د. أيمن منصور ندا
د. أيمن منصور ندا


يوميات الأخبار

ذهب ما أعطيتموه وبقى ما أعطاكم!

الأخبار

الإثنين، 18 يناير 2021 - 09:16 م

 

يكتبها اليوم/ د.أيمن منصور ندا

بمجرد أن تمنح أحدهم لقباً يتمناه يعتبره حقاً لا يجوز الاستغناء عنه أو التفريط فيه

يقال إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب التقى ابناً لأحد مشاهير قريش فى الجاهلية (هرم بن سنان)، وكان جواداً حكيماً مدحه الشاعر "زهير بن أبى سلمى" فى معلقته الشهيرة.. فقال له عمر: "كان زهير يُحسن فيكم القول". قال ابن هرم: "ونحن كنا نحسن العطاء".. فقال عمر: "ذهب ما أعطيتموه وبقى ما أعطاكم".. معادلة الفرق بين العطاء والأخذ، بين ما يبقى وينفع، وما يذهب ويتغير متفاوتة منذ أمد بعيد.. لدى كثير منَّا شعور دائم بأنه يقدم للآخرين ما يبقى، ويأخذ منهم ما يذهب.. حساب الفرق بين ما نعطيه من مشاعر وأحاسيس وأحيانا قيمة أدبية باقية، وما نأخذه من أموال وقيمة مادية هو"قسمة ضيزى" فى أغلب الأحيان..

الشعور بالظلم والغبن هو شعور مشروع ما دامت له مبرراته، والرغبة فى تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر أمر مفهوم ما دام لا يسبب ظلماً لأحد، غير أنه لا ينطبق فى كل المجالات.. علاقة الفرد بالجماعة التى ينتمى إليها، وبالوطن الذى يعيش فيه، ينبغى ألا تخضع لهذه العلاقة.. المجتمع ليست "شقة للإيجار" لمن يدفع أكثر، والوطن ليس عقاراً قابلاً لنقل الملكية بين الأفراد.. وطريقة التعامل مع الوطن لا يجب أن تكون بالقطعة أو باليومية!اتعجب ممن يمنّون على الوطن بتضحياتهم، وأتعجب ممن يطالبونه بالمقابل.. عقد المزادات و"لم النقطة" على حساب الوطن أمر غير جائز.. ما عدا الوطن، قيِّم ما تعطيه كما تشاء : "بلادى وإن جارت عليّ عزيزة.. وقومى وإن ضنّوا عليّ كرام".... للروائى الإسبانى الشهير "ميجيل دى ثيربانتس" مقولة شهيرة "ليصمت من أعطى وليتكلم من أخذ": الذين يعطون ويقدمون التضحيات لا يتحدثون.. عبارة "البلد إديتنا إيه؟" يجب حذفها من قاموسنا.. وجملة "شوفوا إحنا عملنا إيه للبلد دى" لا ينبغى استخدامها.. فما فائدة أن تعطى وتأخذ وأنت بلا وطن..

وكما أن هناك إتيكيتاً لكل شيء، فإن هناك إتيكيتاً خاصاً بالأخذ والعطاء.. والإخلال بشروطهما يفسد معناهما.. كان شكسبير يقول "لأنكم لم تتحلوا بتواضع التلقي، فلم أحظ أنا ببهجة العطاء".. مفهوم "حسنة وأنا سيدك" غير صالحة.. وفكرة أن هناك بعض الأشخاص سعادتهم فى العطاء بلا مقابل (كأنك تعطيه الذى أنت آخذ) غير قائمة.. الدنيا "خد وهات".. وبلا تعادل بينهما لا يستقيم الوضع.. وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟

عميد كتّاب المسرح العربي توفيق الحكيم له وجهة نظر مشهورة لخصها فى كتابه "التعادلية".. والتى يعرفها على أنها التوازن بين الحساب والعقاب، وبين الفكر والعمل، وأن تكون قيمة ما نعطى مساوية لما نأخذ، وقيمة ما نأخذ متعادلة مع ما نعطي، وعلى حد تعبيره "الجاذبية هى أساس التعادل، لأن الجاذبية تعنى وجود قوتين، والتعادل يعنى المحافظة على بقاء القوتين دون أن تتلاشى إحداهما فى الأخرى"..

فى الثقافة الهندية يقولون: "الرجل الحكيم يعطى فوراً..والرجل الأكثر حكمة يرفض فوراً".. والفورية تحقق التعادلية والمساوة بينهما..

فُقَّاعة المديوكر!

لا أعرف الترجمة العربية الدقيقة للكلمة الإنجليزية (mediocre).. البعض يترجمها على أنَّها "متوسط"، أو "عادى" أو "بين بين"، أو "باهت".. أميل إلى ترجمتها بمعنى "يمشى بالعافية" أو أنه "مقبول على الحركرك".. وأعتبرها أدقَّ كلمة ومصطلح لوصف جوانب عديدة مما نراه فى حياتنا المعاصرة.. عندما يكون الأمر سيئاً لكنه "مش أوحش حاجة"،أويكون جيداً ولكنه "مش أحسن حاجة"، فى هذه الحالة نكون "عايشين" فى فقَّاعة "المديوكر" التى تجعلنا نشعر بالاطمئنان من ناحية، وتدفعنا إلى الاستمرار فى المعافرة الحياتية من ناحية أخرى.فى العلوم الاجتماعية، يشيرون إلى "الميم" Meme وهو شيء أشبه "بالجين" Gene فى الأحياء.. فإذا كانت الجينات الوراثية تحدد شكل الشخص وخصائصه البيولوجية، فإن "الميمات" تحدد خصائصه الثقافية ومعاييره الحضارية.. وكما أنَّه قد يحدث "خلل جيني" لبعض الأشخاص، قد يحدث "خلل ميمي" نتيجة انتشار بعض الفيروسات الثقافية.. العيش فى فقاعة المديوكر أحد هذه الفيروسات الثقافية.. وهو فيروس لم يتم اكتشاف اللقاح المناسب له حتى الآن. الميم المسبب لثقافة قبول المديوكر متحور بشدة، وسلالاته عصية على الخضوع.. ولذا، فهى تحتاج إلى جهود مستمرة، وتحتاج إلى قدرات خاصة وإمكانيات فائقة للسيطرة عليها..فى فقاعة المديوكر، شئنا أم أبينا، نحن نرضى بالدنية من أمرنا..الرضا بالحد الأدنى من كل شيء، خاصة ما يتعلق بالعمل.. فى هذه الفقاعة، تتباعد المسافات بين التوقع والواقع، بين القول والعمل، بين ما تسعى إليه وما تحصل عليه، ولا نملك إلا الغناء "أنت فى صمتك مرغم..أنت فى صبرك مكره".. والنتيجة المؤكدة: إحباط وتذمر وسخط وعدم رضا : متلازمة أعراض بعضها من بعض..فقاعة المديوكر مرتبطة ببعض الخصائص الوافدة التى طرأت على الشخصية المصرية فى العقود الأخيرة.. انتشار الفهلوة وسَّع من حجم هذه الفقاعة وأسهم فى انتفاخها."اللهوجة" وعدم الصبر كان لهما دور كبير.. يقولون "إن من يتقن الصبر يتقن كلَّ شيء"، ونحن دائماً فى عجلة من أمرنا، وكيف نصبر على ما لم نحط به خبراً؟.. "اللى ما يعرفش يقول عدس، واللى ما يصبرش يرضى بالمديوكر".. بيوتنا القديمة كانت قطعة "أويما" أو "أرابيسك" تصنع على أعيننا.. الاهتمام بالتفاصيل كان مكوناً رئيساً من مكونات جمالها.. بيوتنا الآن تجميع صيني.. تايواني.. فالصو.. وكذلك كثير من ميماتنا الحياتية..معايير الجودة الفائقة ليست من أولوياتنا.. الجودة لدينا ورقية، نجيد تستيف أوراقها فى كل مكان يتطلبه، دون أن يعنى ذلك وجودها على أرض الواقع.. وللخروج من فقاعة المديوكر، نحن بين خيارين أحلاهما مر: التوقف وتعليق الحياة اليومية لأجل غير مسمى، أو النحت فى الصخر لفترة قد تمتد وتطول بحثاً عن قيمة أعلى مقبولة ويمكن تحقيقها.. والبديل الثالث الآمن هو الرضابالعيش فى فقاعة المديوكر وهو الاختيار المر..

أهلا يا أستاذنا!

بسبب نشأتى الريفية، وقضائى سنوات طفولتى الأولى فى "كُتَّاب" القرية، فقد درجت على مناداة الشيخ "سيدنا"، دون أن يضفى هذا اللقب أى نوع من القداسة على صاحبه أو يعنى أى نوع من الخضوع والتبعية بالنسبة لقائله؛ هو مجرد لقب مفرغ من أية دلالة.. وتمر السنوات، وتتباعد المسافات بينى وبين قريتي، وتظل "لزمة" "سيدنا" من لزمات كلامي، وإن تغيرت إلى "أستاذنا"؛ أقولها للكبير وللصغير دون فرق؛ إذ لا تحمل أى معنى بالنسبة لي؛ شأنها شأن "يا كابتن" أو "يا حاج" أو حتى "يا هندسة"!! وإن كان لى أساتذة بالفعل تعجز كل كلمات التبجيل عن الوفاء بحقهم أو عن التعبير عن امتنانى لهم، وهؤلاء الأساتذة الحقيقيون لا يريدون جزاءً ولا شكوراً، وتحسبهم أغنياء عن أى لقب من التعفف.

بعض من أناديهم "أستاذنا" يعتقدون فى نظرية الحقوق المكتسبة.. وفرضية "وضع اليد".. كثير من الألقاب هى ألقاب وضع يد.. بمجرد أن تمنح أحدهم لقباً يتمناه يعتبره حقاً لا يجوز الاستغناء عنه أو التفريط فيه.. كلمة أستاذنا يعتبرها البعض إقراراً تاماً بالأستاذية، واعترافاً صريحاً بها، دون أن يكونوا مؤهلين لها أو مستوفين لشروطها.. أصبحت الأستاذية حقاً مكتسباً لهم وواجباً مستحقاً علينا؛ حتى إن أحدهم كان يقسم بها "وأستاذيتى التى لا أحلف بها باطلاً!"..

ومن سمات هؤلاء، أنهم حريصون كلَّ الحرص على ذكر لقبهم فى كل مناسبة والتأكيد عليه، ومناداة الآخرين مجردين من أى لقب فى المقابل.. صديق لى حصل على درجة علمية بعد معاناة وبمساعدة صديق، عندما يتحدث عن مشرفه وأستاذه الحقيقى يقول "فلان (مجرداً من أى لقب) قال لى يا دكتور إيه رأيك أعمل إيه فى المشكلة دى؟" و"فلان قال أنا بتعلم منك يا دكتور!!".. وعندما يتحدث عن شخص مشهور يميل إلى التأكيد على أن "البساط أحمدى" بينهما، فينادى الشخصية المشهورة باسمه مجرداً أو بعد إضافة كلمة توحى بالقرب والعشم مثل "يا مجرم" أو "طول عمرك ندل" ويناديه الطرف الآخر "مش ممكن خفة دمك يا دكتور!"

بعضهم يعتقد أنه لا أحد جدير بالتفوق إلا إذا كان من خريجى مدرسته.. الناس نوعان: تلاميذ له أو جهلاء، ولا توجد منطقى وسطى بينهم، أو بين الجنة والنار على حد تعبير نزار قباني. أحدهم فى مناسبة عامة جرت مؤخراً كرَّم أساتذته باعتباره كان مُلْهِماً لهم ونبراساً يهتدون به، وكرَّم زملاءه باعتباره "ألفة" لهم وقائداً عليهم، وكرَّم تلاميذه باعتبار أنه "الأستاذ" بالألف واللام وبالتعريف المطلق، وكفى.. المفكر البريطانى برتراند راسل يقول "أحد الأشياء المؤلمة فى عصرنا هذا أن الأغبياء تملؤهم الثقة، أما أصحاب المعرفة فتملؤهم الشكوك والحيرة".. وقد يولد الجهل الثقة لدى أصحابه أكثر مما تولده المعرفة!!

فى مقولة للإمام عليّ كرَّم الله وجهه "إذا وضعت أحداً فوق قدره، فتوقع منه أن يضعك دون قدرك".. وعلى حدّ تعبير أمل دنقل "هى أشياء لا تشترى"، وليست المطالبة بالألقاب ونيلها بالتمني، كما يقول شوقي، وإنما تؤخذ غلاباً فى هذه الأيام للأسف يا أستاذنا!!

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة