الموسيقى القبطية
الموسيقى القبطية


راغب مفتاح.. راهب الموسيقى القبطية

آخر ساعة

الخميس، 07 يناير 2021 - 09:16 ص

 

حسن حافظ

فى  وقت عاشت مصر نهضة ثقافية وطنية تعتز بالشخصية المصرية متعددة الألوان، ظهر راغب مفتاح الشاب القبطى  الذى  تشرب روح ثورة 1919، باحثا عن أحد جوانب الهوية المصرية، واستطاع على مدار عمره المديد أن يسجل الموسيقى القبطية ويحفظها من الضياع، وتسلح لإنجاز مهمته بإخلاص عالم وزهد عابد، ليترك خلفه بصمة لا تمحى ترددها الكنائس القبطية فى  صورة ترانيم تنضح بالمصرية ولا تخفى صلتها بتراثها الفرعوني.

قدم مفتاح تجربة مصرية تتداخل مع الشأن العام، فكان ابن تجربة الشعور الوطنى المتفجر الذى عاشته مصر فى مطلع القرن العشرين، وصولا إلى مشهد ثورة 1919 العظيم، الذى  فجر مواهب وقدرات المصريين جميعا، وهو ما تجلى بوضوح فى مجال الموسيقى التى  شهدت بزوغ نجم سيد درويش وتجربة تخليص الموسيقى المصرية من التأثيرات العثمانية، وانطلاقة نجومية الملحنين محمد القصبجى وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي، الذين نجحوا فى  حفر طريق للموسيقى المصرية بالتوازى مع مشروعات التحديث الوطني، وفى هذا الجو عاش راغب مفتاح، وتولدت رغبته فى  حفظ تراث الأقباط الموسيقي، فى وقت شهدت مصر محاولات للحفاظ على تقاليد فن التواشيح التى قادها الشيخ طه الفشني.
الدكتور ماجد عزت إسرائيل، الباحث التاريخى فى الدراسات القبطية، أحد أبرز المتخصصين فى تأريخ تجربة راغب مفتاح، اختص "آخرساعة" ببعض التفاصيل الخاصة بحياة مفتاح وتجربته الفارقة فى تاريخ الموسيقى القبطية، ودوره المهم فى توثيق الألحان القبطية المميزة وعلاقتها بالألحان الفرعونية، وكيف أن تجربة مفتاح تعدُّ نموذجا مصريا لكيفية الانصهار الحضارى الذى تخطى الأديان وبحث عن المشترك بين المصريين جميعا فى إطار الشعار العظيم "مصر للمصريين" الذى انطلق فى بدايات القرن العشرين وتجلى فى ثورة 1919، الذى  يعدُّ مفتاح أحد أنجب أبنائها.
يقول عزت إن راغب حبشى مفتاح وُلد فى ديسمبر 1898 لأسرة عريقة وغنية يمتد تاريخها إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وقد تركت اسمها على حارة جنينة مفتاح بالقرب من الأزبكية فى  قلب القاهرة، وكان أحد أشقاء راغب من رهبان البرية الشرقية (الصحراء الشرقية)، فيما تخصص شقيق آخر له فى  دراسة الهيروغليفية، وعندما أتم راغب الدراسة الثانوية أرسلته الأسرة لاستكمال دراسته الجامعية حول الهندسة الزراعية فى ألمانيا، ثم عاد إلى مصر عام 1926، وخلال فترة إقامته فى  ألمانيا تعلم رياضة المشى الطويل، وكذلك لعدم وجود كنائس أرثوذكسية فى ألمانيا كان يتردد على كنائس كاثوليكية، وهنا أعجب باهتمام هذه الكنائس بالموسيقى وبدأت فكرة تسجيل الألحان القبطية تجول فى خاطره.
سافر مفتاح إلى بريطانيا عام 1927 مع بدء مشروعه، للبحث عن الطريقة التى يتمكن بها من تسجيل الألحان القبطية مصحوبة بالنوتات الموسيقية، وكان هدفه الاستعانة بالخبراء الإنجليز فى إنجاز مهمته، وهنا وجد آرنست نيولاند سميث، الأستاذ بأكاديمية الموسيقى بلندن، الذى  اتفق معه على الحضور إلى مصر والإقامة لمدة سبعة أشهر سنويا ما بين شهرى أكتوبر وأبريل، لتدوين الموسيقى القبطية، وبالفعل استمر التعاون بينهما ما بين عامى 1928 و1936.
اكتشف مفتاح ظاهرة متكررة تجمع بين المسلمين والمسيحيين فى مصر، فكما أن الكثير من فاقدى البصر يعملون فى الكتاتيب لتعليم القرآن ويرددون بعض الأناشيد الدينية، وجد أن معظم المعلمين المسيحيين الذين يؤدون الألحان المسيحية من فاقدى البصر، وهنا بدأ فى تسجيل أسطوانات للألحان التى يؤديها المعلم ميخائيل جرجس البتانوني، رئيس مرتلى الكاتدرائية المرقسية بالأزبكية، بينما قام صديقه آرنست نيولاند سميث، بتدوين هذه الألحان فى شكل نوتة موسيقية، فبلغ ما سجله مفتاح من ألحان الكنيسة القبطية 16 مجلدا، وهنا يؤكد الدكتور ماجد عزت أن مشروع راغب مفتاح، تعرض للهجوم من قبل بعض الأصوات المتشددة داخل الكنيسة التى رأت فيما يفعله "بدعة"، لكنه لم يلتفت واستمر فى  عمله بإخلاص ودأب.
وأشار عزت إلى أن عمل مفتاح أثبت أن التراث الموسيقى القبطى هو الوريث الشرعى للتراث الموسيقى الفرعوني، وأن الحفاظ على الألحان القبطية هو فى حقيقة الأمر حفاظ على التراث المصرى القديم قدم التاريخ، لافتا إلى أن راغب مفتاح تمكن من تسجيل 500 لحن، من أشهرها لحن "بيكثرونوس" ومعناه "عرشك يا ألله"، الذى ترتله الكنيسة فى  يوم "الجمعة العظيمة"، الذى  تذهب الكثير من الآراء إلى أنه نفس اللحن الذى  كان يزف به موكب الفرعون الميت ضمن طقوس الدفن المصرية، وتوصل راغب مفتاح إلى خلاصة وعى أن التقاليد المصرية الموسيقية أثرت منذ زمن طويل فى  تطور الموسيقى الغربية والقبطية على حد سواء.
ويثبت هذا أن راغب مفتاح هضم الموسيقى المصرية فى أطوارها المختلفة وتمثلها أحسن تمثيل، وقد أنجز هذه المهمة بأمانة وإخلاص ورهبنة وتجرد، حيث أوقف سنوات حياته التى  تجاوزت المئة عام على الموسيقى القبطية وحماية تراثها من الضياع، وقد نجح فى  تخصيص بعض نشاط معهد الدراسات القبطية لتاريخ الموسيقى القبطية، وهو المعهد الذى أسهم فى  تأسيسه مع الدكتور عزيز سوريال عطية، أستاذ التاريخ الكبير، والدكتور سامى جبرة، عالم الآثار، والدكتور مراد كامل، عالم اللغات المشهور.
وشهد عام 1960، تجربة مهمة لراغب مفتاح أراد من خلالها أن يثبت أن الألحان القبطية هى  بنت الموسيقى المصرية القديمة، فزار معبد حورس بإدفو، وهو أحد المعابد المكرسة للاحتفالات الدينية التى احتفظت بمعالمها من دون تغيير، وجمع جوقة معهد الدراسات القبطية، وقدم الموسيقى القبطية داخل معبد حورس، واستهدف من وراء ذلك التأكيد على أن توزيع الموسيقى القبطية يتماشى مع تقسيم المعبد الفرعونى وأماكن الفراغ فيه، وبالفعل نجحت التجربة وصدحت أصوات الآلات الموسيقية فى أرجاء المعبد الذى يعد ثانى أكبر معبد فرعونى فى مصر مساحةً.
وكشف ماجد عزت، الذى اطلع على الأوراق الخاصة لراغب مفتاح، أن الحكومة اعترفت بمنجز مفتاح، فتمت دعوته ممثلا للموسيقى القبطية فى المؤتمر الأول للموسيقى العربية فى  مصر عام 1932، بينما بدأ فى عام 1940 تكوين فرقة مرتلين من طلبة الإكليريكية وكورسين أحدهما لطلبة الجامعة والثانى  للطالبات، ثم أسس مركزا لتعليم الألحان للمعلمين فى  كنيسة القديسة العذراء مريم المعروفة بقصرية الريحان فى مصر القديمة، وكان يتم فيه تلقين المعلمين كيفية أداء الألحان القبطية، كما أشرف على تسجيل القداس الباسيلي، الذى استغرق إنجازه نحو 30 عاما، ونشرته الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1998، ويحتوى  على نص القداس كاملا باللغات القبطية والعربية والإنجليزية، وكانت لورانس مفتاح، ابنة شقيق راغب مفتاح، التى  تعمل بالجامعة الأمريكية، همزة الوصل مع الجامعة، واستطاعت إنجاز 16 أسطوانة (سى دي) بكل المنتج الموسيقى الذى قام عليه راغب مفتاح على مدار عقود.
وكان البابا شنودة الثالث أعلن بعد توليه الكرسى البابوى عام 1971، بدء العمل على توحيد طقوس موسيقى الكنيسة المصرية، ومن هنا نشأت علاقة صداقة عميقة بين البابا وراهب الموسيقى، الذى ترك بصمته على كل احتفالات الكنيسة الرئيسية خصوصا أسبوع الآلام وقداساته، واحتفالات شهر كيهك المعروف باسم شهر التسابيح أو الشهر المريمى الذى يسبق قداس السيد المسيح، وما بين عامى 1984 و2001 استمر مفتاح فى  مواصلة عمله الجاد فى تسجيل الموسيقى القبطية، فأتم تسجيلات تشمل: "طقوس الأكليل" و"طقوس الصوم الأربعينى  المقدس"، و"طقس أحد الشعانين"، و"طقس سبت الفرح" أو سبت النور، طقس صوم الرسل، طقس صوم السيدة العذراء، ثم القداس الغريغوري، وهى أعمال أكسبت مفتاح مكانة دولية مرموقة فتلقى العديد من الدعوات العالمية للاستماع لما تنتجه الآلات القبطية.
وكان نشر القداس الباسيلى عام 1998 بالتزامن مع احتفالية بلوغ راغب مفتاح سن المئة هو أكبر تكريم حصل عليه، وهى الاحتفالية التى أشرف عليها البابا شنودة بنفسه، ومنحه خلالها صليبياً مذهباً تكريماً لجهوده، إذ يعد تسجيل القداس الباسيلى ذروة منجزه الذى تخلده قداسات الكنيسة المصرية التى لا تخلو منها كنيسة على مدار الأيام، لذا عندما رحل مفتاح عن دنيانا فى 18 يونيو 2001، كان هناك شعور عام بأنه أنجز مهمته على أكمل وجه واستطاع أن يحافظ على الموسيقى القبطية من الضياع.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة