الفيلسوف أومبرتو إيكو
أومبرتو إيكو: من ذكريات الطفولة والصبا
الثلاثاء، 05 يناير 2021 - 12:27 ص
بقلم: أحمد الزناتى
لو زعمتُ أن كتابًا واحدًا قد أثّر فى حياتى دونًا عن بقية الكتب لكنتُ رجلًا مغفلًا، وسأصير مثلى مثل الكثيرين الذين يجيبون عن هذا السؤال. فهناك كتب مارستْ تأثيرًا قويًا فى حياتى لما كنتُ فى العشرينيات وأخرى طبعتْ شخصيتى لما كنتُ فى الثلاثينيات وأنتظر بفارغ الصبر صدور الكتاب الذى سيثير شغفى حين أبلغ المائة.
فى بدايات هذا الشهر تـحلّ ذكرى ميلاد الروائى والفيلسوف الإيطالى وعالم السيميائيات الأشهر أومبرتو إيكو 5) يناير 1932 و 19 فبراير (2016.
واحتفالًا بهذه الذكرى أقدّم مقالًا قصيرًا نُشر بالألمانية فى كتاب مقالات ظهر بعد وفاة إيكو عن دار Hanser الألمانية مؤخرًا ويشتمل على مجموعة مختارة من المقالات التى كتبها إيكو فى مراحل مختلفة من حياته تحت عنوان اپاپا ساتانب )نقله من الإيطالية بوركهارت كروبِر،( العنوان مُقبتس من الكوميديا الإلهية لدانتى الجحيم، بداية الأنشودة السابعة: (Pape Satàn Aleppe) . وفقًا لحواشى ترجمة حسن عتمان، فهذه ألفاظ غير مفهومة حاول بعض النقاد تفسيرها على أساس لغات مُختلفة ويرى الباحث عبود أبو راشد أنها مأخوذة من اللغة العربية ومعناها )باب الشيطان، تابِعـا النزول( ، وربما ذبحسب تأولي- كان أومبرتو إيكو يقصد تورية ماكرة ذ كعادته دائمًا و فى إشارة إلى مقالات الكتاب ذات الطابع التهكمّى الساخر.
فى مقابلة أجريتُـها أول أمس سألنى المحاور )على غرار كثيرين مثله( ما الكتاب الذى كان له أشـدّ الأثر فى حياتى. لو زعمتُ أن كتابًا واحدًا قد أثّر فى حياتى دونًا عن بقية الكتب لكنتُ رجلًا مغفلًا، وسأصير مثلى مثل الكثيرين الذين يجيبون عن هذا السؤال. فهناك كتب مارستْ تأثيرًا قويًا فى حياتى لما كنتُ فى العشرينيات وأخرى طبعتْ شخصيتى لما كنتُ فى الثلاثينيات وأنتظر بفارغ الصبر صدور الكتاب الذى سيثير شغفى حين أبلغ المائة.
- سؤال آخـر تستحيل الإجابة عنه: امـن الذى لقّنكَ دروسًا لا تُنسى؟
باستثناء اباباب واماماب لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال. ففى كل فترة من فترات حياتى علّمنى أحدهم شيئًا. تعلّمتُ من أناسٍ أعرفهم ومن آخرين راحلين مُقرّبين إلى قلبى مثل أرسطو والقديس توماس الأكوينى وجون لوك وبيرس. على كلٍ لا أستطيع الجزم بأن الدروس التى تعلّمتها من الكتب هى التى غـيـّرَت حياتى.
على رأس القائمة تأتى السيدة سيغورينا بيللينى، مُعلمتى المثيرة للإعجاب التى اعتادتْ أن تكلّفنا بواجب منزلى عبارة عن كلمة مفتاحية )كمفردة دجاجة أو بارجة مثلًا)، وتطلب منا مواصلة تطويرها على شكل فقرة تأملية أو حكاية خيالية.
فى أحد الأيام ادّعيتُ بجرأة عجيبة ولا أعلم أى شيطان ركبنى حينذاك لأقول إننى سأبتكر موضوعًا من الصفر. نظرتْ إلى مكتبها وقالت: الموضوع عن ادفتر يومياتب.
كان فى وسعى الكلام عن دفتر يوميات صحافيّ أو يوميات رحالة إفريقى، لكنى حينما وقفتُ على المنصة لإلقاء كلمتى انعقد لسانى ولم أنبس بكلمة.
لقّنتنى السيدة سيغورينا بيللينى درسًا مهمًا مفاده أن يعرف المرء قدر نفسه وألا يبالغ فى تثمين قدراته الشخصية. أما الدرس الثانى فقد تعلّمته على يد الأب سيلى، الكاهن الساليزى 1 الذى دّربنى على تعلّم العزف على أحد الآلات الموسيقية. وفى الخامس من يناير سنة 1945 ذهبتُ إليه نافشًا ريشى مثل طاووس وقلتُ له: لقد أتممتُ اليوم ثلاث عشرة سنة، فأجابنى بنبرةٍ حادة: انقضتْ أسوأ ثلاث عشرة سنة فى حياتك!
- ما الذى كان يحاول إخبارى به؟ هـل كان مفروضًا عليَّ الخضوع لامتحان ضميرٍ حقيقى فى هذه السنّ؟ هل أراد إخبارى ألا أحاول السعى لسماع مديح لوصولى سنّ البلوغ؟ ربما يكون تعبيرًا عاديًا دارجًا على لسان أهل بييمونتى 2 للدلالة على التحفظ ورفض الحذلقة البلاغية، أو ربما كانت هذه هى طريقته فى التهنئة. رغم ذلك أعتقد أن الأب سيلى كان واعيًا لما يقول وأنه أراد تلقينى درسًا مؤداه أنه ينبغى للمعلّم أن يدفع دائمًا بتلامذته إلى خوض المواقف الصعبة وألا يكيل إليهم المديح أكثر مما ينبغى.
وبفضل هذه الدروس تعلّمتُ أن أكون حريصًا فى الثناء على من ينتظرون مِنّى الثناء، اللهم إلا إذا أتوا ببعض الأعمال الاستثنائية المدهشة. وربما أكون قد تسببتُ فى إيلام شخص ما بسبب طبيعتى المتحفظة، ولو حدث ذلك، فربما لا أكون قد قضيتُ أسوء ثلاث عشرة سنة فى حياتى، بل أسوء ستٍ وسبعين سنة فى حياتى. لذلك عقدتُ العزم على ترجمة موافقتى أو وإطرائى على أى شيء بالامتناع عن توجيه النقد، فمعنى امتناعى عن نقد أحدهم أو لومـه أنّه قد أدى واجبه على أكمل وجه. لذلك طالما أثارتْ حنقى عبارات من قبيل البابا الصالح أو "ازاكاجنينى الشريف"، لأن هذه الكلمات من شأنها أن تخلق انطباعًا أن الباباوات.
الرهبنة الساليزيانية هى أحد أنواع الرهبنة فى الكنيسة الكاثوليكية، أسسها يوحنا دون بوسكو فى مدينة تورينو الإيطالية سنة 1859، وقد تأسست بهدف تربية الشباب الفقراء ومحاربة الإلحاد المتفشى فى المجتمع)المترجم(.
- بييمونتي :أحد أقاليم إيطاليا العشرين، واللغة المحلية الرئيسية هى اللغة البيدمونتية )المترجم).
- بينيجنو زاكاجنينى: سياسى إيطالى بارز كان عضوًا فى الحزب المسيحى الديمقراطى الإيطالى والبرلمان الأوروبى)المترجم).
الآخرون ليسوا صالحين أو أن باقة الساسة ليسوا شرفاء. فالبابا يوحنا الثالث والعشرون أو السياسى زاكاجنينى قد أديّا المطلوب منهما، ومن ثمّ فلا سـبـب يوجب الإشادة بهما. لكن إجابة الأب سيلى علّمتنى أيضًا ألا أكون مزهوًا بما أنجزتُ مهما بلغ قدره ومهما رأيته صحيحًا وسديدًا، والأهم من ذلك ألا أسير مـخـتـالًا مــزهـوًا بما حقّـقـتُـه.
هل معنى ذلك ألا يبذل الإنسان قصارى جهده لتجويد عمله؟ بالطبع لا، الغريب أن مقولة الأب سيلى تحيلنى بشكل أو بآخر إلى مقولة أوليفر ويندل هولمز جونيو 4 - لا أذكر الآن أين قرأتها - : ايكمن سـرّ نـجاحى فى أننى اكتشفتُ منذ بواكير الشباب أننى لستُ إلـهـًاب.
من الأهمية أن تدرك أنك لست إلهًا، وأن تضع أفعالك موضع المسائلة وأن تعى أنّ حياتك لم تكن خـيـرًا على طول الخطّ، تلك هى الوسيلة الوحيدة لكى تـحـسـن صنيعًا فى بقية حياتك.
سيسألنى قاريء: ولماذا تقفز هذه الذكريات إلى بالك الآن والبلاد على أعتاب حملة انتخابية والنجاح فيها مقرون بتصرّف الساسة مثل الله، حيث يقول المرشّح الانتخابى كما قال الخالق عن خلقه: اورأى كل شيء حسنًاب، فيأخذه جنون العظمة، مُعلنًا -بيقين لا يأتيه الشك من بين يديه- قدرَته على أنه سيأتى بما لم تأتِ به الأوائل )فى حين أن الله نفسه قد اكتفى بما صنع ورآه حسنًا)، كما أعلن السياسى بينيجنو زاكاجنينى (1912-1989)، وهو من هو، الشريك المؤسس للحزب المسيحى الديمقراطى، وعضو البرلمان الإيطالى المخضرم، ووزير العمل والشؤون الاجتماعية، والسكرتير العام للحزب، وعضو البرلمان الأوروبى،
هل تتخيل وجود مرشح يخاطب ناخبيه قائلًا: الم أحسن صنعًا فيما مضى، ولا أعرف إن كان بوسعى فعل الأفضل أم لا.. لكنى سأحاولب. لو قال ذلك فلن يصوّت أحد لصالحه.
أقول مجددًا إنى لم آتِ لألقى مواعظ أخلاقية زائفة، لكنى كلما شاهدتُ مناقشات الساسة على شاشة التليفزيون لا أملك إلا أن أفكّر فى مُعلمّى السابق، الأب سيلى.
- قاضٍ أميركى شهير، وعضو فى الحزب الجمهورى أسهم فى تغيير مفاهيم القانون فى الولايات المتحدة فى القرن العشرين )المترجم).
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة