محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

ليس بالبنوك وحدها يحيا الإنسان

الأخبار

الإثنين، 04 يناير 2021 - 08:27 م

بقلم/ محمد السيد عيد

فى يناير من هذا العام تمر مائة عام على حدثين مهمين، الأول هو افتتاح مبنى المسرح القومى، والثانى هو عزف أول نشيد قومى مصرى، تم عزف السلام الوطنى مع افتتاح المسرح، وصار تقليداً بعد ذلك.

على مقهى الفنانين

جلس الأستاذ عزيز عيد على مقعده فى صدر المجلس وتحلق حوله نخبة من الفنانين الشبان: "نجيب الريحانى، استيفان روستى، روز اليوسف، أمين عطا الله، والمؤلف أمين صدقى"، وغيرهم. سأل الأستاذ عزيز عيد، المخرج الذى يراه الجميع زعيماً لهم: ما العمل يا شباب؟ حنفضل قاعدين كده من غير شغل وحاطين إيدينا على خدنا؟

قال أمين صدقي: إنها الحرب يا أستاذنا. الحرب العالمية الأولى اللى شغاله بقالها سنة، الحرب دى ضربت المسرح فى مقتل، والدولة شايلة إيدها تماماً ولا شأن لها بالمسرح ولا غيره.

قال نجيب الريحانى: أنا ما ليش دعوة بالحرب ولا بالضرب. أنا عايز آكل وادفع إيجار الشقة وأعيش. لازم نشوف لنا حل.

قالت روز اليوسف بلهجتها الشامية: ليش ما نعمل فرقة ونشتغل فيها كلنا؟

ضحك عزيز عيد ساخراً: حنعمل الفرقة منين؟ هى الفرقة مش محتاجة فلوس؟

قال أمين صدقى: عندى فكرة. أنا سأكتب للفرقة دون أن أطالب بأجر، وانت يا أستاذ عزيز تخرج للفرقة دون أن تطالب بأجر، والكل سيشارك بالتمثيل، والعائد نقسمه علينا جميعاً.

كلام جميل. لكن برضه محتاجين فلوس. مش لازم نأجر مكان نعرض فيه؟ مش عايزين ديكور وملابس وإضاءة، وعمال؟ لازم مبلغ نبدأ بيه.

كان صاحب المقهى يسمع لزبائنه باهتمام. عند هذه النقطة ترك مكانه وذهب إليهم. سألهم: محتاجين كام علشان تعملوا فرقتكم؟

نظر الجميع إليه فى دهشة. بوغت عزيز عيد بالسؤال. إرتبك وهو يقول للرجل: نحتاج عشرة جنيه على الأقل.

يعنى لو اديتكم عشرة جنيه حتشتغلوا كلكم، وتدفعوا اللى عليكم، وتبطلوا السحب على النوتة؟

قفز نجيب الريحانى قائلاً: إحنا مستعدين كمان نخليك شريك برأس المال

ضحك صاحب المقهى وهو يقول: مش عايز اشارك حد. كفاية ترجعوا لى فلوسى

قال عزيز عيد: أنا المسئول عن إرجاع الفلوس يا معلم.

مد صاحب المقهى يده فى جيبه، أخرج حافظة نقوده. أخرج عشرة جنيهات. أعطاها لعزيز عيد، وتكونت الفرقة، لكنها لم تستمر طويلاً، فالمناخ العام غير مناسب. وقد أزاحت صالات الرقص التى تستعين براقصات أجنبيات جميلات المسارح من طريقها. وكان السؤال الذى يطرح نفسه على العارفين بأهمية الفنون: وماذا بعد؟ كيف نعيد المسرح المصرى، وكيف نستعيد له الجمهور؟

ساعة صفا

جلس الفنان زكى عكاشة وأخوه عبد الله عكاشة أمام طلعت بك حرب فى المقهى وهما لا يعرفان ماذا يريد منهما. كل ما يعرفونه عنه أنه رجل مال، وأنه مشغول الآن بإنشاء بنك يسمى بنك مصر. سألهم طلعت بك: انتم عاجبكم حال المسرح دلوقت؟

رد زكى عكاشة: هو فين المسرح ده؟

وعقب عبد الله عكاشة: المسرح مات من زمان يا أستاذ. دلوقت مافيش غير صالات الرقص، وكشكش بيه اللى بيقدمه الريحانى، وبربرى مصر الوحيد اللى بيقدمه على الكسار، وللأسف ان الريحانى، ومؤلف مهم زى أمين صدقى اضطروا يشتغلوا مع الصالات دى علشان ياكلوا عيش.

هز طلعت بك رأسه، ثم سألهما: طيب إيه العمل؟ حنحط إيدنا على خدنا ونقعد نبكى على اللبن المسكوب؟

قال زكى عكاشة: واحنا بإيدنا إيه نعمله؟

قال طلعت وفى عينيه بريق وعزيمة: فى إيدنا نقدم مسرح محترم لمصر.

إزاى؟

نعمل شركة. أنا حادبر الفلوس، وانتم تتولوا المسئولية الفنية. إيه رأيكم؟

رد الأخوان عكاشة فى نفس واحد: ياريت. إيدى على كتفك، إحنا مستعدين من دلوقت.

أقنع طلعت حرب أحد الباشوات المؤمنين بقيمة الفن والأدب، وهو عبد الخالق باشا مدكور، أن ينضم إليه هو وأبناء عكاشة لتكوين شركة لإنقاذ المسرح المصرى، وأن يسموها "شركة ترقية التمثيل العربى"، وبالفعل سجلت الشركة بمحكمة مصر بتاريخ 20 يناير 1917، وكان رأسمالها خمسة آلاف وخمسمائة جنيه، قيمة كل سهم أربعة جنيهات، تماماً مثل قيمة سهم بنك مصر.

بعد توقيع العقد وتسجيل الشركة ظهرت المشكلة الأولى، وهى: أين ستقدم الفرقة عروضها؟

قال طلعت بك: لابد من مسرح دائم، محترم، يليق بالفرقة.

فكروا جميعاً فى المكان المناسب، واهتدوا إلى مسرح الأزبكية، وهو المسرح الذى بناه الخديو إسماعيل فى حديقة الأزبكية، مع دار الأوبرا، والمسرح الكوميدى. كان المسرح تابعاً لوزارة الأشغال، فتقدم طلعت بك بطلب لاستئجار المسرح، ووافقت الوزارة على تأجيره لمدة خمسين عاماً مقابل اثنى عشر جنيهاً سنوياً.

بعد استلام المسرح تبين الجميع أن حالته متردية. استشار طلعت حرب المهندسين فقالوا إنه من الأفضل هدم المسرح وإعادة بنائه من جديد. ومرة أخرى لجأ طلعت بك لوزارة الأشغال لطلب الإذن بهدم المسرح وإعادة بنائه، ووافقت الوزارة. وبدأ العمل.

وضع التصميم المهندس الإيطالى فيروتشى، مدير عام المبانى السلطانية، وبدأ البناء. ويبدو أنه انتهى أواخر عام 1920. وتكلف ثلاثين ألف جنيه، وهو مبلغ يفوق رأس مال شركة ترقية التمثيل العربى عدة مرات، لذلك دفع طلعت حرب تكاليف إعادة البناء من جيبه الخاص. ومن المهم لكى نعرف قيمة الثلاثين ألف جنيه أن نذكر أن رأس مال بنك مصر فى العام نفسه كان ثمانين ألف جنيه. أى أن تكلفة بناء المسرح قاربت 40% من رأس مال البنك، فهل رأيت إيمان طلعت حرب بأهمية المسرح، وبأن يكون بناء الإنسان معنوياً وخلقياً بنفس درجة أهمية تأسيس بنك؟

مع شوقي بك

وقف طلعت حرب مع شوقى بك، أكبر شعراء العصر، ومؤسس المسرح الشعرى المصرى والعربى، أمام خشبة المسرح الجديد والعمل يدور فى البناء يدور على قدم وساق. قال طلعت لشوقى: شوقى بيه، عاوز بيت شعر واحد، نكتبه على الحيطة اللى فوق الستارة، يلخص رؤيتنا للمسرح ودوره فى المجتمع. نظر شوقى لرجل الاقتصاد الغريب الذى يفعل ما لم يفعله المسرحيون معجباً. فكر لحظة ثم قال: وجدته.

ما هو؟

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت/ فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا

قال طلعت: أحسنت

وأمر بكتابة البيت على الحائط الذى يعلو الستارة بماء الذهب.

النشيد الوطنى

قال الخادم لجعفر باشا والى إن طلعت بك حرب ينتظره فى الصالون. تذكر الباشا أن طلعت بك طلب منه موعداً، وجاء فى الموعد المحدد. وجعفر باشا هو واحد من كبار مثقفى عصره، وهو سياسى بارز، تولى الوزارة عدة مرات، وله إنجازات رياضية كبيرة، مثل إنشاء اتحاد الكرة، ورئاسة البنك الأهلى. سأل جعفر باشا ضيفه: خير يا طلعت بيه؟

كل خير يا جعفر باشا. أنا حادخل فى الموضوع على طول. إحنا إن شاء الله ناويين نفتح المسرح الجديد فى يناير 1921، وانا عايز المسرح يعزف النشيد القومى المصرى كل ليلة قبل رفع الستارة.

لكن مصر مالهاش نشيد وطنى بالمعنى المفهوم. مفيش غير لحن وضعه موسيقى نمساوى من عهد الخديو إسماعيل، وأنا لا أعتبره نشيد وطنى بالمعنى المفهوم، لأنه لا يصح أن يكون نشيدنا الوطنى من تأليف رجل أجنبى. ده عيب فى حق مصر.

تمام، وعلشان كده أنا جيت لك. أنا عايز سعادتك ترأس لجنة تكون مهمتها إجراء المسابقات اللازمة لتأليف وتلحين النشيد الوطنى، وحنسمى اللجنه دى ∀لجنة ترقية الأغانى القومية∀، واللجنة دى مش حتنتهى بوضع النشيد، لكن حتكون دى بدايتها.

طبعاً انت عارف إن وضع نشيد وطنى مصرى دى مهمة صعبة جداً.

عارف، وعلشان كده أنا اخترت سعادتك، لأنك رجل حازم، ومشهور عنك النزاهة.

على أى حال مادام الغرض نبيل فأنا ما اقدرش أتأخر عنك.

وبدأ جعفر باشا يعمل.

أول مسابقة

كانت أول مسابقة عقدتها اللجنة هى مسابقة اختيار كلمات النشيد الوطنى. تقدم للمسابقة ستة وخمسون نصاً شعرياً. الغريب أن بين من تقدموا شعراء كبار، على رأسهم أحمد شوقى نفسه. احتار المحكمون حيرة شديدة، خصوصاً وقد صار عليهم أن يختاروا فى النهاية بين نص لشوقى ونص آخر لمصطفى صادق الرافعى. لكنهم فى النهاية اختاروا قصيدة شوقى التى يقول فيها:

بنى مصر مكانكموا تهيا فهيا مهدوا للمُلكِ هيا

خذوا شمس النهار له حُليا ألم تكُ تاجَ أولكم ليا؟

على الأخلاقِ خطوا الملكَ وابنوا فليس وراءها للعزِ ركنُ

أليس لكم بوادى النيل عدْن ُ وكوثرها الذى يجرى شهيا؟

لنا وطنٌ بأنفسِنا نقيه وبالدنيا العريضة نفتديه

إذا ما سيلت الأرواحُ فيهِ بذلناها كأن لم نعطِ شيا

ستة عشر ملحناً

تسابق الملحنون لتلحين النشيد. بلغ عدد الملحنين الذين قاموا بتلحينه ستة عشر ملحناً. وكان الملحن يقوم بآداء النشيد على المسرح أمام اللجنة، وفى النهاية اختارت اللجنة لحن الموسيقى المصرى الموهوب: سيد درويش. وهكذا صار لمصر نشيدها الوطنى الخالص، من تأليف أحمد شوقى وتلحين الشيخ سيد درويش.

نقطة الانطلاق

كانت الأنوار تضيء الساحة الأمامية للمسرح. تشع نوراً وبهاءً. والعربات تتوقف لينزل منها الباشوات والبكوات والهوانم، بالإضافة لعدد كبير من رجال الصحافة، فالليلة هى ليلة الافتتاح.

بعد أن استقر الجميع فى أماكنهم أعطى طلعت حرب إشارة البدء، ووقف سيد درويش يقود الأوركسترا وهى تعزف النشيد الوطنى، ووقف الجميع احتراماً للنشيد، وبعد انتهائه صفقوا طويلاً. وانحنى الشيخ سيد للجمهور، ثم استدار ليبدأ موسيقى العرض الأول.

شد طلعت حرب على يد جعفر باشا والى مهنئاً. قال له جعفر باشا: مبروك عليك انت يا طلعت بيه تأسيس المسرح، وتقديم العروض المحترمة. فعلاً، ليس بالبنوك وحدها يحيا الإنسان.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة