اللوحات للفنان:  جميل شفيق
اللوحات للفنان: جميل شفيق


إبداع

سيدة النهر

بوابة أخبار اليوم

الثلاثاء، 12 يناير 2021 - 05:40 م

كتب: صابر رشدي

مساء‭ ‬هادئ،‭ ‬لكنه‭ ‬شديد‭ ‬البرودة،‭ ‬جعلنا‭ ‬ننخرط‭ ‬فى‭ ‬اللعب‭ ‬والحركة‭ ‬حتى‭ ‬نستطيع‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬لسعاته‭ ‬القارسة‭. ‬على‭ ‬بعد‭ ‬عدة‭ ‬أمتار‭ ‬امرأة‭ ‬وحيدة‭ ‬تقف‭ ‬متكئة‭ ‬على‭ ‬سور‭ ‬الكورنيش،‭ ‬مستغرقة‭ ‬فى‭ ‬تفكير‭ ‬عميق،‭ ‬غير‭ ‬منتبهة‭ ‬لشىء‭. ‬على‭ ‬فترات‭ ‬متقطعة‭ ‬كنت‭ ‬أختلس‭ ‬النظر‭ ‬إليها،‭ ‬معتقدًا‭ ‬أنها‭ ‬إحدى‭ ‬موظفات‭ ‬التلفزيون‭. ‬حيث‭ ‬المبنى‭ ‬الشهير‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬المواجه‭. ‬وأنها‭ ‬تنتظر‭ ‬سيارة‭ ‬الوردية‭ ‬لتوصيلها‭ ‬إلى‭ ‬منزلها،‭ ‬فهناك‭ ‬نوبتجيات‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة،‭ ‬لكن‭ ‬مر‭ ‬وقت‭ ‬وهى‭ ‬لم‭ ‬تبارح‭ ‬مكانها‭. ‬محتفظة‭ ‬بتعابير‭ ‬ثابتة‭ ‬على‭ ‬ملامحها‭.‬

لا‭ ‬أدرى،‭ ‬لماذا‭ ‬استبد‭ ‬بى‭ ‬قلق‭ ‬طارئ،‭ ‬جعلنى‭ ‬أتابعها‭ ‬بتركيز‭ ‬مبهم،‭ ‬بعدما‭ ‬لمحت‭ ‬شخصًا‭ ‬يحاول‭ ‬الاقتراب‭ ‬منها‭ ‬ويتحدث‭ ‬إليها،‭ ‬ظننت‭ ‬أنه‭ ‬زميل‭ ‬لها،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تبادله‭ ‬الحوار‭ ‬منصرفة‭ ‬إلى‭ ‬صمتها،‭ ‬حتى‭ ‬اختفى‭ ‬الرجل‭.‬

حسونة،‭ ‬شديد‭ ‬الملاحظة،‭ ‬هتف‭ ‬قائلًا‭:‬

‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬لها‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬هنا‭.‬

‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬تنتظر‭ ‬أحدًا‭. ‬قال‭ ‬جلال‭ ‬فاروق‭.‬

‭ ‬مصطفى‭ ‬عبدالكريم،‭ ‬الذى‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يثأر‭ ‬لكَمِّ‭ ‬الضربات‭ ‬العنيفة‭ ‬التى‭ ‬نالها‭ ‬أثناء‭ ‬اللعب،‭ ‬حاول‭ ‬صرفنا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬المفاجئ،‭ ‬فتغافلنا‭ ‬أمرها،‭ ‬تجاوبًا‭ ‬معه،‭ ‬لكن‭ ‬حدث‭ ‬شىء‭ ‬شديد‭ ‬الغرابة،‭ ‬لقد‭ ‬ألقت‭ ‬بنفسها‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭. ‬النيل‭ ‬هنا‭ ‬غير‭ ‬بقية‭ ‬أنهار‭ ‬العالم،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬بلا‭ ‬قاع‭ ‬بعد‭ ‬خطوة‭ ‬واحدة‭.‬

‭ ‬شباب‭.‬

‭ ‬صرخت‭ ‬وأنا‭ ‬أجرى‭ ‬قافزًا‭ ‬فوق‭ ‬الحاجز،‭ ‬ثم‭ ‬متدحرجًا‭ ‬على‭ ‬المنحدر‭ ‬الحجرى‭ ‬المائل،‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬تدخل‭ ‬بطيئًا‭ ‬إلى‭ ‬عرض‭ ‬النهر،‭ ‬مسرعًا‭ ‬كنت‭ ‬وراءها،‭ ‬بحذائى‭ ‬وملابسى‭.‬

‭ ‬ناديتها‭:‬

‭ ‬أنت‭!‬

‭ ‬كانت‭ ‬العتمة‭ ‬تفرض‭ ‬مظهرًا‭ ‬مهيبًا‭.‬

‭ ‬عاودت‭ ‬النداء‭:‬

‭ ‬أنت‭!‬

‭ ‬لا‭ ‬شىء،‭ ‬لا‭ ‬نأمة،‭ ‬لا‭ ‬التفاتة‭ ‬من‭ ‬جانبها‭ ‬لاكتشاف‭ ‬مصدر‭ ‬الصوت،‭ ‬كانت‭ ‬تشق‭ ‬لها‭ ‬مسارًا‭ ‬بدأب‭ ‬ولامبالاة‭. ‬أخيرًا،‭ ‬استطعت‭ ‬اللحاق‭ ‬بها،‭ ‬أطبقت‭ ‬على‭ ‬ذراعها‭ ‬لأمنع‭ ‬توغلها‭. ‬التفتت‭ ‬إليَّ‭ ‬مصعوقة،‭ ‬رشقتنى‭ ‬بنظرة‭ ‬زرعت‭ ‬فىَّ‭ ‬ارتيابًا‭ ‬شديدا،‭ ‬داهمنى‭ ‬معها‭ ‬إحساس‭ ‬بأنى‭ ‬وقعت‭ ‬فريسة‭ ‬لعروس‭ ‬النهر،‭ ‬تلك‭ ‬الجنية‭ ‬الماكرة،‭ ‬وأنها‭ ‬صنعت‭ ‬تلك‭ ‬الألاعيب‭ ‬لإغوائى،‭ ‬وأخذى‭ ‬للعيش‭ ‬معها‭ ‬تحت‭ ‬الماء‭. ‬تأكد‭ ‬شعورى‭ ‬هذا‭ ‬بعدما‭ ‬جذبتنى‭ ‬بقوة‭ ‬غير‭ ‬طبيعية‭. ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء‭ ‬المضطربة‭ ‬أنقذتنى‭ ‬يد‭ ‬أخرى،‭ ‬لحقت‭ ‬بى،‭ ‬وبدأت‭ ‬تجذبنى‭ ‬إليها‭. ‬كانت‭ ‬يد‭ ‬حسونة‭ ‬تقبض‭ ‬على‭ ‬معصمى‭:‬

‭ ‬تعالَ‭ ‬هنا‭.‬

‭ ‬عندما‭ ‬انتبهت‭ ‬إليه،‭ ‬عاينت‭ ‬مشهدًا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬نسيانه،‭ ‬كان‭ ‬مصطفى‭ ‬عبدالكريم‭ ‬يقبض‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬حسونة،‭ ‬وجلال‭ ‬فاروق‭ ‬يقبض‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬مصطفى،‭ ‬طابور‭ ‬بشرى،‭ ‬يحاول‭ ‬إنقاذى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأسر‭.‬

‭ ‬اتركنى‭.‬

‭ ‬قالت‭ ‬بنبرة‭ ‬كسيرة‭.‬

‭ ‬تعالىْ‭ ‬هنا‭.‬

‭ ‬جذبتها‭ ‬بقوة،‭ ‬ساحبًا‭ ‬إياها‭ ‬إلى‭ ‬الشط‭.‬

‭ ‬بعد‭ ‬خروجها،‭ ‬ولجوئها‭ ‬إلى‭ ‬الراحة‭ ‬قليلًا،‭ ‬دخلت‭ ‬فى‭ ‬نوبة‭ ‬بكاء،‭ ‬انتبهنا‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬ينظرون‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬السور،‭ ‬لا‭ ‬أدرى‭ ‬متى‭ ‬تجمعوا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬من‭ ‬السرعة،‭ ‬بعدها،‭ ‬حضرت‭ ‬سيارة‭ ‬شرطة،‭ ‬يقودها‭ ‬ضابط‭ ‬صغير،‭ ‬صعدنا‭ ‬جميعًا‭ ‬معه،‭ ‬بملابسنا‭ ‬المبللة،‭ ‬كنا‭ ‬ننتفض‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬فى‭ ‬داخل‭ ‬السيارة،‭ ‬بينما‭ ‬هى‭ ‬منكمشة‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬غائبة‭ ‬عما‭ ‬يدور‭ ‬حولها‭.‬

‭ ‬فى‭ ‬قسم‭ ‬الشرطة،‭ ‬تم‭ ‬توجيه‭ ‬عدة‭ ‬أسئلة،‭ ‬روينا‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬بينما‭ ‬هى‭ ‬ظلت‭ ‬محتفظة‭ ‬بصمتها‭. ‬هناك،‭ ‬فى‭ ‬النور،‭ ‬وجدناها‭ ‬جميلة،‭ ‬جميلة‭ ‬جدًّا‭ ‬ورائعة،‭ ‬عينان‭ ‬تشعان‭ ‬ببريق‭ ‬غريب،‭ ‬لكنهما‭ ‬مسكونتان‭ ‬ببؤس‭ ‬سديمى،‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬له‭.‬

‭ ‬أمر‭ ‬الضابط‭ ‬بتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى‭ ‬القريب،‭ ‬تم‭ ‬الكشف‭ ‬عليها،‭ ‬وحقنها‭ ‬بمادة‭ ‬أخرجتها‭ ‬عن‭ ‬صمتها‭ ‬المطبق،‭ ‬لتستغرق‭ ‬فى‭ ‬نشيج‭ ‬متقطع‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭.‬

‭ ‬ما‭ ‬اسمك؟

‭ ‬أجابت‭ ‬بصوت‭ ‬خافت‭. ‬كان‭ ‬اسمها‭ ‬مطابقًا‭ ‬لاسم‭ ‬مذيعة‭ ‬شهيرة‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭.‬

‭ ‬ما‭ ‬الأمر‭ ‬إذن؟

‭ ‬أمام‭ ‬طوفان‭ ‬الأسئلة،‭ ‬أخذت‭ ‬تحكى‭ ‬باقتضاب‭ ‬عن‭ ‬زوج‭ ‬قاسٍ،‭ ‬يضربها‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬ليلة،‭ ‬ويعاملها‭ ‬كعبدة‭.‬

‭ ‬أين‭ ‬أهلك؟

‭ ‬إنهم‭ ‬يرتعدون‭ ‬منه،‭ ‬يعيدوننى‭ ‬إليه،‭ ‬كلما‭ ‬لجأت‭ ‬إليهم‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬تتحدث‭ ‬بنبرة‭ ‬مقهورة،‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬الاسترسال‭ ‬فى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التفاصيل،‭ ‬لتستسلم‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬الانكماش‭ ‬الحزين‭. ‬بدا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬الخوض‭ ‬فيه‭ ‬وكشفه‭ ‬على‭ ‬الملأ،‭ ‬فتوقفت‭ ‬وهى‭ ‬تخفق‭ ‬بشدة‭.‬

‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر،‭ ‬قررنا‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬مسكن‭ ‬أسرتها،‭ ‬لنعلمهم‭ ‬بمكانها،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معنا‭ ‬ما‭ ‬يكفى‭ ‬من‭ ‬النقود،‭ ‬ولكننا‭ ‬جازفنا،‭ ‬أوقفنا‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة،‭ ‬السائق‭ ‬الذى‭ ‬استمع‭ ‬إلى‭ ‬الحكاية‭ ‬كلها‭ ‬وتعاطف‭ ‬معنا،‭ ‬بادرنا‭ ‬عند‭ ‬النزول‭:‬

‭ ‬الأجرة‭.‬

‭ ‬رد‭ ‬مصطفى‭:‬

‭ ‬أجرك‭ ‬عند‭ ‬الله‭.‬

‭ ‬نعم؟

‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬نقود‭ ‬معنا‭.‬

‭ ‬ما‭ ‬ذنبى؟

‭ ‬قال‭. ‬ثم‭ ‬انطلق‭ ‬وهو‭ ‬يصب‭ ‬لعناته‭ ‬وشتائمه‭ ‬القاسية‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬شارعًا‭ ‬فرعيًّا،‭ ‬وصلنا‭ ‬إليه‭ ‬بسهولة‭. ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬مارة،‭ ‬لكنا‭ ‬لمحنا‭ ‬شبحًا‭ ‬مسنًّا‭ ‬يتدثر‭ ‬بمعطف‭ ‬ثقيل،‭ ‬ويعتمر‭ ‬شالاً‭ ‬صوفياً‭  ‬ثقيلاً،‭ ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬متجمدًا‭ ‬بجواره‭ ‬شاب‭ ‬صغير،‭ ‬عندما‭ ‬اقتربنا‭ ‬منهما،‭ ‬سألنا‭ ‬عن‭ ‬البيت،‭ ‬فصاح‭ ‬الرجل‭ ‬متلهفًا‭:‬

‭ ‬ابنتى،‭ ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬جرى‭ ‬لها؟

‭ ‬ثم‭ ‬استدرك‭ ‬سريعًا،‭ ‬مداريًا‭ ‬ارتباكه‭:‬

‭ ‬تعالوا‭.‬

‭ ‬قادنا‭ ‬إلى‭ ‬منزله‭.‬

‭ ‬فى‭ ‬الداخل،‭ ‬روينا‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬كانت‭ ‬الأم‭ ‬منزوية‭ ‬فى‭ ‬ركن‭ ‬بعيد،‭ ‬معها‭ ‬فتاة،‭ ‬واضح‭ ‬أنها‭ ‬ابنتها‭. ‬كانتا‭ ‬تستمعان‭ ‬إلينا‭ ‬صامتتين،‭ ‬بين‭ ‬لحظة‭ ‬وأخرى‭ ‬تنطلق‭ ‬دعوات‭ ‬الأم‭ ‬على‭ ‬زوج‭ ‬ابنتها‭ ‬وهى‭ ‬ترتجف‭ ‬ساخطة‭. ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء،‭ ‬حضر‭ ‬أيضًا‭ ‬أحد‭ ‬الأبناء‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬علمنا‭ ‬أنه‭ ‬عائد‭ ‬للتو‭ ‬من‭ ‬رحلة‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬شقيقته‭. ‬طمأنه‭ ‬الأب‭ ‬سريعًا،‭ ‬ولكن‭ ‬الشاب‭ ‬الصغير‭ ‬الذى‭ ‬يبدو‭ ‬عليه‭ ‬أنه‭ ‬أصغر‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة،‭ ‬صاح‭ ‬فيهم‭:‬

‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إنهاء‭ ‬هذه‭ ‬الزيجة‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬اتجه‭ ‬بعينيه‭ ‬إلى‭ ‬شقيقه‭ ‬الأكبر‭:‬

‭ ‬أنت‭ ‬السبب،‭ ‬كنت‭ ‬تظن‭ ‬أنك‭ ‬تصاهر‭ ‬أحد‭ ‬الملوك‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬يواجهه‭ ‬بنبرة‭ ‬غاضبة،‭ ‬تقطر‭ ‬كراهية،‭ ‬جلبت‭ ‬معها‭ ‬شجارًا‭ ‬عنيفًا،‭ ‬وصياحًا‭ ‬مخلوطًا‭ ‬بالهذيان‭.‬

‭ ‬الوالدان،‭ ‬كانا‭ ‬يتحدثان‭ ‬بلهجة‭ ‬ريفية‭ ‬موسومة‭ ‬بالطيبة‭ ‬رغم‭ ‬الانفعالات‭ ‬الطارئة‭. ‬مع‭ ‬تصاعد‭ ‬الفوضى،‭ ‬اخترق‭ ‬الصالة‭ ‬مارد‭ ‬ضخم،‭ ‬توسط‭ ‬المكان‭ ‬من‭ ‬فوره،‭ ‬فران‭ ‬صمت‭ ‬عميق‭ ‬مع‭ ‬ظهوره‭ ‬المفاجئ،‭ ‬سكن‭ ‬كل‭ ‬شىء،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أصابنا‭ ‬بالتوتر،‭ ‬كان‭ ‬رجلًا‭ ‬طويلا،‭ ‬ذا‭ ‬مظهر‭ ‬قمعى‭ ‬متغطرس‭.‬

‭ ‬هل‭ ‬وجدتموها؟

‭ ‬جملة‭ ‬واحدة،‭ ‬صدرت‭ ‬عنه،‭ ‬جعلت‭ ‬الغرفة‭ ‬تعبق‭ ‬برائحة‭ ‬كحول‭ ‬نفاذة،‭ ‬كان‭ ‬مخمورًا،‭ ‬لكنه‭ ‬رابط‭ ‬الجأش،‭ ‬ومتماسك‭ ‬بشكل‭ ‬ملحوظ‭. ‬

‭ ‬انتبه‭ ‬إلينا‭.‬

‭ ‬من‭ ‬هؤلاء؟

‭ ‬هؤلاء‭ ‬من‭ ‬أنقذوا‭ ‬زوجتك‭ ‬من‭ ‬الانتحار‭.‬

‭ ‬أجاب‭ ‬الشاب‭ ‬الصغير،‭ ‬بنبرة‭ ‬مستفزة‭. ‬لكن‭ ‬الأخير‭ ‬صوب‭ ‬إليه‭ ‬نظرة‭ ‬جمدته‭ ‬فى‭ ‬مكانه‭ ‬وأسلمته‭ ‬إلى‭ ‬الخرس‭ ‬المؤقت‭. ‬فتبرعت‭ ‬بإخباره‭ ‬على‭ ‬مضض‭ ‬بما‭ ‬حدث‭.‬

‭ ‬لنذهب‭ ‬الآن‭.‬

‭ ‬قال‭ ‬وهو‭ ‬ينطلق‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬تشيعه‭ ‬نظرات‭ ‬الغضب‭ ‬والكراهية‭ ‬التى‭ ‬تغلى‭ ‬فى‭ ‬الصدور‭. ‬كانت‭ ‬لديه‭ ‬سيارة‭ ‬فخمة‭. ‬صعدنا‭ ‬معه،‭ ‬وركب‭ ‬أصهاره‭ ‬سيارة‭ ‬أخرى،‭ ‬ومضوا‭ ‬خلفنا‭. ‬كان‭ ‬لا‭ ‬مباليًا،‭ ‬كثير‭ ‬الاعتداد‭ ‬بنفسه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الغرور،‭ ‬لديه‭ ‬إحساس‭ ‬باطنى‭ ‬بخطورته‭.‬

‭ ‬فى‭ ‬الطريق،‭ ‬وأثناء‭ ‬قيادته‭ ‬المتهورة،‭ ‬قام‭ ‬بوضع‭ ‬شريط‭ ‬غنائى‭ ‬داخل‭ ‬كاسيت‭ ‬السيارة،‭ ‬وراح‭ ‬يستمع،‭ ‬ويدندن‭ ‬بحس‭ ‬ساخر،‭ ‬بدأ‭ ‬معه‭ ‬مزاجنا‭ ‬فى‭ ‬التعكر‭. ‬

‭ ‬بادره‭ ‬حسونة‭ ‬محتدًّا‭:‬

‭ ‬يبدو‭ ‬أنك‭ ‬رايق‭ ‬جدًّا‭.‬

‭ ‬واصل‭ ‬الغناء‭ ‬دون‭ ‬مبالاة،‭ ‬مندمجًا‭ ‬مع‭ ‬صوت‭ ‬المطرب‭ ‬الشعبى‭ ‬الذى‭ ‬يشبهه‭ ‬كثيرًا‭.‬

‭ ‬بادرنا‭ ‬بعد‭ ‬هنيهة‭:‬

‭ ‬ماذ‭ ‬كنتم‭ ‬تفعلون‭ ‬عند‭ ‬الكورنيش؟

‭ ‬برغبة‭ ‬شديدة‭ ‬فى‭ ‬مضايقته،‭ ‬باغته‭ ‬جلال‭:‬

‭ ‬كنا‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬نسوان‭!‬

‭ ‬شعر‭ ‬بالصدمة،‭ ‬ولكنه‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬رجل‭ ‬خفيف‭ ‬الظل،‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬رغبته‭:‬

‭ - ‬عاش‭. ‬قال‭...‬

‭ ‬ربما‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬استعراض‭ ‬قوته‭ ‬لن‭ ‬يفيد‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الظروف،‭ ‬فهو‭ ‬يواجه‭ ‬فتية‭ ‬غاضبين‭.‬

‭ ‬عندما‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬قسم‭ ‬الشرطة،‭ ‬ارتج‭ ‬للحظات،‭ ‬ولكنه‭ ‬تفادى‭ ‬ذلك‭ ‬سريعًا،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬عليه‭ ‬الارتباك‭. ‬لم‭ ‬نشأ‭ ‬الذهاب،‭ ‬انتحى‭ ‬مصطفى‭ ‬عبدالكريم‭ ‬بالضابط،‭ ‬أخبره‭ ‬أن‭ ‬الزوج‭ ‬سكران،‭ ‬وأنه‭ ‬بلطجى‭ ‬كبير‭ ‬فى‭ ‬منطقته،‭ ‬والجميع‭ ‬يشعرون‭ ‬بالرعب‭ ‬منه‭. ‬فرد‭ ‬عليه‭ ‬بنبرة‭ ‬حاسمة‭: ‬

‭ ‬هذا‭ ‬عملنا‭.‬

كتب: صابر رشدى

السيدة‭ ‬الجميلة،‭ ‬كانت‭ ‬مثار‭ ‬عطف‭ ‬الجميع،‭ ‬وإعجابهم‭ ‬المبطن،‭ ‬كانت‭ ‬محاطة‭ ‬برعاية‭ ‬حانية،‭ ‬أجلسوها‭ ‬بغرفة‭ ‬الاتصالات،‭ ‬وقاموا‭ ‬بتشغيل‭ ‬موقد‭ ‬كهربائى‭ ‬بالقرب‭ ‬منها،‭ ‬ليجلب‭ ‬إليها‭ ‬دفئا‭ ‬مناسبًا،‭ ‬وأخذوا‭ ‬يقدمون‭ ‬إليها‭ ‬مشروبات‭ ‬ساخنة،‭ ‬كوبًا‭ ‬وراء‭ ‬الآخر‭.‬

‭ ‬فى‭ ‬لحظة‭ ‬خاطفة،‭ ‬وبينما‭ ‬كنا‭ ‬نستعد‭ ‬للانصراف،‭ ‬اهتز‭ ‬المكان‭ ‬تحت‭ ‬وقع‭ ‬هدير‭ ‬عاصف،‭ ‬كان‭ ‬الزوج‭ ‬المخمور‭ ‬يجأر‭ ‬مستغيثًا،‭ ‬صارخًا‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭:‬

‭ ‬أحبك،‭ ‬أخبريهم‭ ‬بأنى‭ ‬أحبك‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬يعوى‭ ‬بارتجاف‭ ‬جنسى‭ ‬متحشرج،‭ ‬يتمشى‭ ‬فى‭ ‬حنجرته‭ ‬بعصبية‭ ‬واضحة،‭ ‬كأنه‭ ‬معلق‭ ‬فى‭ ‬أنشوطة‭ ‬الموت،‭ ‬ذليلًا،‭ ‬محطمًا،‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سوى‭ ‬الخضوع،‭ ‬وإطلاق‭ ‬الوعود‭ ‬السرابية‭ ‬بانفعالات‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬المعنى‭. ‬كاد‭ ‬ينهار،‭ ‬متحولا‭ ‬إلى‭ ‬أنقاض‭ ‬تحت‭ ‬وقع‭ ‬اللطمات‭ ‬المتتالية‭. ‬بينما‭ ‬المرأة‭ ‬تبكى‭ ‬صامتة،‭ ‬مطرقة‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬حينا،‭ ‬ومثبتة‭ ‬عينيها‭ ‬إلى‭ ‬الفراغ‭ ‬حينا‭ ‬آخر،‭ ‬تتأمل‭ ‬فى‭ ‬اللاشىء‭ ‬وتسهو‭. ‬كان‭ ‬اتقاد‭ ‬دمها‭ ‬محض‭ ‬تلخيص‭ ‬لحياتها‭. ‬وكانت‭ ‬تسطع‭ ‬برقة‭ ‬حزينة،‭ ‬وجمال‭ ‬أبكم‭ ‬لن‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬أذهاننا‭ ‬أبدًا‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة