الكتاب: الأيام حين تعبر خائفة المؤلف: محمود خيرالله الناشر: هيئة الكتاب
الكتاب: الأيام حين تعبر خائفة المؤلف: محمود خيرالله الناشر: هيئة الكتاب


«الأيام حين تعبر خائفة»: جماليات النوافذ والشُرفات

أخبار الأدب

الخميس، 21 يناير 2021 - 05:49 م

نبدأ من دلالة العنوان «الأيام حين تعبر خائفة»، فالأيام دلالة على الزمن، وهو هنا زمن طويل، «أيام وليست يوماً واحداً»، والأيام بها نهارات وليال، وكأن الأيام تشير هنا إلى العُمر، ذلك الذى يمضى مُفعماً بالخوف، وليست الأيام هنا هى الخائفة، بل الإنسان الذى يلاحظ مرور هذه الأيام، يلاحظ عبورها فى خوف، والعبور هنا «حين تعبر» يعنى الانتقال من مرحلة إلى أخرى، وفى الحالتين الخوف حالة ترتبط بكائن ما، إنسان ما يلاحظ هذه الأيام ويراقبها وهى تعبر خائفة، والخوف انفعال أساسى، يشير إلى أخطار فعلية مُدرَكة أو متخيَّلة، قد يظهر نتيجة للتعرض لمواقف محدثة للصدمات، أو ملاحظتنا أن آخرين يتعرضون لها، وغالباً يصاحب الخوف مشاعر قلق وافتقاد للشعور بالأمن والأمان، مع حالة من الشك والالتباس وفقدان اليقين، وقد يتحوَّل الخوفُ إلى فزعٍ ورعبْ.
فى ديوان «الأيام حين تعبر خائفة»، لمحمود خيرالله سوف نجد هذا الحضور الكثيف للنوافذ والشرفات والعيون، وهكذا علينا أن نقرأ هذا الديوان من خلال هذا المُكوِّن الرئيسى،لأنَّ الديوانَ يحتوى أيضاً على مكوناتٍ أو محاور أساسية أخرى كثيرة، منها تمثيلاً لا حصراً:
ـ المحور الخاص بالخوف والافتقاد
ـ المحور الخاص بالأب،
ـ المحور الخاص بالموت
ـ المحور الخاص بالطفولة
ـ المحور الخاص بالنوافذ والشرفات
ـ المحور الخاص بالمنظور الخطى المعكوس.. إلخ
هناك تجليات كثيرة خاصة بالتفكير البصرى فى هذا الديوان، منها:
1 ـ كتابةُ القصيدة كمشهدٍ أو لوحة
2 ـ اعتمادُ آليات الرسم والتصوير فى كتابةِ القصيدة
3 ـ التراوحُ بين المنظور الخطى (الانتقال من القريب المهم إلى البعيد الأقل أهمية) والمنظور المعكوس (البعيد هو الأكثر أهمية من القريب)، والذى يتم هنا عبر آليات بصرية، وآليات خاصة بالذاكرة أيضاً، «قصيدة يرفرف عارياً» وغيرها.
4 ـ العلاقة بين الملاذ والمشهد، المرصد والمطل، وكما سنوضح ذلك خلال هذه الدراسة فى قصائد كثيرة.
قصيدة «عارياً يتغطى بنافذة»
يكتب محمود خيرالله القصيدة كأنه يرسم لوحة تشكيلية، لا أقصد هنا فقط القول إن القصيدة لديه تشبه اللوحة التشكيلية، بل أقصد أيضاً أنه توجد فى تفاصيل قصائده بعض آليات الرسم للوحات، فهو يبدأ بتفاصيل صغيرة، سرعان ما تتحول إلى مشهد كبير، يبدأ بشكل تخطيط أو اسكتش وداخل الاسكتش أو الخطاطة العامة هذه سرعان ما تتوالد عناصر وتفاصيل القصيدة، واحدة بعد الأخرى:
«احصل على النافذة أولاً
وأنا أضمن لك
أن القمرَ سيأتى صاغراً معها
والنجوم
والشجر سوف يأتي»..
الديوان صفحة 11
هكذا تقول الذات المتكلمة لبعضها أو للقارىء عليك أن تطل فقط على عالمك، أن تبدأ بنافذة بمكان للرؤية، ومن خلال ذلك المكان سترى «وأنا أضمن لك» سترى القمر، سوف يأتى إليك صاغراً سوف يطل عليك لأنه يحتاج إليك، مثلما تحتاج إليه، أنت بالنسبة إليه آخر يحتاج إلى أن يراك تنظر إليه، وبالنسبة إليك آخر، هو دلالة وعلامة، فأنت عندما تنظر إليه سوف تجده ينظر إليك أيضاً، ولسوف تأتى معه النجوم والشجر:
 «إذا جاءك هؤلاء جميعاً
مرة،
صدقني
سيأتى النهر معهم
دائماً..»
المهم أن تبدأ، المهم أن تحصل على نافذة، والنافذة سوف تفتح أمامك أبواب الحياة، سوف تأتى إليك تفاصيلها: القمر والنجوم والشجر والنهر الذى سوف يأتى أيضاً «دائماً من تلقاء نفسه».. المهم أن تبدأ، ذلك المرصد/ الملجأ/ الملاذ/ فى النظر، وسوف يأتى إليك العالم صاغراً من تلقاء نفسه.
تحكى الذات المتكلمة فى هذه القصيدة عن آخر ـ كما فى القصائد كلها تقريباً ـ ربما كان هو قرينها، كان هو الصورة الأخرى منها، الظل المصاحب لها، الذات المضاعفة الموجودة هناك فى المرآة، مرآة الذات أو التخييل، تحكى عن ذلك الآخر الموجود بداخلها، و«الذى كان يخوض فى الخمسين»، وكيف تلك الذات تجده «واقفاً كل يوم ـ أمام نفسه ـ عارياً لا يتغطى سوى بنافذة».
ثم تعود تلك الذات إلى نفسها، إلى حالة من الحضور الخاص كبديل عن ذلك الغياب الإيهامى أو ذلك الإيهام بالغياب، والمتعلق بذلك الرجل الخمسينى،  تقول:
«أنا لا أملك من حطام الدنيا
سوى عينين ونافذة
أرى بهما العالم
الذى يدور فى رأسي».
ما الدلالات المحتملة لهذا الوجود الذى لا يملك صاحبه من حطام الدنيا سوى عينين ونافذة، يرى بهما العالم الذى يدور فى رأسه، إنها دلالات تتعلق بذات منعزلة، ذات متوحدة، ذات منطوية، ذات منسحبة من العالم، من عالم لم يعد لديها ما تملكه فيه سوى الحطام، ولم يعد لديها ما تملكه فيه سوى ذاتها، ولم يعد لديها ما تملكه من هذه الذات سوى عينين ونافذة، ثم تدريجياً نعرف أيضاً أنها ذات متكلمة، بلا بيت ولا أصدقاء وكذلك أن أهلها قد هجروها جميعاً، ولم يبق معها دائماً وإلى النهاية سوى الشرفات، وقد كانت تلك الشرفات تعويضاً عن العالم:
«ذلك الملعون الذى لا أم له
ولا نافذة،
يمنح الحبَ بيدٍ
ويأكلُ بالأخرى خبزَ العاشقين».
العالم ملعون مُصمت خانق، حيث لا أم له ولا نافذة، حيث الأم رمز للإنسانية/ للعطاء/ للحياة «غير موجودة»، والنافذة رمز للرغبة فى الانفتاح على الخارج، وعلى الداخل، والنافذة والشرفة والعين علامات للنظر والرؤية والاطلال على العالم.
هكذا تتشكل العلاقة بين الذات المتكلمة فى القصيدة والعالم من خلال الشرفات ليست أيضاً علاقات سوية، وذلك لأنها غالباً علاقات ذات اتجاه واحد، من الذات إلى العالم، على الرغم من انها قد تبدو عكس ذلك:
«نعم
أنا من هؤلاء الذين
لم تُبق لهم الحياةُ شرفةً على حالها
دائماً تتقوس بجسدها إلى الأمام
تخلع عظامها شيئا فشيئا من الجدران العالية
شاخصة بغضب إلى الأرض
لا يستطيع المرء أن يحتمل الحياة
كنافذة،
أن يظل عمراً فوق الجميع
ثم يشيخ شيئا فشيئا
حتى تلامس رأسه التراب هكذا
ليس سهلاً أن يخلع البناءون عظامك
قطعة قطعة أمام الناس
لتصير أرجوحةً للصغار»..
الديوان صفحة 13
لا بيت له ولا أصدقاء وأهله هجروه كلهم ولم يبق معه دائماً إلى النهاية «سوى الشرفات»، وقد كانت هى التعويض الكافى عن ذلك العالم الملعون الذى هو بدوره أيضاً يعانى اليتم والهجران والاحتياج إلى أم، إلى حنان، إلى دفء، كما أنه يفتقد أيضاً إلى وجود نافذة، يرى من خلالها سواه، يرى عالماً غيره، إنه عالم قد تحول إلى وحشٍ مزدوج: «يمنحُ الحبَ بيدٍ، ويأكلُ بالأخرى خبزَ العاشقين».
هكذا تتم الحركة الخاصة بالرؤية والمشاهدة، من الذات البعيدة إلى الذات القريبة، ثم إلى العالم الخارجى، إلى العالم الداخلى، إلى العالم الذى يتم الإطلال عليه، من خلال النوافذ والعيون والشرفات، لكن الشرفات مثلها مثل العيون والنوافذ لم تبق أيضاً على حالها، لقد شاخت وتكلَّست:
«نعم
أنا من هؤلاء الناس الذين
لم تبق لهم الحياة شُرفةً على حالها
دائماً تتقوس بجسدها إلى الأمام
تخلع عظامها شيئا فشيئا
من الجدران العالية
شاخصة بغضب إلى الأرض».
لقد تحولت الشرفات هنا إلى بشر، تطرأ عليها ما يطرأ على البشر من تحولات وتبدلات بفعلِ الزمن، ومثلما يتقوَّس جسد الإنسان وينحنى ويصبح مائلاً إلى الأمام، فكذلك كان حال الشرفات، شاخت وتقوَّست وأصبحت تنظر بغضبٍ إلى الأرض، ومثلما تخلعت عظام الذات وتقوَّست وضعفت ووهنت فكذلك كان حال الجدران، حال البيوت، حال الموطن:
«لا يستطيعُ المرء أن يحتمل الحياة كنافذة
يظل عُمراً فوق الجميع
ثم يشيخ
ـ شيئا فشيئا ـ
حتى تلامس رأسه التراب هكذا».
الديوان صفحة 13
لقد توحَّدت الشرفة على الجدران، لقد ظلت موجودة، محيطة بحياة مضاعفة، حياة موجودة هناك فى الخارج تطل عليها، وحياة موجودة هنا فى الداخل يطل منها كان لها عمر مُضاعف، لكنه أيضاً عمر ضعْف، شيئا فشيئا شاخ وهرم، ومثلما يقصر طول الإنسان بفعل وهن عظامه وضيق المسافات بينها فكذلك تشيخ النوافذ والشرفات، تضعف عظامها وتنخلع شيئا فشيئا من الجدران العالية، ومثلما تقترب رأس الإنسان من الأرض مع مرور الزمن فكذلك تقترب النوافذ والشرفات من الأرض، تصبح قريبة من عالم الموت، تصبح أراجيح للأطفال، تصبح ذكريات.
هكذا تكون للنوافذ والشرفات حياتها، بعضها يودع حياته «التليدة فى البناية» ثم يهوى على الأرض مرة واحدة، كأنها قررت فجأة أن تنتحر.
هنا يكون الزمن، مرور الزمن، وما يحدث خلال تحولات الزمن تغيرات أكبر.
إنها قصائد عن المكان الديستوبى الموحِش، المكان الذى لم يعد مكانة (ابن عربي)، المكان الذى لا يحقق الرغبات، المكان الذى أصبح خاوياً من البشر، المكان الذى له القدرة ـكما كان «فان جوخ» عن المقاهى الليلية ـ على تدمير الروح، وليست الروح هنا فقط التى يتم تدميرها بل والأماكن أيضاً، وبفعل الزمن فهى تشيخ، وتسقط وتلتحم بالتراب مثلها مثل البشر الذين يموتون ويتحوّلون إلى عظام ومراجيح للأطفال، إنها أماكن غير قادرة على إشباع لا الحاجات البيولوجية، ولا الحاجات النفسية والجمالية للبشر، لأنها أماكن قد حلت محل البشر، احتلت مكانه، وصار هو بدلاً من أن يطل عليها أو منها، صارت هى التى تطل عليه ومنه، من خلال ذاكرته ومن خلال وعيه وكذلك خياله.
ثمة عمليات رصد وصيد فى هذه المشاهد والصور والقصائد، ثمة حياة وموت وطرائد، هنا الذات المتكلمة تطل من خلال الشرفات والنوافذ، نوافذ الإدراك الحالية، أو نوافذ الذاكرة وشرفاتها الماضية، إنها تريد أن تقوم بالمشاهدة والرؤية دون أن يتمكَّن الآخرون من رؤيتها، وتشير هذه النزعة إلى التخفى، وكذلك الرؤية خلال الوقت، الوقت نفسه إلى رغبات مُهيمنة قوية فى الهجوم على ذلك الخراب الذى حدث ولحق بالأماكن كلها، فالشرفات صارت تهوى فجأة كأنها قررت أن «تنتحر»، وشرفات أخرى أصبحت أيضاً:
 «تلعن قصص الحب التى انمحت من جدرانها، تلعن الندوب الثقيلة التى تحفرها الأيدى على خشب النوافذ»، وأيضاً: «تلعن الدموع التى هطلت والشرايين التى تمزقت على سور قلبها».
هناك نوافذ أخرى تسقط كالثورات الزائفة، وتتكوَّم كالروث فى جانب الميدان، أما الذات المتكلمة فهى «من هؤلاء الذين لم تبق لهم الحياةُ شرفةً على حالها»، ومن ثم تجد نفسها بدلاً من أن تقوم بالمطاردة تجد نفسها طريدة مطاردة، وبدلاً من الهجوم تجد نفسها مرغمةً على الدفاع، كذلك تعتقد الذات المتكلمة فى هذه القصيدة أن الحب نافذة والحياة نافذة، وأنه بجوار هذه النوافذ والشرفات ينبغى لصاحبها «أن يعيش وأن يتألم».
ثمة تعاطف وتماه وتوحد ومشاركة خافتة بين هذه الذوات وبين النوافذ:
«تفهمنى النوافذ
حين أحل ضيفاً عليها
تعاملنى بأخوة وصبر
تعلمنى كيف أفتحها لتكشف البحر لي
وكيف أغلقها لأبكي».
النوافذ أممٌ تقوم وتهوى، كائنات تولد وتموت، النوافذ أماكن للفهم والضيافة والكرم والمحبة والأخوة والصبر والتعلم والكشف والإطلال والنظر إلى البحر، وهى أيضاً أماكن للبكاء والحزن والفجيعة عندما تُغلق أو توارَب، النوافذ والشرفات بوابات ورموز «يانوسيه» ـ نسبة إلى يانوس» ـ إله البوابات فى الحضارة الرومانية ـ ترتبط بالعالم الداخلى والعالم الخارجى، الظاهر والمخفى، البعيد والقريب، وهى أيضاً صديقة للذات خاصة عندما تكون مفتوحة وهو أيضاً صديق لها، خاصة عندما تكون تلك النوافذ موجودة فى أواخر المدن»، ومضاءة بمصباحٍ وحيد، وهو أيضاً «صديق الحب»، الذى يرتعش تحت الضلف، صديق النوافذ «وصاحب كل الشرفات
التى تغلق
كل يوم
بلا تلويحة للوداع».
هكذا أسقطت الذات المُتكلمة مشاعرها وأحلامها ورغباتها وذكرياتها كلها على النوافذ والشرفات، فشكلت تلك الأماكن عالمها الخاص، عالمها الخفى، هكذا أصبحت:
 «كل الملاءات الندية
المعلقة فى الشوارع أخواتي
وإخوتى الشبابيك».
لقد أرادت مجالاً واسعاً للرؤية، للمشهد الذى تطل عليه من موطنها، من مكانها، بينما كانت موجودة هناك فى مكان اختبائها وحيدة لا يصحبها أحد من البشر، لقد استطاعت أن ترى دون أن تُرى، استطاعت ان ترصد دون أن تُرصَد، ولكنها وفى حالاتها كلها كانت تفتقر إلى موطنها الخاص، وإلى مكانها الخاص المألوف.هكذا كانت النوافذ والشرفات والعيون هنا أماكن للمراقبة والرصد والرد والنظر والرؤية.
هكذا كان القصائد فى هذا الديوان إما قصائد يهيمن عليها المرصد (مكان المراقبة والرصد والنظر) الذى كانت تقف فيه الذات المتكلمة فى القصائد، أو يهيمن عليها فكرة الملاذ أو الملجأ (مكان الحماية والاختباء)، أو أنها كانت تشتمل على توازن خاص بين هذين البعدين، عندما تكون المشاهد فى القصائد مفتوحة ومضيئة ومشبعة، يكون إطلالُ الذات عليها هو المهيمن، حيث تكون الذات هى التى تسعى وراء المشاهد وتقتنصها ثم تبرزها من خلالها، فتكون الذات فى أمامية اللوحة وتكون تلك المشاهد فى خلفيتها، وحيث نجدها نوعاً من التأكيد الخاص على المسافات البعيدة والنظرة الإجمالية أو الكلية البانورامية.
أما عندما تهيمن فكرة الملجأ أو الملاذ فإن المشاهد تكون أكثر انغلاقاً وازدحاماً، وعتمة، وكآبة، وقرباً، وأقل انتظاماً وأكثر تشويهاً، وهذا هو النمط الغالب على قصائد هذا الديوان، فالأماكن فيها ضيقة، والشرفات تسقط منتحرة وتشيخ، والذات وحيدة والأيام تعبر خائفة.
ومع ذلك فإن هناك درجات من التوازن هنا أيضاً بين آليات الانفتاح على المشاهد (فكرة الإطلال أو المرصد) وآليات الانغلاق والكبت، بين آليات أن تطل الذات المتكلمة على المشاهد من خلال الشرفات والنوافذ والعيون، وبين أن تجد هذه الذات أن مثل هذه الأماكن: البيوت والشرفات والنوافذ.. إلخ هى التى تطل عليها، هى التى تفرض قانونها الخاص عليها، هى التى تُحيط بها مثل أن تحيط تلك الذات بها.
الرغبة فى الموت والبعث من جديد فى «ليتنى شجرة». وهناك قصيدة «علَّق ابتسامته على الشرفة ومات»، عن ذلك الرجل العجوز «مفتش الآثار» الذى مات بينما كان يجمع الغسيل:
«ساعة العصاري
فى بالكونة عرجاء
مرتدياً ملابسه الداخلية
ماداً يديه الطويلتين
فوق الحبل
ضاحكاً من كل قلبه
على هذا العالم
الذى جففته الأيامُ بين يديه».
الديوان صفحة 33
لقد التقطه الموت بينما كان يطل على الحياة من شُرفة يبتسم.
لا يتعلق ارتباط الزمان بالمكان أو ذلك الكرونوتوب بمصطلحات «باختين»، أو الزمكان، بمصطلحات «أينشتين»، بتلك العلاقات الموجودة بين المكان والزمن الماضى أو الحاضر فقط، بل بالعلاقة الموجودة بينه وبين المستقبل أيضاً، وكما فى قصيدة «حُفرة فى الجدار»، والتى تخاطب فيها الذات المتكلمة فى القصيدة نفسها، وتتحدث عن تصوراتها أو توقعاتها لما سيكون عليه مآلها فى المستقبل، فى التقاعد:
«وحتى حين تتقاعد
كرجل مزقه الزمن
بوجه عابس
وأبناء هاربين من غضبك
بين القارات
ويكون عليك أن تحيا
كل مساء فى شرفة مظلمة
وحيداً».
الديوان صفحة 59
هنا قصيدة منظور معكوس أيضاً (المستقبل البعيد أصبح قريباً)، هنا رجل يتوقع ما سيحدث له فى المستقبل، عندما يتقاعد ويصبح رجلاً مزقه الزمن، ويكون وجهه عبوساً قمطريراً، يغادره أبناؤه ويهربون بين القارات بسبب غضبه منهم وعليهم، فى ذلك الزمان القادم سيكون عليه أن يعيش وحيداً فى «شرفة مظلمة»، لا تؤنس وحدته سوى «الدموع والأشجار ونصف دستة من العصافير، تنام هادئة فى قلبك». عندها سيتحول العالم إلى محض شرفات جميلة ومغلقة على أحزانها»، عندها سوف يأتى العالم إليه، وستصبح الشرفة هى الملاذ والملجأ:
 «ساعتها قد يأتيك لهاث عاشقين
يدخلان الحديقة بكفين ملتصقين،
ويبدآن العناق الطويل،
ساعتها ـ صدقنى
لن تجد لديك القدرة على الصراخ
فى هذه الآهات الضعيفة والمتقطعة
التى تقول رأيها على الملأ
فى هذا الرجل العجوز
الذى ينام كل ليلة فى الشرفة حزيناً
بعد أن طردته الدولة من العمل
بحجة أنها تخلصت
ـ مؤخراً ـ
من الحاجة إلى الصحف».
 الديوان صفحة 60
فى قصيدة «لا شىء يدوم» التغيير يحل ويطرأ على كل شىء حتى وهو واقف مختبىء وراء شرفة بالية والوقوف فى حالة اختباء وراء شرفة بالية يدل على الميل الخاص لهذه الذات نحو التخفى نحو عالم الخفاء، والاختباء نحو السرى والغامض والملتبس وكذلك رغبتها فى أن تراقب العالم من وراء شرفة بالية لكن لا شىء يدوم، فحتى فى حالة التخفى هذه لا ينعم بالهدوء، ولا ينعم بالانفصال عن العالم وذلك لأنه لا شىء يدوم وذلك لأن:
«الأصوات تأتيك عارية من ملامحها
والحزن يهز ذيله للعابرين».
تأتى الأصوات إلى ذلك المختبىء فى مرصده وملاذه فى شكل همهمات غامضة وأصوات مبهمة دون تحديد، عوالم من الأصوات بلا الكلمات أو تحديدات، لكن الحزن يظل موجوداً معها، يظل مصاحباً لها، يظل مقيماً هنا وهناك يهز ذيله للعابرين: حيث «العالم مؤلم فعلاً من وراء النافذة»، حيث ترى الذات المتكلمة هنا:
 «العاهرة تهش حزنها وهى تمشي
والمنتحرون يسيل لحمُهم دون إرادة منهم».
ومن الخارج إلى الداخل/ من المطل أو المشهد القريب إلى الأنا إلى داخل الذات، تعود الذات إلى نفسها وتقول:
«أقف وحيداً فى الشرفة،
ربما،
لأن لدى ما أنظر إليه،
أنا مولود فى شرفة يتيمة،
وحين كبرتُ
صرتُ أفتح قلبى  بصعوبة ـ
كنافذة تكافح كى يغطيها التراب».
الديوان صفحة 68
هكذا تقف الذات المتكلمة هنا وحيدة وفى الشرفة تنظر إلى العالم بينما تكون فى واقع الأمر فى حالة نظر إلى نفسها، فتتحول من مشاهد خاصة بأصوات مموهة غامضة مبهمة وعاهرات حزانى ومنتحرين تسيل دماؤهم دون إرادة منهم، إلى شعورها الجارف بوحدتها فى شرفتها إلى ذاتها، إلى الملجأ والملاذ الخاص، إلى تذكرها أنها قد ولدت فى شرفة يتيمة، وأنه عندما مر عليها الزمن حين كبرت: «صارت تفتح قلبها بصعوبة، صارت تريد التواصل مع آخرين، لكن تواصلها ذاك لم يكن أبداً سهلاً، لقد أرادت أن تتواصل لكى تشعر بالحياة، كى تزيل التراب من على نافذة روحها، لقد كانت أشبه «بنافذة تكافح كى لا يُغطيها التراب»، تتذكَّر الشرفات التى تأنسنت، تحولت إلى بشر يمرضون ويشيخون ويتآكلون:
«عرفتُ شرفاتٍ
تآكلت حين مات أصحابها،
ونوافذ تعرت جدرانها
قبل أن تتعرى النساء فيها».
هكذا كان العالم عارياً بشيوخه الذين يئنون تحت شرفته من الألم أو المرض أو تصاريف الزمن، وكذلك كان حال العانسات المنتحبات، وأيضاً السباب الذى يتحول إلى كان يتوالد ويتكاثر فوق ضُلف الشبابيك وتتجمَّد هناك، ولا تجد من يعيد إرسالها إلى الأرض كى تولد من جديد، فهى الذات المتكلمة كانت تكتفى هنا بالمراقبة، كانت ترى دون أن تُرى، كانت تتواصل مع العالم من خلال تواصل العالم فقط معها، فهو يأتى إليها ولكنها لا تذهب إليه، ولكنها كانت وعلى الرغم من الوحدة تشعر بنوعٍ ما من الرضا الخفى والسري:
«طول إقامتى فى الشرفة
كان لا يعنى فى الحقيقة
سوى أنَّنى موجود
مُعلّق كالرضا على وجوه المهزومين
نعم
من شرفة قصيرة
يُمكنك أن تتعلم
كيف تشمّ العالم
دون أن تعْلقَ أوساخُهُ بملابسِك».
الديوان صفحة 69
إنها وكما قلنا قوام حالات الاتصال والانفصال خلال الوقت نفسه فهو متواصل مع العالم على الرغم من انفصاله عنه، والتواصل يتم خلال مجىء هذا العالم إليه، بينما يقف هو هناك وحيداً فى شرفته، يرى العالم مهزوماً وجديراً باللعن والسباب، وهو يفعل ذلك فى سره، ودون أن تأتى إليه ردود ذلك العالم على شتائمه، إنه الكائن المعزول فى شرفته وقت وحدته، يتذكر أيضاً كيف سافر أبوه إلى بلد بعيد وعاد ببيتٍ وخمس شرفات مغلقة ومتربة، لكنها رغم ذلك تدرب الغبار على محبة الطيران.
من الشرفات عرف أيضاً الفروق بين الصدق والكذب، بين عَرق الصادقين وعَرق الكاذبين، وعلمته أيضاً أن «الجروح طويلة بما يكفى، وأن اللوعة قادمة من مكان بعيد»، لكنها علمته أيضاً أنه لا الصدق يبقى ولا الكذب يدوم، وأن الجروح سوف تستمر طويلاً واللوعة سوف تأتى من مكان بعيد، كما علمته أن لا شىء يدوم.
يقول بانوفسكى «مؤرخ الفنون المعروف»، أنه عندما تتحدث عن وجهة نظر منظورية كلية حول المكان والزمان والإنسان كالمنازل والأثاث والأشجار والبحار والبشر أو غيرها، موضوعات يتم تمثيلها بشكل مختصر أو موحى، من خلال هذه اللوحة أو تلك النافذة، أو القصيدة، بل نعنى القول إن الصورة الكلية قد تم تحويلها إلى نافذة أو شُرفة، وإننا نعتقد أننا ننظر من خلال هذه النافذة إلى حيز مكانى مُعين، وهكذا فإن السطح المادى الذى يتم رسم الموضوعات والشخصيات الفردية عليه يتم إهماله مؤقتاً، ويعاد تفسيره على أنه سطح خاص بالصور، سطح يتم إسقاط المتصل المكانى عليه بوصفه يحتوى على كل الموضوعات والأشياء بداخله بذلك تكون اللوحات والنوافذ والشرفات والقصائد أشبه بواقع افتراضى، واقع بديل مكان للاطلاع على وكذلك النظر إلى والإدراك والفهم والتخييل، وقد تكون النوافذ خارجية وداخلية خلال الوقت نفسه، فهى لها وجه «يا نوس» ـ إله البوابات فى الميثولوجيا الرومانية، الذى ينظر بوجه إلى الداخل ووجه إلى الخارج، والوجهان هما وجه واحد، لكن اتجاه النظر يختلف فيجمع فى حركة مزدوجة ملتبسة بين الداخل والخارج، الظاهر والباطن الماضى والحاضر والمستقبل.
النافذة وكذلك الشرفة والعين أدوات من أدوات التفكير البصرى، وأهم آلية من آليات القدرة على فهم العالم من خلال لغة الشكل والصورة.
ميثولوجياً، ترتبط النوافذ والشرفات بالعين، والعين رمز الإحاطة الكلية وأداة الحدس الباطنية والضوء والإشراق والخيال والمعرفة واليقظة والمراقبة والتحذير مثل «عين حورس» المقدس، القمر عين الليل والشمس عين النهار وقد ظهرت العيون والشرفات والنوافذ فى أعمال ماجريت الغرائبية وعيون بيكاسو المحرفة، وأعمال هوبر الدالة على عزلة سكان المدن الحديثة، الوحشة التى تغطى تلك المدن أيضاً، والنوافذ هى «نوافذ الروح»، كما أطلق عليها جمال الغيطانى فى روايته «نوافذ النوافذ»، وهو بصدد الحديث عن المصور الأمريكى (ادوار هوبر 1882 ـ 1967).
النوافذ والشرفات إطلالات على الوجود على العالم المحيط بنا، وعلى أرواحنا أيضاً فى علاقتها بذلك العالم، وهى العلاقة بين المرئى واللامرئى وبين التجلى والخفاء.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة