للفنان الإيطالى: كارمينيه كارتولانو
للفنان الإيطالى: كارمينيه كارتولانو


الثقافة «أونلاين».. نجاح يهدده انقطاع الإنترنت

هل تتحول من ضرورة إلى اختيار؟

أخبار الأدب

الإثنين، 28 ديسمبر 2020 - 09:16 ص

عائشة المراغى

منذ أقل من عام، كنتُ معتادة على تمضية ساعات طويلة من أجل حضور الفعاليات الثقافية، إذ يستغرق التجهز للخروج وقطع المسافات من أجل الوصول وتجاوز الازدحام المرورى وقتًا أطول من مدة الفعالية نفسها. وفجأة هدأت الحياة تمامًا، بل وكاد شريانها أن ينقطع، فكان لابد من البحث عن سبيل للنجاة، وقد تمثل ذلك فى الفضاء الإلكترونى، الوسيلة التى انقسمت الآراء حولها لسنوات، ما بين منادين بها يعددون إيجابياتها وآخرين يهابونها ويستثقلون المضى نحوها، حتى اضطرتهم الظروف.
انتقال الثقافة إلى العالم الافتراضى خلق لها واقعًا مختلفًا، يتسم بمميزات كثيرة، لكنه مازال يصطدم بالعراقيل، كأى تجربة خلال خطواتها الأولى، خاصة عندما تكون مفاجئة. فيحدث مثلًا أن تبدأ فعالية بعدد من المتحدثين ثم يختفى واحد أو اثنان منهما، والسبب إما عطل فى الإنترنت أو انقطاع الكهرباء. والبعض يفقد فرصة أن يكون متحدثًا أو حتى حاضرًا، مثل الكاتب إبراهيم عبد المجيد، الذى يعانى من ضعف شبكات الاتصال بالمنطقة التى يسكن فيها.
يقول عبد المجيد: أحاول فتح بريدى الإلكترونى منذ أيام دون جدوى، ولا أستطيع مطالعة «فيسبوك» أو «تويتر»، وعندما حاول البعض التسجيل معى عبر «سكايب» و«زووم» انقطع الاتصال، لدرجة أن إحدى المحطات الفرنسية بعثت لى بمراسل فى المنزل لتسجيل مداخلة لمدة عشر دقائق مع المذيع عبر الإنترنت، فاستغرق الأمر ساعة ونصف الساعة!
لم يعد باستطاعة إبراهيم عبد المجيد النزول إلى المقهى لاستخدام «الواى فاى» المتوافر به، وشبكات الاتصالات المتعددة لا تلتقط إشارة جيدة فى شقته، سواء للمكالمات أو الإنترنت، ولا يمكنه إدخال خط «واى فاى» لأنه لا يملك هاتفًا أرضيًا، رغم تقدمه بطلب منذ خمس سنوات، لكن عدد الطلبات الواردة من العمارة التى يقطنها لا يكفى لتركيب «كابل». يقول عبد المجيد: تجربة الأونلاين جيدة لكن الوضع الذى أعيشه جعلها تعيسة. لقد حُرمت من أشياء كثيرة مهمة سواء فى مصر أو خارجها.
من الفعاليات التى لم يتمكن الكاتب إبراهيم عبد المجيد من المشاركة فيها – كذلك – صالون الشاعر زين العابدين فؤاد، الذى بدأ بثه عبر الإنترنت بعد انتشار فيروس «كورونا» رغم أن الفكرة لم تكن جديدة فى طرحها، لكنه لم يكن متحمسًا من قبل، وتغير الأوضاع جعله يعيد التفكير فى الأمر، ليلقى الضوء على مظاهر الإبداع المختلفة فى العالم العربى، ويقدم أجيالًا متباينة تمثل تاريخ مصر الثقافى، إذ احتفل بأعياد ميلاد إبراهيم فتحى ونصر حامد أبو زيد وعلى الراعى ونجيب محفوظ، بالإضافة إلى مئوية تمثال نهضة مصر ونظم العديد من الأمسيات الفنية.
أول احتفالية للصالون كانت عيد ميلاد نصر أبو زيد، يقول عنها زين العابدين فؤاد: كان جمهور المشاهدين متفاعلًا للغاية، وعددهم ملهمًا، إذ بلغ فى الصالون الأول 2500، وتعدى فى الاحتفال بنجيب محفوظ منذ أسبوعين ثلاثة آلاف، ووصل فى صالون سيد حجاب إلى 4300 مشاهد وأكثر من 160 تعليقا.
يستخدم فؤاد تطبيق «ستريم يارد» بعدما نصحه به بعض الأصدقاء ذوو الخبرة، وبعد انتهاء الفعالية يظل الفيديو على «فيسبوك» ثم يُرفع فى اليوم التالى على موقع «يوتيوب»، وفى تلك التجربة يرى زين العابدين عددًا من الفروق تميزها عن الواقع، يوضّحها: الفارق الأول هو عدم ضرورة انتقال المتحدثين لمقر الفعالية، ففى احتفالية نجيب محفوظ مثلًا كان معى متحدثة من كندا وآخر من واشنطن وثالث من المنصورة ورابع من المحلة وخامس من القاهرة، هذا التنوع المكانى لا يمكن أن يتواجد على أرض الواقع. والفارق الثانى أن عدد الحاضرين والمشاهدين والمتابعين، لن يتجاوز على أرض الواقع 50 فردًا على أقصى تقدير، بينما أقل فعالية فى الصالون على الهواء فبلغ حضورها 900، وما يزيد على مائة منهم يتفاعلون بكتابة تعليقات طوال الحلقة.
بعد هذه الإيجابيات لصالح الفضاء الإلكترونى، يتبقى عامل سلبى شديد التأثير، يقول فؤاد: كنت أتمنى ألا أقدّم الصالون بنفسى، وكان مقررًا أن تقدمه صديقة مذيعة مثقفة ومتميزة، لكن للأسف لديها مشكلة شديدة فى الإنترنت ولا يمكن الاعتماد عليه، وهى المشكلة ذاتها التى تحرمنى من وجود مشاركين مثل إبراهيم عبد المجيد.
مشكلة الإنترنت الضعيف تؤرق أيضًا العاملين فى معهد جوته، الذى تحولت 80% من فعالياته إلى الأونلاين، إذ تقول عبير مجاهد، مديرة مكتبة معهد جوته بالقاهرة: الأمر ليس سهلًا، ففى الفعالية الأخيرة لم أستطع فتح لقاء «زووم» فى موعده لأن الإنترنت كان ضعيفًا فى بيتى، وكان الحل هو البث من المكتب لأن الإنترنت المتوافر فيه يخص مؤسسة وسرعته عالية، لكن الوضع أصعب بالنسبة للأفراد.
وتستطرد عبير مجاهد موضحة إيجابيات وسلبيات التجربة، قائلة: هى تجربة غاية فى الروعة، إيجابياتها أكبر كثيرًا من سلبياتها، بل لا أظن أن لها سلبيات. من أهم إنجازاتها الوصول إلى الجمهور بأعداد كبيرة جدًا كان من المستحيل أن تصل إليها الفعالية إن كانت فى المكتبة أو أى مكان واقعى، إذ يبلغ عدد المشاهدين آلاف، بالإضافة إلى إمكانية تسجيل الفعاليات وإتاحة الاطلاع عليها للجميع فى أى وقت. أما الشىء الذى قد نعتبره سلبيا بعض الشىء فهو التفاعل والحوار المتبادل بين الجمهور وبعضهم البعض والمتحدثين، والذى يتوافر بدرجة أعلى وأكثر سلاسة داخل المكتبة، لأن طبيعة الأونلاين مختلفة، وهذا لا ينفى أن «الشات» تُكتب فيه أسئلة عميقة ومهمة.
يتمنى الجميع أن تعود الحياة لطبيعتها، لكن ما أحدثته هذه الجائحة من تغيرات ستبقى آثاره ومكتسباته، وهو ما تؤكد عليه عبير مجاهد بقولها: لا غنى عن المكتبة ووجود فعاليات حية، لكن إن عادت الأمور لطبيعتها سنحدد شكلا جديدا للفعاليات يجمع بين الواقع والافتراضى، إلا أن ذلك يحتاج تقنية وتدريبا ونحن غير محترفين، وبالتالى علينا أن نتطور لأننا نعيش فى عصر «الديجتال»، وهذه الفكرة مطروحة فى معاهد جوته على مستوى العالم وليس فى مصر فقط.
يتفق معها منير عتيبة، مؤسس ومدير مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، قائلًا: عندما نتخلص من جائحة كورونا يجب ألا نخسر الأرض التى كسبناها، بل علينا صنع توازن بين الفضاءين، فأنا من مشجعى الأونلاين جدًا، وقد كان لى الشرف مع الأستاذ حسام عبد القادر والمهندس محمد حنفى أن نطلق أول مجلة ثقافية عربية على الإنترنت بعنوان «أمواج سكندرية» عام 1999، كما كنا ننظم فعالية اسمها «صالون التذوق» فى أوائل القرن الحالى متضمنة لقاءات «فيديو كونفرانس»، ونظمنا أول وثانى مؤتمر بالإسكندرية للثقافة الرقمية عامى 2009 و2011 بحضور ممثلين حوالى 12 دولة عربية.
ويستكمل: كنت أرى دائمًا أن الناس لديهم رهاب من الأونلاين ولذلك يتحدثون عنه بشكل سيئ بدلًا من محاولة اقتحام المجال، وعندما جاءت «الكورونا» اضطروا لذلك، واكتشفوا أن الأمر مفيد وليس صعبًا، فالندوة التى كان يحضرها 10 أو 15 أصبح جمهورها بالآلاف، حسب قدرة كل منهم على التسويق الإلكترونى.
يبث مختبر السرديات حاليًا الجزء الأكبر من ندواته عبر الإنترنت، ويرى عتيبة أن بث الفعاليات عبر الإنترنت يوفر وقتًا ومجهودًا ونقودًا، إلى جانب وصولها لأشخاص من الصعب الوصول إليهم واقعيًا، لكن على الجانب الآخر يبقى من عيوب النشاط الأونلاين أنه يفتقد التواصل الإنسانى المباشر بالصوت والعين ولغة الجسد، ويقول: مهما كانت حرارة الاتصال الإلكترونى لكنه فى النهاية بين أجهزة وصور افتراضية، تكون غالبًا غير حقيقية، بينما التواصل على المستوى الواقعى يولد أفكارا ومشاعر ومشاريع أكثر إنسانية.
شاركت الناقدة اعتدال عثمان فى أكثر فعالية أونلاين، وتقول عن التجربة: هى ضرورة لا اختيار. ضرورة مواكبة لتغيرات العصر وخاصة فى ظل انتشار جائحة كورونا والتباعد الاجتماعى، لكننا غير مدربين عليها بقدر كاف. هذه الوسيلة الممكنة حاليًا ولابد أن نحاول تعلمها وتصحيح الأخطاء التى تحدث أحيانًا فى العرض، وبالتالى مطلوب من كل كاتب أن يدرِّب نفسه على المواجهة الافتراضية عبر وسائل الاتصال الحديثة، ومن ناحية أخرى معالجة المشكلات التى تعوق مسألة الاستماع وتفسد متعة المشاركة، مثل الصوت واتصال الإنترنت.
وتستطرد: الأساس بالنسبة لجيلى، بحكم التربية والسياق الثقافى، هو الاتصال الإنسانى والبصرى والتعبير عن المشاعر، ولكن فى الوقت نفسه هذه لغة العصر ولا يمكن أن نتجاهلها، بل لابد من التعاطى معها لأنها ستستمر حتى بعد انقشاع الجائحة، دون أن تغنى بالطبع عن التواصل الإنسانى، فعودة الندوات لطبيعتها لا ينفى ضرورة تسجيلها وإذاعتها أونلاين، لأن ذلك سيتيح فرصة لمن هم فى مكان بعيد عن الندوة لمتابعتها، ويشكل أيضًا مكتبة مسموعة أو سجلا ثقافيا يمكن الرجوع إليه فى أى وقت.
أما الكاتبة ريم بسيونى فخاضت التجربة على الصعيدين الأدبى والأكاديمى، وتقول: فكرة بث الفعاليات أونلاين رائعة، وقد استفدنا من التجربة كذلك فى التدريس، وكانت مميزاتها مثيرة، كأن نمنح فرصة للطلبة لإنجاز أشياء بمفردهم. نفس الأمر بالنسبة للقاءات والفعاليات، مفيدة جدًا وتجعلنا نلتقى بأشخاص من كل أنحاء العالم، ففى ندوتى الأخيرة حضر جمهور من أمريكا وليبيا ولبنان وبلدان مختلفة، وهذا شىء لم نجرؤ على فعله إلا بعد حدوث أزمة كورونا.
وتستكمل: روايتى «سبيل غارق» صدرت وقت كورونا وكنت قلقة جدًا، فنظمنا بعض الفعاليات على أرض الواقع وأخرى أونلاين، والأخيرة لم تكن أقل قيمة أو أهمية، مشكلتها الوحيدة أن البعض غير معتاد عليها، بالإضافة إلى ضعف الإنترنت فى بعض الأماكن مما يحرمهم من الاستفادة بذلك، لكن بعد حل هذه المشكلات يجب أن نستمر فى الأمر، حتى بعد انتهاء أزمة كورونا، لأن تلك التجربة قرّبت المسافات بين الناس وجعلت الالتقاء بين القراء والكتاب أفضل.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة