مع زوجته
مع زوجته


«الحارس الثامن»: بشارة الخلاص فى عالم مغلق ولعبة النهايات

أخبار الأدب

الخميس، 31 ديسمبر 2020 - 03:41 م

د. محمود نسيم

يستهل «أنور كامل»  تشكيله البصرى لنصه المسرحى الوحيد، المخطوط والمفاجئ (الحارس الثامن –1967) بشجرة جرداء على حافة نهر، ممتدة ومتفرعة حتى تكاد تغطى المكان كله، ليس بها ورقة أو زهرة أو ثمرة، النهر منحسر وغير مرئى سوى جزء يتبدى على خشبة المسرح، فيما يظهر شىء من جسد بشرى يتراوح بين التكشف والاختفاء، فى الخلفية تتردد أصوات متناثرة مصاحبة للمشهد، نميز منها جملة لفتاة غير مرئية هى الأخرى، وهكذا يتكون الفضاء المسرحى من شجرة جاثمة ومترامية وأجزاء من أجساد بشرية وحافة نهر محتجب وأصوات مختلطة، مما يحيل إلى صورة تجريدية مختزلة لعالم يتبدى مفككًا ومتجزئًا لأشياء ونثارات.


مع استهلال المشهد، ودون ظهور لأحد، يقتحم الفراغ المسرحى صوت لفتاة مرددا جملة تشير إلى رغبتها فى تجدد الحياة، وبعد الصوت تظهر الفتاة مندفعة ومنفعلة، التقنية ذاتها تتكرر مع ظهور الفتى الذى يشير هو الآخر بانفعال مضاعف إلى تجدد الحياة، وأعنى بالتقنية البداية بالصوت الخلفى ثم ظهور الممثل أو الممثلة بالجملة الاستهلالية ذاتها. يباغت المكان بتجريداته البصرية وابتساراته الفتى والفتاة، وكأنهما يجيئان إليه للمرة الأولى، أو كأن رحما مجهولة قذفا بهما إلى الخلاء، فإذا بهما مع صدمة الهبوط واندفاع الخطوات البادئة، يكتشفان خواء العالم وعراءه الكثيف، ولهذا يأتى تساؤل الفتى المباغت - وقد خفت انفعالاته وراعه الهباء- عن غرابة المجىء إلى مكان كهذا لتجديد الحياة.


ومع التساؤل القلق، يبدأ أول افتراق أو تمايز فى التكوين بينهما بعد جملتهما الاستهلالية الموحدة، حيث تنفى الفتاة الغرابة مجيبة عليه بأن الحياة يمكن أن تتجدد فى أى مكان، يواصل الفتى سؤال الغرابة ويؤكد اعتراضه، ولكنه يحدد أكثر ويشير إلى الشجرة بعد إشارته المجملة إلى المكان، ويجيبها بسؤال مختلف : تحت هذه الشجرة؟ يأتى الاعتراض بعد ذلك من الفتاة متمثلا فى سؤال نقيض: ولماذا لا تتجدد الحياة تحت هذه الشجرة؟ يمهد هذا السؤال للإجابة التى تحدد مسار النص كله وتشكل تحولاته، يجيب الفتى وكأنه يكتشف ما لا تراه الفتاة، ويفاجئها بما لا تعلم، قائلا بصيغة تقريرية موجزة: لأنها ميتة، هذه الجملة التى يشير فيها الفتى بشكل بسيط وموحٍ معا إلى موت الشجرة هى مبدأ التحولات النصية اللاحقة، وهى الجملة الإطار التى تكون العلاقات والسياق والحدث المتتابع.

يبدأ الكاتب توليد الجمل الحوارية ابتداء من تلك الإشارة إلى الشجرة، وذلك عبر أسئلة متلاحقة  - هى عبارات إخبارية أكثر منها استفهامية – عن فقد الشجرة لأوراقها وزهورها وثمارها، لتظل الفتاة على يقينها بوجود حياة داخلية لها رغم غياب أشكال الحياة الخارجية، وتظل تلك الثنائية الضدية مهيمنة على الكتابة ومشكلة لحوارالشخصيات وحركتها، وعبر ذلك تخيم مناخات كابوسية يشى بها جفاف الشجرة ويشيعها عرىُ المكان وابتساره البصرى ويؤكدها الحوار المتتابع: «فى كل مكان كارثة، فى البر كارثة، وفى البحر كارثة» وتصاحب المشهد والحوار أصوات خارجية مختلطة ومتداخلة هى مزيج من أصوات الطبيعة وصرخات بشرية ونباح بعيد، فيما يظل التعارض قائما ومتواصلا وممتدا بين نفى وجود كارثة (الفتى) والإحساس بها بشكل يشبه النبوءة القدرية (الفتاة).
وهكذا، عبر جمل خاطفة وموجزة، تتشكل شخصيتان متعارضتان تواجد فجأة فى مكان واحد وزمان مشترك، ويأتى التعارض متصلا بأشياء المكان (الشجرة) ومرتبطا بما هو غير مرئى (البحر) وبالأصوات المصاحبة ونذر الكارثة المقبلة. وتشكل الثنائية التى أشرت إليها بين الظاهر الميت للشجرة وحياتها الخفية الخيط الأساسى فى تكوين الشخصيتين، وتؤطر التعارض بينهما، ومن هنا تكتسب الشجرة رمزيتها وتأويلاتها المتعددة التى كونها النص بشكل تقريرى ومباشر، فهى الحياة ذاتها، الساكنة والجامدة والغائبة فى ظاهرها، والحية والمتدفقة والمتوثبة فى نسيجها الداخلى، ورغم تقريرية الدلالة ومجانيتها، يحاول «أنور كامل» بجمله الحوارية المقتصدة واعتنائه بتفاصيل الصورة أن يكسر جمود الدلالة وسكونيتها، وأن يتجاوز النمطية فى تكوين الشخصيات واختزالها فى بعد أحادى مصمت.


دلالة أخرى، إضافية ومتكررة، يكونها النص ويؤكدها تباعا مع توليد المشاهد وتتابعها البصرى واللغوى، وأعنى توحد الشخصيتين مع الشجرة والتماهى مع موتها الظاهرى وحياتها الدفينة، حيث تتساءل الفتاة فى مقطع حوارى كاشف: أىُّ فرق بين إنسان وشجرة؟ ثم تضيف بصيغ تقريرية: ما أنا إلا شجرة، وما أنت إلا شجرة، وهو – مشيرة إلى نباح بعيد – أيضا شجرة، يجيبها الفتى مقتنعا أو هازئا: «غدا تنبت الجذور من قدمى»، فيما تسترسل الفتاة فى توحدها واستغراقها فى تأكيد التشابه ورصد التماثل فى التكوين والنمو والعلاقة مع الماء والظلال والثمر، تقول وكأنها تصف ذاتها لا الشجرة، وكأنها فى تداعٍ ذاتى لا فى حوار مرسل مع شبيه تلاقت به مصادفة فى مكان مغلق تحيطه شجرة جرداء وجزء من نهر محجوب: «وتغوص فى أعماق الأرض، وتعلوك الأوراق والأزهار، ويقطف الناس من ثمرك»، وتظل هذه الكيفية الحوارية متراسلة بينهما عبر جمل قطعية ومباشرة، الفتى يخاطبها فى غضب أو سخرية أو امتثال : «غدا تتفرع الأغصان من جوانبى، غدا تكلل رأسى هالة من الثمر، سيلجئون إلى ظلى»، بينما ترد هى عليه بجمل مماثلة ولكن بدلالة مغايرة تشى بالتوحد لا الانفصال، بالتماهى لا التباعد والافتراق.
 تتأكد تلك الدلالات من خلال أصوات مصاحبة للمشهد تصدر من خارج المسرح متقاطعة مع الحوار أو ممهدة له أو ناتجة عنه، وهذه تقنية مشاعة ومنتشرة، ومترددة فى الكتابة المسرحية، ولكن «أنور كامل» يستخدمها بكثافة وتكرار على نحو تبدو فيه وكأنها نص مصاحب لنص الحوار وحركة المشهد، وتتجاوز الأصوات المصاحبة هنا وظائفها التوليدية المتمثلة فى تأكيد الدلالة أو التعليق عليها أو التمهيد لمشهد أو التلخيص النهائى للرؤية، تتجاوز تلك الوظائف، لتلعب دورا تحويليا فى مسار الحدث والسياق وبناء الدلالات، على نحو يجعلها أشبه بالصدى المتحاور.
كما أشرت، تُكون الشجرة الدلالة المركزية فى المشاهد الأولى للنص، وتتخلل حواراته وحركته وعلاماته وتؤطرها، النقطة المحورية والفاصلة فى تشكيل الدلالة وبناء التحولات والتقاطعات، هى رؤية الفتاة المتعارضة جوهريا مع إدراك الفتى وتصوراته للحياة المتمثلة – عبر لعبة انعكاسات آلية – فى الشجرة، هو يراها ميتة، فيما تراها هى حية بداخلها ورق وزهر وثمر، وعبر الحوارات الدائرة بينهما حول توصيفها، تتشكل النقلات الخفية فى تكوينهما خاصة لدى الفتى، هى لعبة اكتشاف إذن تأخذ شكلها الأول من خلال التمايز أو التضاد فى إدراك المكان وأشيائه المتناثرة، ثم تأخذ أشكالا أخرى تفضى إلى تحولات بطيئة وعميقة معا فى رؤية كل منهما للذات والعالم. اللعبة تتجسد أولا فى التكرار اللغوى «ميتة – حية»، والحركى «الدوران حول الشجرة» ثم تأخذ انتقالتها المفاجئة حين يحاول كل منهما أن يثبت صوابه الشخصى ورؤيته الذاتية، هو يريد أن يثبت موت الشجرة، وهى تحاول العكس قطعا، أى إثبات وجودها الحى وحياتها الدفينة، يلتقط الفتى قطعة من الحجر ويضرب بها الجذع ضربات متوالية، يتردد صوت ارتطام حجرين، هو يسمع صوت الحجر، وهى تسمع صوت الشجرة، وهكذا يتجاور الصوتان: صوت الموت وصوت الحياة، تصاحبهما – كتقنية صوتية متكررة – أصداء نباح قصى، تتكرر الحركة  ثانية مولدة الدلالة ذاتها، تخرج الفتاة من طيات ثيابها سلاحا حادا وتطعن به الجذع، مع الطعنة تترامى أنات متبادلة بين رجل وامرأة، وثانية يفترقان فى الرؤية والتصور والإدراك، هو يسمع أنين الموت، وهى تصغى إلى أنين الحياة، وهكذا مع ضربة الحجر واختراق النصل، تظل اللعبة قائمة بينهما، وأعنى الإثبات الغريزى للذات المتأرجحة بين احتمال الوجود ويقين الرؤية، الذات المنعكسة من مرايا تاريخ شخصى غائب، ومكان مغترب تكونه شجرة ونصل وامض وحجر.
يمهد ذلك كله – وتلك هى انتقالة النص الثانية – لظهور الحاكم الذى تقذف به هو الآخر يد خفية إلى الفضاء المتحجز، ظهور الحاكم يصحبه صوت نفير ودقات صاخبة ونباح متجدد، ويتبدى – كما قد نتوقع - فى صورة مهيمنة، أو لعله يحاول أن تكون كذلك. أتوقف هنا قليلا كى ألاحظ أن النص يكتفى بصفة الحاكم ولا يوضح شيئا آخر خلاف ذلك، بمعنى أن الكاتب لا يبدو منشغلا بتكوين شخصياته ومبررات وجودها المسرحى فى لحظة معينة وسياق محدد، وإنما يدفع بالشخصية عبر قطع لحظى مفاجئ على مشهد أو حوار، ومن هنا نتلاقى مع حاكم لا نعرف عنه غير صفته الاسمية تلك، يتبدى فى المشهد وكأنه جزء من نسيجه المتشابك، ويقتحم المكان متداخلا مع الحوار من آخر تجلياته اللغوية، أى من الكلام عن الشجرة وجذعها النازف بالنصل والمرتطم بالحجر، وتداعيات هذه الصورة المتحركة ودلالاتها المرتبطة بالحياة والموت، يفعل ذلك كله وكأنه كان صانع المكان، وكأنه صائغ المصائر ومُسير التحولات، حركته مهيمنة ولغته إشارية، وإرادته فاصلة، ولعبته – مع ذلك كله – هزلية ومكشوفة.
هذه المجانية فى دفع الشخصيات إلى خشبة المسرح انعكست على لغة الحوار المرسل والرؤية الأحادية التى تشيعها الكتابة وتكونها السياقات، بمعنى أن الحوار فى النص ليس قائما على التكشف والتوليد وإنما على الوصف والإخبار، أى توضيح الشخصية، وليس تكوينها، رصد رؤيتها وصياغتها فى حركة نمطية وجمل تقريرية وليس جدل العلاقات والمشاعر والحدث والمواقف المتشابكة.
وهكذا، فى جمل تلخيصية مجملة، يمكن التوصل إلى أن بناء الشخصيات يتكون بشكل يحيلها إلى وجود شبحى، هى أقرب لأن تكون ظلالا أو انعكاسات  لذات الكاتب، ولكنها ليست أقنعة له وإن دلت عليه خاصة فى شخصية الشاب أو الحارس الثامن. أعود إلى النقطة التى توقفت عندها فى هذا الاستعراض العام لبنية الكتابة والمشاهد والعلامات، حيث تتوافد على فضاء المسرح شخصيات هى أنماط أو قوالب جاهزة ومصمتة، يستدعيها الحاكم أو يقترحها الفتى أو يتطلبها الموقف، تبدأ هذه الكيفية باستدعاء الحاكم لكبير العمالقة الذى يفد مصحوبا برنين ناقوس وصوت يردد: يا سيد الأنطاع، يستثير الصوت هياج الحاكم ويستنفر غضبه المتوتر، فيتساءل فى قلق عصى على الكتمان : من أين يجىء الصوت؟، هذا التراوح بين هيمنة الحاكم على المشاهد وانسحاقه تحت سطوة الصوت الخارجى، هذا التراوح يظل قائما ودائما مع المسارات اللاحقة مشكلا بنية تكرارية هى تقنية متواترة فى الكتابة كلها، وذلك لأن الكاتب دائما ما يكررالدلالة والجملة والإشارة والحركة والصوت، وكأنه يخاطب النسيان أو يواجه الغياب، ولكن التكرار يفضى إلى نقيض ما يريد، فتنتفى الرؤية ويشحب العالم ويتقوض البناء، وتبدو الدلالة الكلية وكأنها لازمة مصاحبة وليست مجالا لتجلى العالم وبناء تصوراته.
وبشكل عام، وكتحول مفاجئ يجريه الكاتب، وكأنه يمسك بخيوط عرائس خشبية يحركها فى فراغ المسرح، أو كأنه يكتب خارج مقتضيات الدراما  وشروطها، يكتب مندفعا فى جموح ليرصد علامات عالم كابوسى ضاغط يراه متناثرا فى مكان حبيس، دائرا مع تكوينات بشرية مصمتة ومسوخ متجسدة فى حاكم وحراس وأجساد منتصبة تملأ الفراغ دون أن يصحبها أثر أو معنى، ودون أن ينتج عنها ضوء أو طريق، التحول المفاجئ الذى أعنيه هو توحد رؤية الفتى والفتاة للحاكم وشخصياته المستدعاة (الحاكم – المسوخ – كبير العمالقة – العملاق الأول والثانى والثالث – الحراس السبعة). ولعلها المرة الأولى غير المتكررة التى تتكون فيها لغة موحدة لهما، يتبدى ذلك من خلال صوت خارجى يصدر وكأنه خطاب إدانة أكثر منه جملا مصاحبة للمشهد، يكرر الحاكم عبارته الكاشفة: «الناس ترى ما أراه»، ثم بصيغة أكثر وضوحا وتحديدا لاستعلائه وسلطته الضاغطة:  «القطعان ترى ما أراه»، فيجيبه الصوت الخارجى بجملة ترددها الفتاة ويؤكدها الفتى: «أجريت على أعناقها سيف الخصاء».
وعبر لقطات متداخلة، تعود الشجرة لتقطع مسارات الحوار، وتسترد وجودها المركزى فى النص من خلال الرؤية ذاتها والتوصيفات والعلاقات نفسها، ولكن مع إضافة الشخصيات الوافدة (الحاكم – العمالقة – الحراس السبعة) الذين يشتركون هم كذلك فى الكلام المعاد عن موتها وحياتها، وهنا تقترح الفتاة تعيين حارس لها يرعاها بالعزق والتسميد والرى، ثم يرفع تقريرا بالنتائج، هى تريد – كما اعتادت – إثبات حياة الشجرة رغم يباسها الظاهرى، المفاجئ هنا هو توحد الفتى معها فى الرؤية، حيث أصبح هو الآخر يرى أن الشجرة حية بعد أن كان يراها جافة ويابسة، يحدث هذا التحول إثر خروج الحاكم وعمالقته ومسوخه، يندفع الفتى إلى الفتاة وكأنه يكتشفها فجأة، أو بمعنى أدق يكتشف مشاعره ورغبته فيها، يحيطها بحواس متشهية، ثم بغتة يواجه الجمهور بتحوله وخطابه المختلف: «هذه الشجرة حية، سمعت فيها أنين الحياة، ولم أسمع أنين الموت،.... وفى حياة الشجرة حياة لكم، إنها لم تورق ولم تزهر ولم تثمر، ولكنها فى أغوارها حية».
يتوافد بعد ذلك الحراس السبعة، واحدا إثر آخر لحراسة الشجرة ورعايتها وسقايتها بعثا للحياة فيها واستجلابا لثمرها وزهورها، يحدث ذلك استجابة من الحاكم لاقتراح الفتاة ورغبة الفتى،وثانية تتطلب عقدة المشهد إجراء فنيا يفك انغلاقها واختزالها فى دلالات أحادية، ولكن الحلول تأتى من خارج بنية الدراما وشروطها، وكأن المؤلف يعود إلى التقنية المشاعة فى المسرح اليونانى القديم، حين تتشابك المشاهد وتتعقد العلاقات فيها، فيهبط إله من آلة معلقة فى سقف المسرح، ومع هبوط الآلة تنحل عقدة المشاهد وحبكتها المستعصية، وتحل نهايات خارجية ومقحمة، مثل تلك التقنية يستلهمها «أنور كامل» لوضع حلول لمشاهده، فيدفع إلى الخشبة تباعا بحراس سبعة لهم التكوين ذاته والجمل الحوارية نفسها، يشغلون على المسرح مساحات متنامية من الحركة والزمن دون انتقال فى بناء العلامات وتكوين العالم الذى أضحى الآن مصمتا ومنغلقا على ذاته.
وكما هو متوقع، يحدث إخفاق متكرر لحراس الشجرة مما يبرر أو يمهد لظهور حارس ثامن، هو الشاب ذاته الذى بات مقتنعا الآن – كما أشرت – بحياة الشجرة وثمرها الخفى وانبثاقها الذاتى،  يبدأ الفتى والفتاة معا فى حركة راقصة حول الشجرة أشبه بطقوس البعث والحصاد، يدخل يديه فى صندوق شبيه بمعمل صغير ويخرجهما ويضمخ جذع الشجرة، وفجأة تُسمع أصوات متعاقبة تتلاحق بطيئة ثم تتلاشى، ومع نظرات الفتاة المندهشة، تورق الشجرة وتزهر وتثمر، يتولد عن انبعاث الشجرة وتجددها واخضرارها توهج الحياة لدى الشابين وانغلاقها لدى العمالقة والحراس والحاكم، فيصنعون حلقة تضيق تدريجيا حول الشابين، فيما يظهر سكين ضخم فى منتصف المسرح محاطا بلون أحمر، ويتردد صوت قطع قد يوحى أو يشى بإخصاء الفتى، ومع الأصوات المصاحبة، يستدير السكين نحو صالة الحضور، ويمتد تدريجيا حتى يصل إلى الصفوف الأولى فى إشارة إلى أن الإخصاء قد يمتد إلى المشاهدين إذا فكر واحد منهم أو حاول الرفض والاعتراض، ولكن المسرحية لا تنتهى بهذه اللقطة بإيحائها الكثيف، وإنما تتكون لقطة مضافة تتلاشى الألوان الحمراء فيها، ويظل السكين نازفا بالدم الذى يتقاطر كثيفا ومشعا، ويبرق صوت خارجى بجملة ختامية حول النبض المقتول والبدائل المستباحة، ثم يظهر شيخ بشعر متدلٍ ولحية بيضاء، وفى يده عصا يستند عليها حتى يصل إلى مقدمة المسرح، وينادى فى عبارة غامضة ما يسميها : قاطنة الشاطئ الآخر من النهر، ويطلب منها المجيء لنجدة المعتصمين بجذع الشجرة.
    يصف الشيخ السيدة المبهمة التى ينادى عليها بأم الزمن، ومع النداء يتولد صوت طفل رضيع دلالة – كما هو مألوف وشائع – على ولادة المستقبل ودورة الحياة وبشارة الخلاص، تستجيب المرأة وتظهر مسبوقة بصوتها كما هو معتاد فى تقنية الكتابة، هى أيضا كالشيخ مهيبة الطلعة يصفها الكاتب – ولا أدرى لماذا - بأنها طويلة القامة على نحو مذهل، ذات شعر أبيض، قدماها تطآن خشبة المسرح بإيقاع منتظم، فى يدها هى الأخرى عصا تستند عليها، يتراجع الحراس بينما تحمل أم الزمن وشيخها الرائى الجسدين الذبيحين، وينقلانهما عبر النهر إلى أرض بعيدة، ومع هذه اللقطات المتتابعة بدلالاتها المجملة والمباشرة والنمطية، وصياغتها البصرية المتكررة، يتكون مشهد النص الأخير بعبارات إيهامية وتبشيرية، حيث تورق الشجرة وتزهر وتثمر، وتتحول دقات الساعة إلى دقات قلب، وترفع الكائنات الصغيرة المتولدة عن النهر رءوسها، بينما تضىء القاعة بوميض بعيد.
> > >
تلك كانت – بشكل مجمل – مسارات النص وتحولاته الفجائية وبناءاته السردية والحركية، عالم كابوس مصمت ومختزل فى علامات بصرية مبتسرة: شجرة يابسة جرداء، وأجزاء من نهر وأجسام بشرية، واستشراف لزمان بديل وأماكن أخرى، وشبكة عنكبوتية جاثمة ومهيمنة وضاغطة، ينسجها حاكم ومسوخ وعمالقة وحراس، يتبدى فى هذا الجحيم الأرضى فتى وفتاة يستشعران انغلاق الوجود ومتاهته، ويسعيان – وقد اكتشفا حياة الشجرة الداخلية واستدلا على ثمرها الخفى – إلى ولادة متجددة لهما، وللشجرة والعالم، ولكن العناكب الملتفة تحكم الحصار عليهما، وتسقطهما فى خيوطها المتشابكة، لتنتهى المسرحية بشيخ يطل على المشهد، راثيا ومتنبئا، وامرأة هى أم الزمن بلغة النص،  تبشر بنهر آخر وارتحال إلى ضفة ثانية، مضيئة بالوعود وممتلئة بالبدايات، تلك الدلالات يصوغها الراحل الكبير «أنور كامل» فى نصه المسرحى الوحيد بلغة موجزة ومقتصدة ومشاهد مجتزأة قليلا ونهايات مسقطة، وشخصيات هى انعكاسات وظلال فى وجود شبحى،عبر رؤية أحادية وقطعية، ربما، ولكنه – وأعنى النص – يظل علامة على كاتبه، وعلى رؤيته الحادة والجارحة لواقعه آنذاك – ولعلنا هنا نعيد التذكير بأن كتابة النص كانت فى بدايات عام 1967 – مما يجعل النص فى واحدة من دلالاته وتجسداته نبوءة وشهادة على زمن شائك وزاخر وجموح، وعلى تجربة ثرية، ممتدة ومركبة، ابتدأت من حوارية «المنبوذ» وتواصلت حتى ظهور «الحارس الثامن» على خشبة مسرح، يتحرك متجسدا بعلامات مبتسرة، ويتحاور بجمل لغوية مرسلة، مقتضبة ومجردة، ويشير بحس مأساوى إلى عالم يتراءى بين هاويتين. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة