أنور كامل محاضراً أثناء عمله
أنور كامل محاضراً أثناء عمله


حقا كان الحارس..حقا كنا الورثة

أخبار الأدب

الخميس، 31 ديسمبر 2020 - 03:32 م

عبدالمنعم رمضان

عرفت أنور كامل فجأة وبغير مقدمات، كنت صغيرا جدا وكان كبيرا جدا، وبعد سنوات أحسها الآن قليلة، امتلأت بلقاءات كلها فى زهرة البستان، أذكر أننى فور وفاته رثيته بقصيدة أصبحت الآن مثل غصن يابس، كأنها إحدى ذكريات الجنة العذراء، كنت أيامها، أيام تعارفنا، أعمل بالجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، وأحب كل البنات المينيون وكل الشعر الغامض، وأفكر فى حتمية البطالة، حتمية الحرية والخوف من الحرية، بدعوى التفرغ للشعر، وكان هو أعنى العم أنور عندما يأتى بعد الظهيرة يكون قادما فى الغالب من إحدى القاعات فى إحدى عمارات باب اللوق، حيث كان يحاضر فى علوم التنظيم والإدارة، لم أخبره أنه سبق لى أن تدربت فى إحداها، أذكر أننا كنا ذات صيف عندما التقينا أول مرة فى ممر مقهى الزهرة، أذكر أنه كان يلبس قميصا نصف كم، هل كان فعلا قميصا نصف كم، يفضح رقته ونحوله، أيامها كنت أخفى خجلى بوقاحتى، وأتستر على هدوئى بشراسة مفتعلة، كنت مليئا بالتناقضات، لكننى فى هذا اللقاء، اللقاء الأول، تطامنت وألفت صحبته، دون أن أشعر بأنه أبى، كان رفيقى الأكثر ثقافة، الأكثر شغفا بقوة الفعل، بضرورة الفعل، أظنه آنذاك رحب ببشاشته أن نجلس هكذا كرفيقين، كنت أعرف أن وراءه صفحات من الماضى، وبين يديه صفحات من الحاضر، لكننى بعناد فظ أصررت فى نفسى على أن أمامى صفحات من المستقبل، وزهوت بلا داع سوى المراهقة، أعتقد الآن أننى ساعتها لمحت قلبه الماثل فى عينيه يطل معى على المستقبل، ولمحت إطلالته، كانت أشد إلحاحا من إطلالتى، وبشقاوة دون مكر أخفيت عنه مكان عملى، فيما أخبرنى بمحاضراته، فى تلك الأيام كنت عضوا فى جماعة أصوات، وكنا محمد عيد وأحمد طه وأنا نفتش عن السوريالية، ومحمد عيد كان الأكثر غلوا، وكنا أحمد طه وأنا نفتش عن التروتسكية كفعل عند أحمد وكسيرة ومعرفة عندى، وكنا محمد عيد ومحمد سليمان وعبدالمقصود عبدالكريم وأحمدطه وأنا نفتش عن الحداثة ونختلف حولها، ونتفق جميعا فى البحث عن التجليات المصرية فى أى شأن كأننا نعانى الخوف من العروبة، ومنها تجليات السوريالية المصرية، ولهذا سأسأله، أنور كامل، دوما عن جورج حنين وعن جويس منصور، ولأنه بئر يفيض ماؤها سيتسع صدره، رغم أننى لم أستر شغفى بقصة بولا العلايلى، فى ذلك اللقاء لم نتحدث عن النبى المسلح والنبى الأعزل والنبى المنبوذ لأننا كنا أيام ذاك ننتظر إسحاق دويتشر، كنا لم نعرفه بعد، إلى أن أصبح بشير السباعى حارس هذه البوابة التى ظلت دائما بوابة إغواء، أطللت منها كل الوقت لأرى العالم فقط كهاو، فقط كمفتون، ساعدنا بشير وأعاننا على مقاربة التراثين السوريالى والتروتسكى، كان بشير صديقا لأنور كامل وعارفا بقدره، وكان آخرون محض صيادين اكتشفوا أن أنور غنيمة، وذات مرة فوجئنا بشير وأنا بأننا نحدق فى العم ونتأمله، كان أنور كامل دقيق الجسد، لم يكن أطول من ظله، وكان هادئا يكاد يكون فى هدوئه أقرب إلى نفسه، إلى حد إمكانية الإمساك بالحقيقة، إلى حد بعد النظر، وفيما كنا نتخيل آباء السريالية، الآباء المؤسسين، كان صوتى الداخلى ينشد كأنه طاحونة غناء، على قلق كأن الريح تحتى، على قلق كأن الريح تحتى، ومعا، أنا وبشير، كانت تخايلنا صور هؤلاء: جورج حنين ورمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل، فيما كانت تخايلنى وحدى رغبتى فى قراءة الكتاب المنبوذ، لأن بشير سبق أن قرأه، وفيما بعد سأقرأه وأحس كأننى أصبحت خارج زمنه، ومع ذلك مازلت أضع الكتاب المنبوذ تحت أنور كامل ليصبح أطول، غير أننى سأعتبر دائما أن حياة أنور كانت هى الأهم من كتابه، كنا ساعة عرفناه شبابا مليئين بالرغبة الإباحية، مليئين بالشغف، نختلف عن الآخرين بأحلامنا، وكانت أيامها أكثر من شبقة، وأعمالنا، وكانت مجلات ماستر فقيرة وهائجة، كنا ساعة عرفناه جماعة من خمسة شعراء وفنان تشكيلى، وكان هو جماعة من شخص واحد، شخص حى وراءه ظلال أشخاص موتى أحياء، يخرجون من عينيه ويجالسوننا، كلهم كانوا يحرضونه على الحب والعمل، حتى انه أدهشنا عندما بمفرده ظل يحرر ويطبع ويوزع كراسته الماستر، كنا نسميها الفسائل، عندما بمفرده كان يحرضنا على الاستمرار، لأنه آنذاك وبغير مواربة كان الأكثر إصرارا على تغيير العالم، فى كل مرة رأيته فيها تخيلت أنه يقود جسمه الدقيق ويجتاز منطقة الأزبكية فى مظاهرة انتخابية، وإلى جواره السورياليون وحولهم الآخرون ومنهم لويس عوض، أتخيلهم جميعا يهتفون: تحيا الثورة الدائمة، فيما يتلعثم لويس، لكننى أخمن أنه لم يكن يجيد أى هتاف، وفى كل وثبة خيال، أراه، أنور كامل، يربت على ظهرى ويشجعنى على التشبث بالحب، لم يسمح له وقته فى الحياة أن يتعرف على سامية، ساميتى، ليته عرفها، الوقت سمح لبشير، عموما، فى زمن أنور كامل، كنت أتلقى دروس محبة اللغة، لغتى العربية، من فاروق شوشة عبر برنامجه الإذاعى لغتنا الجميلة، بينما أخاصمه، فاروق شوشة، فى شعره، لكننى عرفت أن قرابة المصاهرة تجمعه بأنور كامل، فالأخير خال هالة عبدالحميد الحديدى قرينة فاروق، والأب عبدالحميد أحد رفاق العصبة السوريالية تقريبا، لما عرفت كل هذه القرابات، حننت إلى مصاحبة فاروق، وازداد حنينى بمعرفتى أن سليمان فياض زوج فيكتوريا أخت فاروق، الذى تصادف أن كنت أول من أنبأه بخبر فوزه بجائزة النيل، كان ذلك قبل وفاته بزمن قصير، أذكر أننا ساعتها اتفقنا على لقاء اقترح هو أن يكون فى مقهى ريش، لكنه بسماحة وافق على أن يكون فى زهرة البستان، مكان أول لقاءاتى بفاروق وأول لقاءاتى بأنور كامل، على أن ننتقل بعدها إلى استوريل، وفيها نستقر، إلا أن موته سبقنا، فى أغلب لقاءاتى ولقاءاتنا مع أنور كامل، كانت أسئلتنا فراشات تحوم حول زملائه، خاصة المارقين مثل جورج حنين وجويس منصور، وكان يحوم معنا باستمتاع حتى أنه رأى فى عيون بعضنا، أو كلنا، رأى شغفا بالتفاصيل، جورج وبولا، وجويس منصور وأندريه بروتون، رأى فى عيوننا شغفا بأن تكون لنا علاقات مماثلة، تصلح للثورة والشعر، ولما ذات مرة اعترفت له، ابتسم وحرضنى بخفاء على مطاردة ناريمان واختطاف صليبها، فيما بعد سأكتب عنها قصائد بلا نهاية، نوافذ أنور كامل وجورج حنين ورمسيس يونان الخ الخ كانت أيام ذاك أقرب إلينا من نوافذ أنسى الحاج وشوقى أبى شقرا، اللذين كنا ننطلق معهما، فى سبيل مايحيط الشعر من أسباب تؤدى إلى تغيير الرؤية والرؤيا، فيما بعد سيبهجنى قيام أنسى بترجمة بعض أشعار حنين، فيما بعد أيضا سيدور حوار خاص بيننا، أنسى وأنا، حول السوريالية المصرية، وسيذكر الكتاب المنبوذ، سيذكر أكثر جورج حنين، فيما بعد ثالثا سيصبح سيدى عبدالقادر الجنابى صديقى، ولأنه الحارس الأخير للسورياليات العربية، كل السورياليات العربية، لن يكف عن ذكر جورج حنين، أذكر أننا عفيفى مطر وأنا كنا ضيفين عليه فى شقته الضيقة بباريس، وقبل نومنا آنسنا عبدالقادر بتجديد ذكرى جورج حنين الشاعر، فتذكرنا معه أنور كامل صاحب الكتاب المنبوذ، لم يفاجئنى فتور عفيفى إزاءهما، ساعتها اعترفت لعبدالقادر بأننى عرفت السورياليين المصريين فى الكتب إلا أنور كامل الذى عرفته فى الحياة، قناع أنور كامل شفاف لأنه لا يبرز إلا وجهه الذى تذكره الريح، وقناعى تتساقط وجوهه وتهددنى بالغياب، أخشى أن تنسانى الريح.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة