف، وأطلقت المدفعية 21 طلقة، وخرجت الطائرات الحربية، احتفالاً بقدوم فرعون مصر العظيم، واستخرجت له وثيقة سفر رسمية، وأدرج فى خانة الوظيفة «ملك متوفى»، من هنا جاء التوجه باستقبال ٢٢ مومياء لملوك مصر الفرعونية، بمراسم استقبال ملكى حافل يليق باسم ملوك مصر، وبمكانتهم المبجلة فى التاريخ المصري، من خلال موكب احتفالى ضخم، يسمح للعالم أجمع بشرف مشاهدة تلك اللحظة المهيبة، حينما يترك فيها هؤلاء الملوك أماكنهم بقاعة المومياوات فى المتحف المصرى بالتحرير، التى ظلت تحتضن مومياوات الملوك منذ عام 1994، ليكونوا درة تاج متحف الحضارة المصرية، الذى يروى قصة الحضارات المتعاقبة على أرض مصر، من قبل التاريخ وحتى العصر الحديث، ويظلوا شهوداً على عظمة هذا البلد العظيم.


بدأت رحلة المومياوات منذ العصور القديمة، حين نقلها الكهنة مـن مقابرهـا الأصلية فـى وادى الملـوك بالأقصر، إلى مجموعة خبايا قريبـة لحمايتها من السرقات، وفى عام 1881 تـم نقلها من موطنهـا بالأقصر إلى متحف بولاق، وبعد 10 أعوام تعرض المتحف للتهديد بسبب الفيضان ونقل إلى الجيزة، وبعد بناء المتحف المصرى فى التحرير، انتقلت إليه المومياوات، وظلت بداخله 118 عاماً قبل أن يصلوا إلى محطتهم الأخيرة داخل متحف الحضارة.


تحتمس الأول


أصبـح «تحتمـس الأول» ملـكاً بعـد وفـاة الملـك «أمنحتـب الأول»، علـى الرغـم مـن أنـه لـم يكـن ينتمـى إلـى عائلـة أحمـس، ووالده «سانسب» غير معروف، ويرجح أنه كان أحد قـادة الجيـش السـابقين، اعتلـى العـرش فـى سـن الأربعين تقريبـاً، ويعَتقـد أنـه حكـم أكثـر قليلاً مـن 10 سـنوات، وزوجتـه الرئيسـة «أحمـس»، يشـير اسـمها إلـى أنهـا كانـت مـن أقـارب الأسرة المالكـة، وأنجـب منها الملكة «حتشبسـوت»، كمـا أنجب من زوجته غير الملكية «مـوت نفرت» خليفتـه فى الحكم «تحتمس الثانـي»، ولديـه أبنـاء آخـرون لـم يتـم التعـرف علـى أمهاتهـم.


 عـرف الملـك «تحتمـس الأول» كملـك محـارب عظيـم، قاد حملات عسكرية كبيـرة علـى سـوريا، وامتـد الحكـم المصـرى فـى عهـده ناحيـة الجنـوب حتـى الجنـدل الرابـع للنيـل، وفتح فرصـاً جديـدة للتبـادل التجـارى والعلاقـات الدبلوماسـية والاقتصادية مـع دول الجوار، وسجلت تلك الحملات فـى مقابـر العديـد مـن مسـئوليه، وكان معروفاً أيضاً بجهوده المقصودة فـى ربـط عهده بأمجاد أسلافه - من أجـل تثبيت حكمه- حيـث قـام بتنفيـذ مشـروعات إنشـائية واسـعة النطـاق، فى مواقـع مختلفـة مثـل أبيـدوس، منـف، أرمنـت، الهيبة، إلفنتيـن، وإدفـو، وفـى طيبـة ينسـب إليـه الفضـل فـى إضافـة صروح إلـى معبد الكرنـك، وإكمال الـرواق الذى بـدأه الملك «أمنحتـب الأول.»


وقـد سـجل المهنـدس المعمـارى «إنينـي» أن الملـك «تحتمس الأول» بنى مقبرة سـرية لم ير أويسمع أحد بهـا، دون تحديـد موقـع تلـك المقبـرة، ولكـن يبـدوأن لصـوص المقابـر قـد وصلـوا إليهـا فـى وقـت مـا، ممـا جعـل ابنتـه الملكـة «حتشبسـوت» تقـوم بدفنـه فـى مقبرتهـا رقم 20، وتـم العثـور علـى الموميـاء التـى يعتقد أنها تخص «تحتمـس الأول»، بخبيئة الدير البحرى داخـل زوج مـن التوابيـت قـد صِنعـا للملـك مـن قَبـل ابنـه الملـك «تحتمـس الثانـي»، ويأخـذ التابوتـان شـكل موميـاء، ذراعاهـا ظاهرتـان متقاطعتـان علـى الصـدر، ويداهـا مقيدتـان، ويرتـدى الملك شـعراً مسـتعاراً طويـلاً ذا خصلات، وتزيـن الصـدر قلادة عريضـة رائعـة، وتبين من الأشعة المقطعيـة وجـود رأس سـهم معدنـى بطـول 2 سـم، تحيـط بـه كتلـة كثيفـة فـى الجانـب الأيمن السـفلى مـن الصـدر، مـن المحتمـل أن تكـون دماً متجلطـاً. نسـبت هـذه الموميـاء فـى الأصل إلـى «تحتمـس الأول»، حيـث تـم صنـع التوابيـت فـى الأصل لهـذا الملـك، وكان «ماسـبيرو» يعتقـد أن الوجـه يشـبه وجه «تحتمـس الثانـي» أو»تحتمـس الثالـث»، ومـع ذلـك فهنـاك عـدد مـن الدلائل علـى أن هـذا الاعتقاد غيـر صحيح، وأن مـن قـام بتخصيص التوابيت هوالكاهن «بانجـم الأول».


وقـد أثـارت تلـك الموميـاء عـدة تسـاؤلات؛ مثل سـن المومياء عنـد الوفـاة، حيـث أعطـت نتائـج فحـص الموميـاء عشـرين عامـاً، بينمـا تشـير الدلائل أن الملـك توفـى فـى عمـر الخامسـة والخمسـين! فضـلاً عـن وجـود سـهم داخـل الجسـم، علـى الرغـم من عـدم وجود أى دليـل علـى أن الملـك «تحتمس الأول» مـات موتة عنيفة، ووضـع الذراعيـن يختلف عـن وضـع الذراعيـن فـى زخرفة ً التابوتيـن، ونظـراً لأن الموميـاء كانـت فـى الخبيئـة الملكيـة، ويتوافـق تحنيطهـا مـع أسـلوب تحنيـط الأسرة الثامنـة عشـرة، فمـن المرجح أنها موميـاء لأحـد أفـراد عائلـة التحامسـة.


تحتمس الثاني


لا يعـرف الكثيـر عـن عصـر الملـك «تحتمـس الثانـي» رابـع ملـوك الأسرة 18، بسـبب قصر فترة حكمـه نسـبياً، فهـوابـن الملـك «تحتمـس الأول» مـن زوجـة ثانويـة، وتـم تأميـن حكمـه من خلال زواجه مـن «حتشبسـوت»، ابنـة «الملكـة أحمـس» الزوجـة الرئيسـة للملـك «تحتمـس الأول»، ومازالت فترة حكمه محـل جـدل، ربما تكون أقل مـن 5 سـنوات. أنجب من «حتشبسـوت» ابنتيـن همـا «نفـرورع» و»نفروبيتـي»، وكانـت زوجتـه الثانويـة «إيسـت» هـى أم ابنـه الوحيـد «تحتمـس الثالـث» الـذى خلفـه علـى العـرش.


تشير المصـادر التاريخيـة نجـاح الملـك «تحتمـس الثانـي» فـى إخمـاد العديـد مـن الثـورات فـى النوبـة.


تـم العثـور علـى موميـاء الملـك، فى خبيئة الدير البحرى، داخل تابـوت مسـروق مـن خشـب الآرز، يرجـع إلـى الأسرة 18، لكن اسـم المالـك الأصلى غير معلـوم.


تحتمس الثالث


معارك تحتمس الثالث نموذجاً للتخطيـط الاستراتيجى العسـكري وبـدأ «تحتمـس الثالـث» عهـده كملـك بالاسم فقـط، لكونـه صغيـراً جـداً علـى الحكـم عنـد وفـاة والـده، حينهـا لعبـت زوجـة أبيـه «حتشبسـوت» دور الوصـى علـى العـرش لعـدة سـنوات، ثـم أعلنـت نفسـها ملـكاً بشـكل رسـمي، ممـا أدى إلـى انحسـار دور «تحتمـس الثالـث» فـى الحكـم، وأخـذ الملـك الشـاب فـى النمـوعلـى مـدى عقديـن، إلـى أن أصبـح واحـداً مـن الملـوك المحاربيـن العظمـاء فـى الدولـة الحديثـة، ويرجـح أن «حتشبسـوت» منحتـه قيـادة الجيـوش ضمـن واجباتـه، وقـام بعـد وفاتهـا بسلسـلة مـن الحملات العسـكرية التى عـززت موقف مصر، كواحـدة مـن القـوى العظمـى فـى العالم القديـم.


حكـم تحتمـس الثالـث 54 عامـاً - بمـا فيهـا عهـده المشـترك مـع «حتشبسـوت»- كانـت مصـر فيها مزدهـرة وقويـة، وفى حكمـه وصلـت الإمبراطورية المصريـة إلـى أبعـد مـدى لهـا، مـن الفرات فـى الشـمال إلى الجنـدل الرابـع للنيل فـى الجنـوب، وأكدت سيطرتها على بلاد الشـام، وتحت قيادته خاضت مصر 17 حملة عسكرية كبرى على الأقل، وتعتبـر معركتـه الشـهيرة فـى «مجـدو» نموذجـاً للتخطيـط الاستراتيجى العسكري، كما حـرص علـى تـرك بصمته علـى إمبراطوريته الواسـعة، وله إنجـازات عديدة ومشـروعات بنـاء كبـرى، مـن بينهـا صالـة «آخ منـو»، وهـى صالـة الاحتفالات بمعبـد «آمـون رع» فى الكرنـك، حيـث وضـع قائمـة للملـوك، مسـجًلاً عليها أسـماء أسلافه، وقد عرف عـنه اهتمامـه بعالـم الطبيعـة، لذا أمـر ببنـاء «حديقـة» بالكرنك، مزينـة بالنباتـات والحيوانـات الغريبـة التـى رآهـا خلال حملاته الخارجيـة.


ومقبـرة الملـك «تحتمـس الثالـث» فـى وادى الملـوك رقم 34، ذات مناظـر وزخـارف رائعـة، تصور رحلـة معبـود الشـمس خلال اثنتـى عشـرة سـاعة مـن الليل، بأسـلوب يحاكـى الرسـم علـى ورق البـردي. ودفـن الملك فـى الأصل فـى تابـوت علـى شـكل خرطـوش ما يـزال موجـوداً فـى حجـرة الدفـن- ولكـن تـم نقلـه فـى نهايـة المطـاف إلـى خبيئـة الموميـاوات بالدير البحري، مثـل العديـد مـن الموميـاوات الملكيـة، وعثر علـى موميـاء الملـك «تحتمس الثالـث» فى تابوت مـن خشـب الآرز، وفتـحت لفائـف الموميـاء فـى عـام 1881م علـى يـد «إميـل بروجـش» دون إذن مـن «ماسـبيرو»، الـذى أمـر بإعـادة لفهـا مـرة أخـرى، ثـم قـام «ماسـبيرو» بتفكيكهـا علنـاً بعدها بخمس سنوات، وكانـت الموميـاء فـى حالـة سـيئة، فقـد كان العديـد مـن عظامهـا مكسـوراً، كمـا فقـدت الأنسجة الرخـوة، وذلـك علـى الأرجح ناتـج عـن عبـث اللصـوص بمقبرتـه، ووصـل الضـرر الـذى ألحقـه اللصـوص القدمـاء بالجسـد؛ لدرجـة أن كهنة الأسرة الحاديـة والعشـرين اضطـروا إلـى اسـتخدام مجاديـف خشـبية كجبائـر عندمـا اسـتعادوها! وتشـير نتائـج صـور الأشعة المقطعيـة إلـى أنـه كان فـى الأربعينيات مـن عمـره عندمـا توفـي، الأمر الـذى يثيـر عـدداً مـن التساؤلات، حيـث مـن المعـروف أنـه حكم لمـدة أربعـة وخمسـين عاماً!!.


سيتى الأول


الملك «سيتى الأول» هوابن الفرعون «رمسيس الأول» مؤسس الأسرة التاسعة عشرة، حكـم مصـر حوالى واحـد وعشـرين عامـاً، وقبلها كان ضابطـاً فى الجيش مثـل والده، وزوجته الرئيسـة هـى الملكـة «تويـا»، ابنـة قائـد عجلـة حربيـة كبيـر يدعـى «رايـا»، أنجـب الزوجـان ثلاثـة أطفـال، أحدهـم هوالملك العظيم «رمسـيس الثانـي» خليفته فى الحكـم، وفى عهده تم إنجاز أقـدم خريطـة جيولوجيـة فـى العالـم، وهـى مسـجلة علـى بردية - محفوظـة حالياً بمتحف «تورينو» فى إيطاليا وتصـور تلـك البرديـة منطقـة مناجـم الذهـب فى «بيـر أم الفواخيـر» و»وادى الحمامـات».


بعـد أن أصبح ملـكاً قـاد حملات مختلفـة فـى ليبيا والشـام، لإعادة فرض السـيطرة المصريـة فـى الخـارج، وكان أول ملـك مصـرى يخوض معركـة ضـد الحيثييـن، القـوة العظمـى الجديدة فى الشـرق الأدنى، وتم تسـجيل هـذه الانتصارات العسـكرية ببراعـة شـديدة فـى معبـد آمـون بالكرنـك، كما أمـر الملـك «سـيتى الأول» بتنفيـذ العديـد مـن مشـاريع البنـاء الكبـرى، سـواء فـى الكرنـك أوأبيـدوس، كمـا شـيد معبـداً جنائزيـاً بالبـر الغربـى لطيبـة، وفى عهـده بدأ تصوير مشـاهد المعـارك علـى نطـاق واسـع علـى جـدران المعابـد المصريـة، كطريقـة للدعايـة السياسـية، وإظهار قـوة الملك.


وتعـد مقبـرة الملـك «سـيتى الأول» فـى وادى الملـوك رقم 17، واحـدة مـن أفضـل وأجمـل المقابـر الملكيـة، حيـث تحتفـظ مناظـر جدرانهـا بألوانهـا الزاهيـة، بمـا فـى ذلـك اللـون الأزرق الداكـن، تقليداً لسـماء الليل الذى ظهر على بعض الأسقف، وبداخلها عِثـر علـى ممـر قديـم غيـر مزيـن بالجـزء الخلفـى مـن حجـرة الدفـن، يمتـد لمسـافة 5 أمتار، ولكن تم تـرك العمل بالممـر حينما مـات الملـك، وعثـر على مومياء الملك بداخل تابـوت أبيض من خشـب الآرز، يحتمل أن يكون قديمـاً وأعيـد اسـتخدامه مـن قَبل كهنة الأسرة الحادية والعشـرين، المسـئولين عـن إخراجه من مقبرته الأصلية وإعـادة دفـنه، وعلـى واجهة التابـوت نحتت خراطيـش الملـك، كما تـم إضافة نقوش بالكتابـة الهيراطيقيـة، وحسب هـذه التسجيلات فإن إصلاح المقبـرة لأول مـرة كان فـى السـنة السـابعة مـن فتـرة الكاهـن الأكبر «حريحـور».

ثـم نقـل مـن مقبرتـه الأصلية إلـى مقبـرة «إن حابـي» فـى السـنة العاشـرة مـن حكـم الملـك «سـى آمـون»، ثـم انتقـل مـرة أخـرى بعـد ذلـك بعـدة أيـام إلى مقبرة «أمنحتب الثانى».

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة