هالة العيسوي
هالة العيسوي


من وراء النافذة

ضع نفسك مكانهم

هالة العيسوي

الأربعاء، 13 يناير 2021 - 08:17 م

 

الزمان: مساء يوم من أيام أشد فترات الكورونا ضراوة وفتكًا

المكان: مركز شهير للأشعة التشخيصية يحتل طابقًا متوسطًا فى بناية فاخرة بالقاهرة،

مصعدان صغيران يتصدران مدخل البناية أحدهما مشفر ومخصص لسكانها، والآخر متاح لرواد العيادات والمراكز الطبية عليه لافتة تحظر دخول المصعد دون ارتداء الكمامة الواقية. مع اشتداد الضائقة صارت غالبية الناس تلتزم بالتحذيرات وترتدى الكمامة.

باب شقة المركز الطبى مفتوح، يكاد أن يكون هو المصدر الوحيد للتهوية والتنفس. الردهة الرئيسية تعج بالبشر المتلاصقين على المقاعد، لا مجال للتباعد المكانى، ومن أراد الابتعاد وتجنب التلاصق فضّل الوقوف والتنقل من آن لآخر بين داخل الشقة وخارجها. مكتب الاستقبال فى آخر الشقة على أبعد نقطة من المدخل، بحيث يضطر المريض إلى اجتياز صفوف البشر الواقفين والمقاعد المتراصة حتى يصل إلى مكتب الاستقبال ويحظى بإجابة عن سؤال أو حجز موعد لفحصه.

دقائق الانتظار طويلة ومملة قد تناهز الساعة أو تتجاوزها. يتشاغل البعض بالتهامس، وآخرون بمطالعة هواتفهم النقالة، والبعض يجول بناظريه يحاول أن يتفرس وجوه البشر المخفية وراء الكمامات. الموجودون جميعهم إما مرضى أو مصاحبون لهم.

فجأة وسط هذا الجو الرتيب الخانق يعلو صوت موظف الاستقبال وهو يتلقى بيانات أحد المرضى بسؤال عدوانى: «اشتباه كورونا؟»

الحيرة والارتباك يبدوان على صوت الرجل المتهدج، تخرج الإجابة منه خجولة ومرتعشة: أ أ يوة. يجول بناظريه يمينًا ويسارًا ليستكشف مدى افتضاح أمره. ويسأل المسكين بتردد: «هى الأشعة المقطعية على الصدر يعنى اشتباه كورونا؟»

يرد الموظف بحسم: أيوة!

على الفور سادت الهمهمات وظهرت أمارات القلق والتوتر على العيون الشاخصة من خلف الكمامات، وتحركات مترددة رغبة فى القيام والمغادرة وتساؤلات صامتة فى العيون: ماذا نفعل؟ كيف نبتعد؟ على مدى ثلاثة أرباع ساعة انتظارى دخل ثلاثة مرضى آخرون بنفس الحالة، ويتكرر المشهد؛ الموظف بصوته الجهورى يعلن: «اشتباه كورونا، أشعة مقطعية على الصدر».. ثم يسأل ليتيقن من فراسته: «ما هى الأعراض؟».

من فرط خجلهم يتمنى أصحاب حالات الاشتباه التوارى عن الأنظار، أن تنشق الأرض وتبتلعهم، أن يبتعدوا قدر الإمكان حتى لا تواجههم نظرات قاسية أو مرتعبة أو حتى مشفقة، لكن للأسف لا فضاء للابتعاد.

لا حول ولا قوة إلا بالله.

حمدا لله أن تخلصنا من سلوكيات التنمر الجهولة والاعتداء على الأحياء والأموات، لكن الخوف والقلق مازالا يسكنان النفوس. لا ملامة على هذه المشاعر، اللوم فقط على المبالغة فى طريقة التعبير عنها. لا أنكر أن القلق أصابنى لوهلة، ثم قلت لنفسى: ماذا لو كنتِ مكانهم فى هذا الموقف العصيب؟ إن المرض والشفاء من عند الله سبحانه وتعالى، ثم إنها حالات اشتباه، لم تتأكد بعد. ليعود شيطانى يراودنى: «وماذا لو كانت إيجابية؟». وتنتصر النفس المطمئنة تربت على قلبى: «مرة أخرى ماذا لو كنت مكانهم؟ هل بيدك حيلة لتلافى هذا الوضع؟» لكن هل كان من الضرورى أن يجأر الموظف هكذا؟ لماذا يضعهم فى هذا الحرج وكأنه يفضحهم؟ هل كان يقصد تحذير الجالسين؟ وهل بيد هؤلاء إلا الصبر على الانتظار الممل، أو المغامرة بفقدان موعد سبق حجزه بشق الأنفس.

من المؤكد أن ثمة ترتيبات وإجراءات تنظيمية كان من الواجب على هذا المركز وغيره اتباعها لتقليل المخاطر، كتخصيص مكان انتظار للأشعة المقطعية على الصدر، وتحسين التهوية، وتدقيق المواعيد المحجوزة مسبقًا لتخفيض التكدس البشرى قدر المستطاع، والتنبيه على المرضى أن أى تأخير عن الموعد المحجوز سيفقدهم دورهم بحيث تخصص أماكن الانتظار فقط لمن حان موعد فحصهم، مع تنظيف أماكن الانتظار بالمطهرات.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة