محافظة الأقصر
محافظة الأقصر


«آخر ساعة» كانت هناك ٫٫ «المحارب».. الدير المنسى فى وادى الملوك

آخر ساعة

الخميس، 07 يناير 2021 - 09:24 ص

عصام عطية

فى البر الغربى بمحافظة الأقصر وفى قلب وادى الملوك وخلف معبد «هابو» ترتفع جدران الدير المنسى، أو دير الشهيد تاوضروس المحارب.. الطريق إليه يمر بتمثال ممنون العملاق، حيث ينتظر السائحون لالتقاط صورهم التذكارية بجواره، وفوقهم تحلق أسراب الحمام التى تسكن معبد «هابو» وتطير فى حلقات دائرية لا نهائية بمجرد أن تصفق لها.

رحلة البحث عن هذا الدير، كانت صعبة حيث قطعت المسافة من تمثال ممنون حتى نهاية سور معبد هابو فى ثلث ساعة باستخدام دراجة هوائية، حيث بدأت شواهد مبنى بعيد وسط الجبال محاط بسور كبير وبوابة ضخمة يستلزم المرور إليها العبور من خلال مدق ممهد لمرور السيارات.
المبنى كتب على بوابته الضخمة «دير الشهيد تاوضروس المحارب بجبل القرنة غربى الأقصر»، بعد أن طرقت جرس الباب انتظرت لدقائق حتى سمعت أصوات أقدام وأصوات ترابيس تفتح خلف الباب الذى خرجت من ورائه راهبة لتقول لى جملة مقتضبة: «إحنا مش بندخل حد الدير بسبب كورونا».
وبعد أن تحدثت معها وأخبرتها أنى صحفى أريد إجراء تحقيق عن هذا الدير وسط أجواء صوم مريم وألتزم بكافة الإجراءات الاحترازية وافقت وسمحت لى بالدخول..
أولى مشاهداتى كانت عبارة عن مشهد لمجموعة من الراهبات يجلسن خارج مبنى صغير مطل على فناء واسع وبجواره غرف المزار، المكتبة، قلالى الراهبات، المضيفة.
قلت للراهبة أريد دخول الدير والتجول فيه للتعرف عليه.. فتحت لى باب الكنيسة الموجودة بالدير وتركتنى أتجول فيها، لقد اندثرت مبانى هذا الدير ولم يتبق منها سوى كنيسة مستطيلة الشكل وممتدة من الغرب إلى الشرق تغطيها سلسلة من القباب المتجاورة تقوم على عقود قليلة الارتفاع عن منسوب الأرضية الحالية للكنيسة، ويتكون سقف الكنيسة من 17 قبة بها بعض الثقوب للإنارة، فسلسلة القباب المتجاورة تعد أكثر الأنواع انتشارا فى كنائس مصر العليا، إذ يغطى مساحة الخوارس المختلفة وهياكلها قباب متجاورة ومتشابهة حتى إن كانت غير منتظمة الشكل.
أما صحن الكنيسة فيمكن الدخول إليه عن طريق بابين، باب لدخول الرجال وآخر للنساء، والكنيسة عبارة عن ثلاثة خوارس يفصل بعضها أعمدة من الطوب وسقفها عبارة عن قباب متلاصقة ويوجد بالخورس الثالث المعمودية، وهى حجرة مستقلة فى صحن الكنيسة وتقع فى الجهة الشمالية الغربية من الكنيسة حسب طقس الكنيسة، أما مقصورة الشهيد التى وقفت أمامها فتضم أيقونة للشهيد تاوضروس المشرقى مطعمة بالصدف ومكتوب عليها «دشنت هذه الصورة بدير تاوضروس المشرقى المحارب يوم السبت 2002 ميلادية على يد أصحاب النيافة الحبر الجليل الأنبا يؤانس والحبر الجليل الأنبا بيمن».
وقباب سقف الكنيسة ترتكز على أعمدة من الحجر الرملى على الطراز الروماني، وقد أعيد استخدامها، حيث نقلت من المعابد المصرية القديمة الفرعونية بالمنطقة، ويوجد بالكنيسة خمسة هياكل، ثلاث منها قبلية وهى هيكل الملاك ميخائيل، والشهيد إقلوديوس، وهيكل الشهيد تاوضروس وتمثل الجزء القديم من الكنيسة وقد أضُيف هيكلان بحريان، وهما هيكل السيدة العذراء وهيكل الشهيد مار جرجس الذى يعتبر أحدث الهياكل نسبياً حيث تمت إضافته عام 1962.
ويوجد أمام الكنيسة مدفن خاص بالآباء الكهنة الذين خدموا بالدير، كما يضم تابوت العالم الأثرى لبيب حبشى الذى دفن بهذا المدفن بناء على وصية منه، ولا يوجد أى مصدر لمعرفة تاريخ إنشاء الدير، لكن يُعتَقد أنه أنشئ فى القرن الرابع الميلادى، وهو يدخل ضمن كنائس وأديرة كرسى إسنا، كما ورد فى كتاب اللؤلؤة البهية فى التراتيل الروحية والمدائح المتداولة فى كنائس الكرازة المرقسية الجامعية تأليف القمص يوحنا جرجس وجبران نعمة الله الإسكندرى الذى صدرت طبعته الأولى عام 1896.
وفى كتاب «دليل المتحف القبطى لأهم الكنائس والأديرة» بقلم سميكة باشا الجزء الثانى (1923)، ورد ذكر الدير فى جدول إيبارشية إسنا ومطرانها الأنبا مرقس ومركزه الأقصر.
أما كتاب «تحفة السائلين فى ذكر أديرة رهبان المصريين» للعلامة الراحل القمص عبدالمسيح صليب المسعودى عام 1932، فقد جاء فيه «أن دير الشهيد تاوضروس المحارب وهو تادرس المشرقى بالجبل الغربى بحاجر ناحية البعيرات بكرسى مطران إسنا خبرنا عنه جاورجى باخوم».
والمحارب الذى رسم الدير باسمه هو القديس الأمير تاوضروس، وكان أبوه يدعى يوحنا من «شطب»، وهى بلدة بالصعيد تقع قبلى أسيوط، يقال لها «شطب الحمراء»، وتقع على كيمان عالية وتشتهر بزراعة القمح واليوسفى، وقد سيق يوحنا أسيرا إلى أنطاكية أيام الاضطهاد الروماني، حيث استقر به المقام وتزوج ابنة أمير أنطاكية وأنجب منها ابنه تاوضروس، وقيل إنها كانت مريضة بداء أعجز الأطباء فعالجها يوحنا وشُفيَت وأحبت المصرى يوحنا وتزوجته، وعندما قامت الأم بتعليم ابنها ديانتها الوثنية غضب الأب ومنعها، لكن بسطوتها استطاعت طرده من أنطاكية واحتفظت بابنها الذى كبر وتعلم العلم والحكمة وهداه الله إلى أحد الأساقفة الذى قام بتعميده مسيحياً، ما أغضب أمه غضباً شديداً.
وانخرط تاوضروس فى سلك الجندية حتى أصبح قائداً لأحد جيوش الملك واصطحبه الملك فى حملة لمحاربة الفرس، وتقول الأسطورة إنه كان فى مدينة أوخيوطوس ثعبان هائل كان يعبده أهل هذه المدينة ويقدمون له كل عام ضحية بشرية ليأكلها، وكان فى المدينة أرملة مسيحية لها ابنان أخذ الناس ابنيها لتقديمهما قربانا للثعبان فى الوقت الذى كان فيه تاوضروس هناك فتوسلت له المرأة لإنقاذ ابنيها فترجل عن حصانه بعد أن صلى واتجه ناحية الثعبان الذى كان طوله اثنى عشر قدما فقذفه برمحه فقتله وأنقذ الصبيين.
بعد ذلك سافر إلى مصر العليا ليبحث عن والده فوجده بعد أن تعرف إليه ورافقه حتى مات، ثم عاد إلى أنطاكية التى كان يحكمها ملك تفنن فى تعذيب المسيحيين فواجهه واعترف بإيمانه بالمسيحية وكان كهنة الأوثان بالمدينة قد اتهموه بقتل الثعبان إلههم فأمر الملك بتعذيبه والتنكيل به ثم أمر بحرقه وقطع رقبته. وقد قامت سيدة مسيحية بإخفاء جسده حتى انتهى عصر الاضطهاد فأقيمت الكنائس والأديرة تخليدا لاسمه ومن ضمنها دير المحارب بالأقصر.
اللافت للانتباه أن الدير يقع فى نطاق «مدينة هابو» التى أسسها المهندس امحوتب بن حابو بانى معبد رمسيس الثالث، وارتبطت هابو بالموت فى التراث الشعبى وتلطم النسوة الخدود وتصرخ خلف النعش «هابو» وهى الكلمة التى اختصرت إلى «بو» للتخفيف، ويقال للميت «غرَّب» لأن الموتى يدفنون غرب النيل.
المشهد عبارة عن عناق أبدى ببن الموت والحياة وتزاوج بين الفرعونية التى كانت معابدها ومقابرها الملاذ الآمن للهاربين من الاضطهاد الروماني، حيث نبتت الرهبنة الفردية والجماعية، وحيث احتضت مدينة الموتى كل الأديان.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة