سمير الجمل
سمير الجمل


يوميات الأخبار

«أسطى».. فى «مصنع الإبداع»!!

الأخبار

الأحد، 10 يناير 2021 - 10:03 م

بقلم/ سمير الجمل

اختطلت الأوراق وتشابكت المصطلحات وتداخلت الحدود.. فلم نفرق بين الصالح والطالح.. والأصلى والمضروب.

عشنا وشفنا وسمعنا.. كبار رجال الصحافة من الأساتذة الذين تعلمنا على أيديهم وعلى رؤوسهم يصفون الصحفي الشاطر بأنه "أسطى".. وعشنا ورأينا كيف أن سائق التوك توك مع احترامنا له هو الباشمهندس.. والدكتور.. وبلغنا مرحلة أن راقصة الحوارى تعتبر ما تفعله ابداعاً.. وتطالب بحريتها.. واختطلت الأوراق وتشابكت المصطلحات وتداخلت الحدود.. فلم نفرق بين الصالح والطالح.. والأصلى والمضروب.

وإلى هذا الحد يكفى التقديم.. لأن الأرقام سوف تتكلم وهى أصدق.. .. وتغنى عن كل كلام.. فى ظل تحول عالمى فى معايير الاقتصاد.. جعل من شركات الإنترنت والاتصالات والاعلام.. أعلى دخلا من البترول والسيارات والصناعات الثقيلة.. وفى أمريكا على سبيل المثال فى احصائية من عام ٢٠٠٣ جاء فيها أن صافى أرباح الانشطة الابداعية بلغت ٧٩١٫٢ بليون دولار "لاحظ أن الرقم بالبليون وهو ما يساوى ألف مليار".. بينما دخلت الخزائن البريطانية ١١٢ بليون دولار وبما يوازى ٥٪ من الناتج القومى.

ومرة أخرى نعود إلى تعريف الابداع فى ظل هذه المتغيرات والمفكر الأمريكى "جون هارتلي" استاذ وعميد كلية الصناعات الإبداعية بجامعة كوينز لاند.. يقول: كل شخص مبدع.. لكن هل يصح أن نطلق على من يسلق بيضة أنه الشيف الأعظم.. وقد أصبح الابداع فى السنوات الأخيرة ميزة تنافسية بين الدول الكبرى.. وأساسه امتلاك المعرفة وهو ما يلزمه تطوير التعليم من الحفظ والتلقين.. الى القدرة على البحث والفك والتركيب.. فى التعليم النمطى الذى انتهى عصره تقول لطفلك هذه شجرة.. وفى التعليم الحديث تعلمه كيف يجمع صورة الشجرة من المنازل.

والدول التى تمتلك زمام المعرفة وتطور ملكات وقدرات شعبها.. هى الأكثر تقدماً من غيرها.. وفى هذا أصبح بيل جيتس صاحب ميكروسوفت الرجل الثانى بين أغنياء العالم بعد سلطان بروناى حسن بلقيه..

كانوا فيما مضى يربحون لأنهم يبيعون سلعة.. الآن من يمتلك الفكرة يتحول من مستهلك تابع.. إلى منتج قائد وفلاسفة هذا العصر يكشفون هذا السر.. فى ثورة الاتصالات التى جعلت من كل مواطن مؤسسة اعلامية فنية فهو يمتلك من خلال الفيس بوك وتويتر واليوتيوب وغيرها ان يتفاعل ويتواجد وينتقل من مقاعد المتفرجين الى منصة النجوم..

من جمعوا عيالهم وحولوا كلامهم وأكلهم وشربهم ورحلاتهم الى فيديوهات يتابعها ملايين.. بصرف النظر عما نقوله..

وعندما انطلقت النسخة الأولى من برنامج "الأخ الأكبر" كانت المحطات العالمية تعلن اطلاق عصر برامج الواقع.. التى تكسر حاجز الخصوصية تزامنا مع ما يكتبه وينشره الشخص عن حياته بكامل رضاه عن خصوصياته على الفيس بوك.

البرنامج ايضا.. بتصويت الجمهور.. وتحكمه فى مسارات اعضاء البرنامج من استمرارهم أو خروجهم.. وضع المتفرج فى مصاف لجان التحكيم أو نقله من الفرجة السلبية.. إلى المشاركة الفاعلة.. وقد قدمت المحطات العربية بعض نماذج مستوحاة من فكرة برنامج الاخ الاكبر أبرزها "ستار اكاديمى".. وللأسف أغلب من فازوا فيه.. لم يكملوا طريقهم لأن موهبتهم تكن أصيلة.. والشركات الراعية تلعب على الدول الاكثر اتصالا وتقوى شوكة مواطنها.. لأنها تجنى المزيد من الارباح.

صناعة الإبداع

كان الابداع مقصورا على الفنون والآداب.. حتى دخلت البرمجيات إلى الساحة وانضمت إلى عالم الابداع.. لأنهم بحثوا عن فكرة.. وكانت شخصية أى تخصهم دون غيرهم وكانت أصلية أى غير مستنسخة من فكرة أخرى أو تقليد لها.. وهى نافعة وتلك هى مواصفات الابداع بالمفهوم الحديث..

ومصر والحمد لله انتبهت بعد ٣٠ يونيه الى هذا المنهج وبدأت الدولة تنظر الى التعليم بعين الاعتبار وأعلنت تطويره وتحديثه وسعت الى المعرفة.. وأطلقت البنك الكبير الذى يوفرها لكل باحث ومبدع.. وراحت تؤهل خيرة شبابها.. نحو هذه المفاهيم الجديدة.. لكى تكون بلادنا حاضرة فى المشهد العالمى ومن صناعه والمشاركين فيه.. وليس فقط المتفرجين عليه.. والشاب المذهل صاحب الخبرة يمتلك سلعة فى سوق الابداع الذى يبحث مع كل طلعة  شمس عن الجديد فى كافة الميادين وقال "هارتلى" فى ذلك: أن يطبخ الشيف أمامك بشكل جيد ومبهر.. هذه صنعة.. لكن أن يحول عملية الطبخ.. إلى كتاب فيه خلاصة فكره.. هذه عملية ابداعية.. حتى وقت الفراغ.. هناك من يستثمر خبرته ويحوله الى مشروع استثمارى.. وأبرز الأمثلة على ذلك من اخترع "البلاى ستيشن" لقد حول متفرج كرة القدم إلى لاعب وهو فى السبعين من عمره.. على كنبة الصالون فى بيته وبالبيجاما وأمامه الفيشار والبطاطس..

وبهذا الفكر أصبحت الخدمات أهم من البضائع.. ومصر الحديثة.. بقيادة الرئيس السيسى تمضى فى هذا الطريق وتحويلها إلى بورصة لتدويل الطاقة بأنواعها.. خطوة.. وتقديم الخدمات اللوجستية فى منطقة قناة السويس وما حولها.. خطوة أخرى.. وتحديث بيانات كل مواطن خطوة.. وانشاء الطرق السريعة خطوة.. والتوسع فى التعليم التكنولوجى خطوة.. وعلى ذكر التعليم اعتبر خبراء الابداع أن مسلسل "رماة السهم" الذى قدمته محطة "BBC" منذ سنوات.. تطوير لفكرة نشر توجهات الدولة من خلال مسلسل استمر اذاعته لسنوات طويلة.. ومنه قدمت الاذاعة المصرية مسلسل "ربات البيوت" الذى يحمل من النصائح الاجتماعية اكثر منها سياسية.. ولهذا السبب دخلت شركات كبرى فى مجال الالكترونيات مؤخرا الى عالم الانتاج الدرامى.. ومعها ظهرت المنصات هنا وهناك وبعد أن كانت تعتمد على انتاج الغير.. بدأت تعتمد على انتاجها الخاص.. لتلبية احتياجات الشاشة "الثالثة" ويقصدون بها شاشة الموبايل والكمبيوتر.. بعد شاشة السينما الأولى وشاشة التليفزيون الثانية..

الاستهلاك أولاً

فلسفة الشركات العابرة للقارات والتى تبحث عن التهام.. النصيب الأكبر من كعكة الاقتصاد العالمى.. لاتكتفى بالترويج للسلعة..لكنها باستخدام الاعلام والاعلان تحولها إلى أسلوب حياة..

كانت الأمهات تطبخ الدجاج بأسلوبها المتعارف مسلوقة أو محمرة.. لكن جاء من فكر فى تتبيل الدجاج وتقديمها مقرمشة وقد تكون حارة.. أو عادية.. وبدلاً من أن تذهب الدجاجة إلى البيوت.. ذهب الناس إليها أفواجا فى المطاعم الشهيرة التى أصبحت علامة على الثقافة الامريكية فى الأكل السريع.. ورغم أن ربة البيت تستطيع أن تقدمها فى المنزل.. لكن اجواء تناول الدجاج المقرمش وتحالف سلسلة المطاعم مع شركات المحمول.. وتقديمها إلى هدايا الاطفال.. بل وخدمة الصغار بصفة خاصة لان الطفل يسحب والديه الى هذه المطعم التى توفر له اللعبة والالعاب والمقعد المخصص لسيادته.. وفى مصر.. عندنا من فكر فى تقديم الكشرى فى علب. بلاستيك يستطيع الاب أن يأخذها لتكون وجبة عائلية فى البيت.. ثم قاموا بتغليف عبوات الصلصة والشطة و∩الدقة∪ "التوابل السائلة".. وهنا توسعت المبيعات لأنها انظف وأفضل وكله على حساب الزبون..

والميكانيكى الذى يصلح لك العطل فى سيارتك حرفى.. لكنه عندما يحول لك استخدام الفتيس من اليدوى إلى الاتوماتيك هو مبتكر ومبدع وصاحب تجربة تستحق التسويق.. وظهور مصطلح الصناعات الابداعية ظهر تقريبا فى أوائل الألفية الثالثة سنة ٢٠٠٠ تقريبا.. عندما تلاشت الحدود بين الفنون الابداعية والصناعات الثقافية.. واشتبك الجاد مع الهزل والعام والخاص.. والفكرى والاستهلاكى.. ومعها سقط الحد الفاصل بين الاعلان والاعلام.. وبين الصناعات الثقيلة واليدوية وتحت هذا العنوان انطلقت صيحة إلغاء وزارة الاعلام من معظم الدول الأوروبية والامريكية.. وهو ما هرولت إليه بعض الدول العربية ومنها بلادنا فى مرحلة السيولة السياسية وما قبل ٣٠ يونيه.. حتى يصبح المجال متسعا أكثر وأكثر للفكر الاستهلاكى لان الخبراء اكتشفوا بعد أحداث "١١ سبتمبر" أن الجماهير العريضة أصبحت تتعاطى مع أخبار السياسة بنفس الشغف مثلما تتعامل مع الفيديوهات الغنائية الساخنة وعروض الازياء.. ومن هنا بدأت المحطات تحويل الخبر السياسى الى وسيلة للمعرفة والتسلية.. واستعانوا بمذيعات هن اقرب إلى عارضات الأزياء.. وظهرت الملابس التى هى تكاد تكون سواريهات.. تجاوزت وقار مذيعات الأخبار فى الشكل والمضمون.. ودخلت الاعلانات إلى النشرات.. وظهرت الأخبار الانسانية إلى جانب السياسية ووجدنا المحطات العربية تعيد تقديم بعض البرامج الأجنبية.. بتمويلات كبيرة.. ومنها "سترداى نايت" الذى ثبت فشله وعدم تقبل الجمهور له.. رغم تقديمه للكوميديا التى يحبها الجمهور وجرى استخدام "دمية" مثل "ابلة فاهيتا" لكى تكون بديلا عن مقدم البرنامج البشرى.. لكنها ابداً لم تكن دمية تتعامل مع الاطفال حيث وجدناها فى كثير من الاحيان تتجاوز فى اللفظ والحركة ولايمكن محاسبتها لأنها "دمية".. والأجور التى يتم دفعها للضيوف.. جعلتهم يظهرون فى البرنامج رغم تجاوزاته وتحولت شركات المحمول بصفة خاصة إلى عمل حملات اعلانية غنائية بمشاهير الغناء.. حتى أن أحد هؤلاء.. تفرغ تماما.. لتقديم أغنياته الاعلانية المصورة.. وهذا الخلط بين الاعلان الاستهلاكى وبين العمل الفنى يمثل لنا صورة واضحة من المفهوم الجديد للصناعة الابداعية.. واصبح طموح معظم الشباب متجها نحو الفن أو الرياضة كأسرع وسائل للحصول على المال والشهرة.. وظهرت اكاديميات تستثمر هذا الطموح وتحوله إلى تجارة تربح منها الملايين.. والكل يعرف أن الموجة لايمكن صناعتها.. لانها غالباً منحة من السماء.. لكن يجوز.. بيع الخبرة والتجربة لمن يريد.. وفى الملاعب واستديوهات الغناء مئات الأسماء.. لكن النجومية والشعبية لا يحصدها الا من يستحقها ولهذا ايضا تفنن البعض فى الترويج لنفسه حتى لو جاء ذلك على حساب أموره الخاصة التى يفشيها ثم ينكرها..

"السؤال": هل يختفى المبدع الحقيقى فى ظل هذا الخلط؟.. والمشكلة ان خبراء صناعة الابداع يؤكدون أن الموهبة الفردية مهما كانت قدراتها لا يمكن أن تلمع بدون المال والبنية التحتية والتنظيم والتسويق وهى أمور لا يقدر عليها إلا المؤسسات.. وتلك هى المشكلة؟!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة