طارق الشناوى
وحيد حامد..
أحب أيامه وأحببنا أيامنا معه
الإثنين، 11 يناير 2021 - 11:45 ص
لا يزال يسكننى ما قاله وحيد حامد ليلة تكريمه بمهرجان القاهرة السينمائى، (أحببت أيامى )، كانت أيام وحيد حالة إبداعية يحيلها إلى عمل إذاعى أو تليفزيونى أو سينمائى، يتلقى بعدها ردود فعل مبهجة، بقدر ما أحب أيامه معنا، بقدر ما أحببنا نحن أيامنا معه، وحيد قرأنا جيدا فكتبنا جيدا، يعرف بالضبط ما نجرؤ أن نقوله وما نخشى أيضا أن نقوله، امتلك فيض من البصيرة منحت نظرته العمق الذى يتجاوز اللحظة. يتساءلون كيف عرف وحيد حامد فى ( طيور الظلام ) 1995 ما سيحدث فى مصر 2012 عندما امتلك الإخوان السلطة؟ كيف اخترق حاجز زمنى يتجاوز 17 عاما، فقدم هذا التيار وهو يخطط للإمساك بمقدرات الوطن، وهو ما حدث قبل أن تُسقطه الإرادة المصرية الشعبية فى ثورة 30 يونيو، أنه الوجدان الخصب الذى عاش به وحيد فأطل على الزمن القادم، وحذرنا مبكرا من توغل وتغول الأخوان، إلا أننا لم نأخذ حذرنا بما يكفى.
وحيد لا يمكن أن يضحى بموقفه من أجل إرضاء أى فريق حتى لو كانت السلطة، فهو لا يكتب إلا قناعاته، وما يمليه عليه ضميره، الأمر ليس له علاقة فقط بالقضايا الكبرى التى يعيشها الوطن، ولكن حتى فى التفاصيل الدقيقة، لو تأملتها جيدا تستطيع أن ترسم بعدها (بورتريه) صادق لهذا الإنسان.
وإليكم هذه الحكاية فى عام 73 تحديدا مع الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر ومطلع أكتوبر، كانت إذاعة الشرق الأوسط تقدم مسلسل ( أرجوك لا تفهمنى بسرعة ) والذى استمر حتى التاسع من رمضان الموافق 5 أكتوبر، لأن مع اندلاع حرب 6 أكتوبر توقفت كل المظاهر الاحتفالية الرمضانية، التى تعودت عليها الإذاعة، قبلها كانت إذاعة (الشرق الأوسط) تتباهى يوميا بأن لديها عبد الحليم بطلا للمسلسل الذى ينتظره الجميع بعد آذان المغرب، اكتشفوا مع إذاعة الحلقات الأولى أن الكاتب الصحفى الكبير محمود عوض غير قادر على ملاحقة الكتابة الدرامية، وهذا قطعا لا يقلل من قيمة الأستاذ عوض، الذى وصفه إحسان عبد القدوس قائلا أنه (عندليب الصحافة) فهو يضعه صحفيا فى مكانة عبد الحليم فى الغناء، إلا أن الكتابة الإذاعية حكاية أخرى، من الواضح أن حماس عبد الحليم حافظ للأستاذ محمود كان مفرطا، بينما الكتابة الدرامية لها شفرتها الخاصة ولم يرض مخرج الحلقات محمد علوان والذى حمل لقب (إمبراطور الإذاعة) عن المستوى، ولا أيضا عبد الحليم كان راضيا، الإذاعى وجدى الحكيم من أقرب أصدقاء عبد الحليم، وهو من المقربين الذين يستشيرهم حليم فى العديد من التفاصيل فأخبره بالورطة التى يعيشها، وخوفه من توقف التسجيل أو عدم النجاح الجماهيرى للمسلسل، الذى كان ينوى إنتاجه بعد ذلك فى فيلم سينمائى، فقال له وجدى أن الوحيد الذى يملك مفتاح إنقاذه من تلك الورطة هو الكاتب الشاب الفلاح وحيد حامد، وقتها ولم يكن قد أكمل الثلاثين، وكان وجدى يُطلق عليه (موليير مصر)، وذهب إلى بيت عبد الحليم الذى طلب منه أن يقيم عنده فى غرفة ملحق بها أيضا المكتب حتى يتفرغ للكتابة، وحيد اعتذر لأنه لا يكتب فى الأماكن المغلقة، ولكن مع أنفاس الناس، ووعده بإنجاز المسلسل فى الوقت المحدد، كتب بضع حلقات وسلمها لهم، وانتظر أن يسمع اسمه فى مقدمة المسلسل، لم يجده فهو يدرك أن القصة لمحمود عوض، ولكن الدراما والحوار لوحيد، ووعده وجدى بإصلاح الأمر فى الحلقات التالية، إلا أنه أكتشف أنهم لم يغيروها، حيث كانت إذاعة (صوت العرب) تقدم له فى نفس التوقيت الرمضانى مسلسل بطولة عبد المنعم مدبولى، أدرك أن الإذاعية الكبيرة صفية المهندس هى المسؤولة، التقاها فقالت له ( هو احنا ما عندناش غير وحيد، ما أقدرش أذيع اسمك مرتين على مسلسلين)، فقال لها إنه يعتذر عن استكمال الحلقات، وعندما علم عبد الحليم بذلك أخبره أنه سيعوضه ماديا وسوف يتعاقد معه على كتابة الفيلم السينمائى بأجر مضاعف، عما كان يتقاضاه أى كاتب كبير وقتها، إلا أن وحيد أصر على موقفه فهو لن يتنازل عن ذكر أسمه على الحلقات، وبالطبع جاءت الحرب يوم 10 رمضان فتوقفت الإذاعة عن استكمال البث، وهو ما منح عبد الحليم و المخرج علوان والإذاعى وجدى الفرصة لكى يعثروا على من يلعب الدور الذى رفضه وحيد ( كاتب من الباطن ) مقابل أجر كبير
باقى الحكاية أن عبد الحليم التقى بعد عام مع وحيد مع زوجته الإذاعية الكبيرة زينب سويدان، فى كافتيريا فندق (الشيراتون) بالصدفة، ووجد عبد الحليم يذهب إليه وهنأهما بالزواج، فقال له ( أنا سعيد جدا بموقفك وده من حقك وأنا أحترمتك.
لدى حكايات عديدة عن وحيد أحتفظ بها، لأنها ليست للنشر، كثيرا ما نجد مساحة شاسعة بين الصورة الذهنية الراسخة فى الوجدان للفنان التى نقتنصها من أعماله الفنية وبين الإنسان، وعند الاقتراب نكتشف الحقيقة التى كثيرا ما تُصبح صادمة بل ومفجعة.
وتعودت أن أتقبل الأمر دائما ببساطة، بحكم الدائرة التى جعلتنى قريبا خلال أربعة عقود من الزمان مع عدد كبير من الشخصيات العامة، لا أشغل نفسى كثيرا بتلك المساحة التى تفصل بين الخيال والحقيقة، بينما مع وحيد حامد لم أجد أبدا أى من مظاهر التناقضات، فهو فى إبداعه يدافع عن قيم الحق والخير والجمال، وهو أيضا كذلك فى سلوكه الشخصى، أتذكر اتصال تليفونى قبل نحو ثلاثين، عاما على مشارف عيد الأضحى، كنت قد كتبت مقالا عن كاتب كبير، وأشرت إلى أنه قبل مدة وجيزة من الرحيل أنجب طفلة عمرها فقط شهران، قال لى وحيد انه يريدنى فى مسألة حساسة، وذهبت إليه وأنا أفكر فى هذا الموضوع الحساس فوجدت وحيد يمنحنى ظرفا به مبلغ مالى كبير، لم أعرف بالضبط الرقم، ولم أسأله، طلب منى أن أمنحه لأسرة هذا الكاتب الكبير وظل فى كل عام يكرر نفس المشهد، لن أذكر الاسم لأنها رغبة الصديق الكبير ويجب أن نحترم رغبة من يأتمننا على أسراره.
من أشق الأحاسيس عندما أكتب عن صديق كان معى قبل أيام ينبض بالحياة ثم أجد نفسى أسبقه بتعبير كان، صعب جدا استخدام كان مع مبدع كبير مثل وحيد حامد، علاقة استثنائية جمعتنى مع وحيد حامد، كنت أول من عرفه فى جيلى، المرة الأولى فى ردهات ( البرنامج العام )مع بداياته فى الإذاعة نهاية السبعينيات، وأنا طالب بكلية الإعلام وأتدرب فى مجلة ) روزاليوسف )، ويرسم القدر لى معه أيضا مشهد النهاية عندما أدرت أخر لقاء جماهيرى 6 ديسمبر الماضى فى إطار تكريمه بمهرجان ( القاهرة السينمائى )، فكان هو أعمق وأصدق وداع لفنان، بين البداية والنهاية ظل وحيد هو وحيد ( فلاح مصر الفصيح) الذى أحب أيامه معنا فأحببننا أيامنا معه.