للفنان: محمد تهامى
للفنان: محمد تهامى


الوصية العجيبة

أخبار الأدب

الأحد، 27 ديسمبر 2020 - 03:10 م

 

عبير سليمان

فى الليلة التى مات فيها جدى دخلت على أمى فوجدتها فى حالة من الحزن والقهر يتمزق لها قلب الكافر، بحكم أنى الأصغر بين إخوتى الثلاثة والمفضل لديها، لم أقدر أن أتركها دون أن أهون عليها، سألتها مندهشاً: مالك بس يا أمي؟ هونى عليكِ، للدرجة دى انت زعلانة على جدي! ابتسمت من بين دموعها ابتسامة ساخرة: زعلانة على جدك! هو جدك من كتر حنيته يستاهل أنقهر عليه؟ ياسين بدهشة رد قائلاً: الله، أمال مالك من ساعة ما جيتى من بيته وانت مكلومة وقلبك مفطور من الحزن؟!
روت لى ما حدث، فلمعت فى عقلى فكرة وقلت: طب واللى يحل لك المشكلة دي؟!
• تحلها ازاى ما هى باينة، هو عارف إن مفيش منكم حد حاينقهر عليه، حب يدق مسمار جحا ويعمل حيلة من حيله الشيطانية، عشان يحرمنى من الورث.
• وده يخليكى تزعلى برضه، طول عمره قاسى ودى مش جديدة عليه، هو عايزنا نمثل الحزن قدام خيلانى ونفضل طول عمرنا أقل منهم وحاسين بالذل والنقص، هو كان بيحب دايما يعمل فيا كده أنا وإخواتى عشان يظهر لنا إنه بيفضل أولاد أولاده عن أولاد بنته، فى الحالة دى مفيش قدامنا إلا نطبق حكمة حقيرة وهى الغاية تبرر الوسيلة، أنا من بكره حالقح جتتى على ابن خالى الكبير، بحجة إنى عايز أذاكر معاه وكل ليلة راح ظل أصيح* لحد ما أخلص على كل المناديل اللى حيلتهم، لو ده اللى حايخليهم يدونا حقنا.
هدأت ثورة أمى وقد أعجبتها حيلتى الذكية وكفت عن بكائها قائلة: «عليك نور حبيبي!».
قبلت رأسها وربتُّ على كتفها واستأذنتها فى الذهاب للبدء فى تنفيذ الحيلة.
كانت ذلك الحدث نقطة التحول بالنسبة لى، منذ ذلك الوقت لم أعد ياسين الفتى البريء النقى، كنت دوما أندهش كيف يتسم بعض البشر بالقسوة والغلظة، تكسو وجوههم طبقة من الجليد، لا يبتسمون إلا نادراً، الآن بعدما عرفت السر لا ألومهم، بعدما أصبحت مثلهم، أذكر أن معلمتى فى الفصل جاءت بورقة بيضاء، رسمت بداخلها نقطة سوداء، وبجوارها نقطة، ثم أخرى حتى امتلأت الصفحة بالسواد عن آخرها، وقالت: «هذه الورقة مثل قلب الإنسان، يولد صفحة بيضاء، حتى إن كثرت ذنوبه، واعتاد الكذب والنفاق، وتحولت الذنوب إلى خطايا، ينقلب إلى صفحة سوداء قاتمة، وينعكس ذلك على وجهه».
>>>
عندما مات جدى، وجد أبناؤه فى خزانته مبلغا لا يتعدى خمسة وعشرين ألف جنيه، ومعه بعض المشغولات الذهبية، ووصية كتبها ووضعها داخل ظرف مغلق، كتب عليه: إلى أبنائى الستة، برجاء لا يُفتح إلا بعد وفاتى. عندما فتحوها وجدوا فيها ما يلي:
«أقر أنا الحاج سلمان بأنى مسئول عن كل حرف كتب فى هذه الوصية مسئولية كاملة، وأنى كتبتها وأنا بكامل قواى العقلية، أوصى بأن كل ثروتى تذهب لأبنائى الخمسة، فيما عدا قطعة الأرض التى تقع على البحر، قررتُ بأن يذهب ثلث ثمنها بعد بيعها لأحد أحفادى من ابنتى، بشرط أن يكون أكثر من يبكينى بعد مماتى، حتى يصل منسوب دموعه لأن يملأ دلواً تطفح منه الدموع وتغرق جوانبه، وأوصى أبنائى الذكور بأن ينتظروا حتى الأربعين، فإذا عُرف مَن من الأحفاد سينفذ الشرط، فليخصصوا حصته باسمه فوراً.
وختاما لا تنسوا أن تذكرونى فى دعائكم».
نظر خيلانى إلى بعضهم البعض، وصرخت أمى وأخذت تلطم وتبكى بكاء هستيريا، نادبة حظها الذى جعلها ابنة لأب له قلب كالحجر، لم يمنحها حباً ولا حناناً طيلة حياته، وحتى فى احتضاره أبى عناده وصلفه أن ينصفها!
>>>
شعرت بأنى مسئول عن تحقيق حلم أمى، ففى أول ليلة قضيتها فى بيت خالى الكبير، رأيت فى منامى أنى ما زلت طفلاً ألعب مع أبناء خيلانى، وفجأة نادانى جدى بصوت عال وبنبرة عصبية حادة كعادته، تركت اللعب مفزوعاً وهرعت إليه، فإذا به يمسكنى من أسفل رأسى من الخلف، ثم قربنى إليه وهو يصرخ بصوته المبحوح الكريه: كام مرة أقول لك بلاش اللعب بصوت عالي؟ قله له والخوف ينفض جسدى الصغير نفضاً: حاضر مش حاعلى صوتى، لكن الباقيين، ليه ندهت عليّ أنا بس؟ هو أنا بالعب لوحدي؟
رد جدى ساخراً: عشان أنت ابن البنت، ابن البنت مايحقلوش اللى يحق لولاد الولد يا غبي.
ثم أمسك بى بعنف وقلبنى مدلياً رأسى للأسفل وقدمى للأعلى، مما أصابنى بدوار وألم حاد فى بطنى فقذفت كل ما بها.
صرخت فوجدتنى أهب مفزوعاً من السرير، ففزع ابن خالى فى السرير المجاور، وقد أيقظه صوت صراخى العالي: مالك يا ياسين؟
لم أقدر على نطق كلمة، حلقى كان جافاً ومراً، ووجهى متعرقاً تتساقط منه قطرات الماء بغزارة، ارتجف صوتى وخرج بصعوبة مرتعشاً من أثر ارتعاش جسدى كأنى مصاب بحمى، وجدتى أقذف ما بجوفى على الأرض، ثم هاجمتنى نوبة بكاء عنيفة، انتفض لها كل جسدى ورددت: أنا آسف أنا آسف، لقد وسخت أرضية الغرفة، سامحونى».
حاول ابن خالى تهدأتى وذهب ليحضر لى كوباً من الماء وليمونة، وقال لى مبتسماً: لا يوجد شيء على الأرض مجرد بقعة ماء كبيرة سأنادى الخادمة لتنظفها.
أعقبت تلك الليلة ليال كثيرة متتابعة كررت فيها فعلتى، حتى عندما استدعوا لى الطبيب، الذى شخص حالتى بأنى أمر بصدمة نفسية ما، وأن بداخلى ترسبت عقدة اضطهاد وشعور بالقهر تسبب لى فى نوبة اكتئاب، أصابت معدتى بالتهاب عصبى، وحذر المحيطين بى أن الأمر ربما يتطور إلى أعراض انسحاب اجتماعى تصاحبها رغبة فى العزلة. ونصح الطبيب بعودتى لبيتى وسط أبى وأمى وإخوتى، وأن أنخرط فى نشاط اجتماعى لأخرج من حزنى!
عجز خيلانى وأبناؤهم عن معرفة حقيقة حالتى، وسببها، ربما أيضا أصابتهم الدهشة وتساءلوا: «لم يكن ياسين يحب جده حتى يحزن عليه لهذه الدرجة؟ الكل يعلم أن جدى لم يحبنى أنا وإخوتى، فمن أتت كل هذه الدموع الأشبه بسيل جارف؟».
بعد مرور أربعين يوماً، تم تخصيص جزء من الأرض لى كما وصى جدى، ووزعناه علينا أنا وأمى وأشقائى بالتساوى.
مرت أعوام كثيرة، دخلت كلية الهندسة وتخرجت منها بتقدير عال، حالفنى الحظ وعُينت بشركة مقاولات كبيرة، أتقاضى من عملى راتباً ضخماً، لكن بعد عدة أعوام من عملى طلبت الانتقال للعاصمة، ودعت أهلى وقريتى الصغيرة، وبوداعى لموطنى فى عمق الصحراء، ودعت أشياء أخرى، ودعت مرحى وحيوتى ونقائى، عندما آتى لزيارة أهلى فى أيام العطل أصبحت أجلس بينهم صامتاً، فقدت رغبتى فى التزاور والجلوس مع أبناء خيلانى، كرهت أى مناسبات عائلية ورأيت أنها باتت واجباً ثقيلاً يغيب عنها طعم الفرح الحقيقى، كلها مظاهر تمثيل ونفاق اجتماعى.
لقد تغيرت اهتماماتى وأصبحت هناك فجوة كبيرة بينى وبين أشقائى وأقاربى، الكلام يخرج من فمى كأنه قطرات ماء محبوسة فى قطارة أوشك محتواها على النفاد، تهاجمنى من وقت لآخر نوبات اكتئاب ورغبة فى العزلة، نتحاور أنا ونفسى كثيراً فهى تستنكر ما وصلت إليه من صمت وعبوس، تتهمنى بالجحود والجفاء تجاه من يحبوننى، وبأن قلبى أصبح قاسياً، لا أجد ردا سوى: «وهل من الطبيعى أن يبقى شخص مثلى على حاله؟ بعدما اضطر يوماً لتمثيل دور الأراجوز مرتدياً قناع الذل ليحصل على حقه! لقد تلطخت ورقتى بالسواد منذ كلفت بتنفيذ الوصية الملعونة، وقضى جدى أمره فىّ، ظلمنى حياً وميتاً»!  

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة