د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

الصالحون الذين لا نعرفهم

الأخبار

الخميس، 21 يناير 2021 - 09:56 م

بقلم/ د. مبروك عطية

نحن لا نعرف كيف نكون رحماء، ولا كيف نكون قساة تلك القسوة التى ينبغى أن تكون جرس إنذار

الصالحون الذين  نعرفهم

السبت: 

نحن نعرف الصالحين الذين يقيمون الصلاة، ويتصدقون، ويصومون الشهر والنوافل، ويمسكون السواك والمصاحف، ويعتكفون، ومن النساء الأخوات المواظبات على العبادة، والمنصرفات عن الدنيا، وزينتها، واللواتى لا يطمعن فى مصروف زائد من أزواجهن أو آبائهن، فالقناعة عندهن كنز كبير، وكم أطلق الناس على الذين هم بأخبار العالم جاهلون، وبأسعار الأسواق غافلون، كم أطلقوا عليهم كلمة )صالحون( فإن سئل أحد هؤلاء سؤالا، وضحك ساكتا أو قال: لا علم لى− ترى تعقيب من يسمع على ذلك: هذا رجل صالح، بتاع ربنا، ما لوش ف الكلام ده، فالصالحون الذين نعرفهم هم أهل الله، وكأننا قسمنا الناس قسمين: أهل الدنيا، أى العفاريت الذين ينجحون فى كل عمل دنيوى، ويعرفون من أين تؤكل الكتف، ومن أين تؤكل الكوارع، وأهل الله الذين طلقوا الدنيا، وآثروا العزوبة، وجهلوا كل ما يتعلق بالدنيا التى فيها معاشهم، ومعاشهم لابد أن يكون ضيقا، وحالهم يجب ألا يسر ناظرا إليه؛ لأن لهم الآخرة؛ فهم الصالحون، ومن يتتبع هذا الفساد الفكرى سوف يجد له جذورا أيام رسول الله ، لكنه  استأصل تلك الجذور من أساسها، وذلك ساعة وصله الخبر بأن جماعة من أصحابه منهم عثمان بن مظعون، قرروا أن يتركوا الدنيا وما فيها، وأن يعيشوا فى الصحراء، ويعتزلوا النساء، ويصوموا كل يوم، ويعبدوا الله لا غير، وقام عليه الصلاة والسلام بنفسه، ومشى على قدمه، حتى وصل إلى دار عثمان بن مظعون، وناداه أن اخرج إلى، فقالت زوجته: إنه غير موجود بالبيت، فترك معها  رسالة إليه، عليها أن تبلغه إياها، لقد جاءك النبى إلى هنا، فلم يجدك، فحين تعود إلى دارك لا تجلس حتى تذهب إلى النبى ، وقد كان، رجع عثمان، وعلم بالخبر، فلم يقعد لحظة، وهرع إلى النبى ، وقال: لبيك يا رسول الله؛ فكان أول ما قاله له :

أتؤمن بما نؤمن يا عثمان؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: بلغنى أنك ومن معك قد عزمتم على فعل كذا وكذا، اسمع يا عثمان: أنا أصلى وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وتلك سنتى، ومن رغب عن سنتى فليس منى، ومن يتأمل هذا الحدث يقف على أهمية نتيجته، وأن التدين ليس معناه الإفراط، ولا التفريط، وكما قال عليه الصلاة والسلام: صلاة وراحة، وصيام وإفطار، وزواج، ومودة ورحمة فى ظل سكنه، ويلاحظ كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اهتم بتلك الحادثة إلى درجة ما رأيناه من مشيه على قدمه بنفسه، وأنه صلى الله عليه وسلم قد بدأ حواره مع عثمان بن مظعون رضى الله عنه بقوله الذى رواه البخارى: أتؤمن بما نؤمن؟ حمله على الإقرار، أى إن كنت تؤمن بما نؤمن فاسمع، وأطع، ولا تحمل نفسك فوق طاقتها، ولا تعتزل الحياة برمتها زاعما بذلك أنك ستكون من المقربين عند الله، تتفوق على غيرك الذى يصلى وينام، ويصوم ويفطر، ويعتزل النساء، وإننى أرى بعض الشباب يقول بعضهم لبعض: لقد لعبنا كثيرا، ويجب أن نفرغ أنفسنا لله، ويقول بعض الشيوخ لبعض: لقد ضيعنا أعمارنا فى الدنيا، وجمعنا، وربينا أبناءنا، وفعلنا كذا وكذا، ويجب أن نتفرغ لآخرتنا، كأنهم يرون أن العمل من أجل بناء بيت، وتربية ولد، وتحقيق غاية تتحسن بها الدنيا عمل ليس لله، ولم يأمر به الله، وهذا فساد فكرى عنيف، فكل ما ذكروه من منهج هذا الدين. ولاشك أن من أنفق على عياله وأقاربه أو غيرهم وسعى فى كسب الحلال لهم بنية صادقة لاشك أنه مأجور من الله تعالى؛ لما فى الصحيحين وغيرهما أن النبى  قال لسعد: وإنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها فى فىّ امرأتك. وقال : ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه. رواه البخارى وغيره.

وهذا فى معنى ما اشتهر من الحديث الذى فى سنده كلام: إن من الذنوب ما لا تكفره الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة ولا الحج ولا العمرة، ولكن يكفرها الهم بالأولاد، أو السعى على الرزق، فليس معنى كونك تريد أن تكون من الصالحين أن تعتزل تلك الحياة الدنيا، وألا تملأ دلوا لك من آبارها، وإنما تنقطع للعبادة، وتحرم نفسك طيبات تلك الدنيا، وحتى لو حرمت نفسك طيباتها فأنت فى حاجة إلى لقمة تسد بها جوعتك، وهدمة توارى بها سوأتك فإن أخذتهما من سعى غيرك كان غيرك أقرب إلى الله منك، وإن عملت العمل الذى يحققهما لك، واكتفيت كنت غافلا عن قول ربك فى سورة المؤمنون، حيث قال : والذين هم للزكاة فاعلون، أى يعملون من أجل أن يبلغ مالهم نصاب الزكاة، فيؤتونها، ويشعرون بالسعادة إذ أقاموا بعرقهم ركنا من أركان هذا الدين، وربنا تعالى يقول: "قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" وهذه الآية من سورة الأعراف تبين لنا فى خاتمتها أن الدين علم، والعلم قواعد وأصول، فمن علم دينه، وعمل بمقتضى ما علم فقد اهتدى، ومن جهل أو حفظ ولم يعمل بمقتضى ما حفظ فقد ضل.

الصالحون الذين لا نعرفهم

الأحد:

 ويحدثنا القرآن الكريم عن الصالحين الذين لا نعرفهم فى سورة القصص، وهم الذين لا يشقون على الناس، هذه صفة من الصفات غير المعروفة للمؤمنين، يقول ربنا تعالى: "وما أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء الله من الصالحين" أى سوف ترى وتثبت لك الأيام أنى من الصالحين، حيث لم أشق عليك، فمن ترفق بالناس، فخيرهم بين أمرين ليختاروا الأيسر المناسب لهم، ولم يحملهم مالا يطيقون، وإن حملهم أعانهم، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم، ومن أنظر معسرا، أو عفا عنه، ومن خير بين أمرين فمن اختار الأيسر رحمة بالناس − كان من الصالحين، ومن ضيق على الناس، وشق عليهم، وأجبرهم على شىء ولم يخيرهم، ومن حملهم ما لا يطيقون، ولم يعينهم عليه ـ لم يكن من الصالحين وإن رأيت هيأته مما يقال فيها: إسلامية، أو وجدته على الحال الذى ذكرتها فى الصالحين الذين نعرفهم للانقطاع عن الدنيا وما فيها والتفرغ للآخرة كما يزعمون؛ فليس فى الآية الواردة فى صورة القصص من غموض، وليس فيها من تأويل، وإنما هى واضحة وضوح الشمس فى ضحاها تقول لكل من يعد القرآن الكريم منهجا له: إذا أردت أن تكون من الصالحين فلا تشق على أحد، وقد روى مسلم فى صحيحه من حديث أنس قول النبى : "إن الله يعذب من يعذب الناس" وبنظرة يسيرة فى هذا النص نجد أن الذى يعذب الناس ليس من الصالحين؛ لأنه موعود بعذاب الله، والله لا يعذب الصالحين وقد حفظنا عن النبى  هذه العبارة: كان عليه الصلاة والسلام لينا حسن العشرة وقد روى فى ذلك حديث أنس رضى الله عنه أنه قال: خدمت رسول الله  عشر سنين، فما قال لى لشىء فعلته: لماذا فعلته؟ وما قال لى لشىء تركته: لماذا تركته؟، وأنا أقرأ الواقع فى ضوء هذا الحديث فأكاد ألفظ أنفاسى من هول المفارقة بيننا وبين النبى الذى ندعى حبه؛ فلا أكاد أرى أحدا يترك أحدا على فعل شىء أو تركه، بل الجميع من أب وأم وولد وزوج وزوجة كل يقول لماذا فعلت كذا بطريقة موحشة، واتهام سابق عن السؤال وقد بات معروفا عند الناس قولهم هو أنا قدام النيابة ولا إيه، والحياة أسهل من هذا بكثير، ولن نرى لها من سهولة، ولن نلمس فيها من جمال ونحن مسؤلون عن أتفه ما نفعل وأتفه ما نترك والذى يجلب الغم ويستدعى الهم ويكاد يطبق على الروح ويكتم النفس أننا نحفظ هذا الحديث ولكنه لا وجود لنا فى حياتنا، وما أشبه حالنا فى مثل هذا بحال الذى يصرخ من العطش والماء فى يده فانت إذا رأيته زادك وجعا لا لحاله الذى تراه فى صراخه وإنما لغياب عقله حيث يشكو شيئا علاجه فى يده، وليس بعيدا عنه ولن تجد وصفا يسعفك إن أردت أن تصفه غير كلمة: "مجنون"

معالم الصلاح

الاثنين:

ومن معالم الصلاح على طريقنا أى الصلاح الذى لا نعرفه أنا وجدنا رسول الله  كما روى البخارى يسأل أهله عما عندهن من الطعام فيجاب بقولهن: ليس عندنا إلا الخل، فيكون رده  نعم الإدام الخل، أى يمدح الموجود ويأكله فهات لى رجلا واحدا بهذه الصفة؛ لأنى فشلت فى الحصول عليه وكل من وجدت إما عاتب أو لائم، أو معنف، أو لاعن للعيشة واللى عايشنها أو قاطع للخل ومثله وسنينه أو عض على أنيابه من الغيظ والورع الذى عرفته يوما كان يترك البيت ويذهب ليبحث عن لقمة يشتهيها فى أى مكان لكنى لم أجد من يقول كما كان  يقول ومن تلك المعالم أنى وجدت ابن أخ لأبى ذر الغفارى يرى عمه وخادمه مقبلين عليه وليس بينهما أدنى فرق فى الملبس لا من حيث نوع القماش ولا اللون ولا عدد الملبوس حتى ضحك هذا الشاب وسأل عمه الصحابى الكبير:

 ما هذا يا عمى، أى فرق بينك وبين خادمك؛ فقال له عمه: سمعت رسول الله  يقول "ألبسوهم مما تلبسون" وجميع الفقهاء على أن المراد أن يلبس المخدوم خادمه ويكسوه، ولكن ليس شرطا أن يكون من الصنف نفسه الذى يلبسه المخدوم فعلى سبيل المثال لا بأس أن تلبس ثوبا بعشرة آلاف جنيه على أن تلبس خادمك ثوبا بمائتين لكن أبا ذر لبس الذى بعشرة آلاف وألبس مثله خادمه، أى أنه حمل كلام النبى صلى الله عليه وسلم على ظاهره، ومعنى هذا فيما أرى أن الحياة سهلة إذا وفق الله الأحياء إلى تحقيق سهولتها بلا تعنت، ولا مشقة ولا تعمد بالإضرار بالآخرين الذين رأينا وظيفتنا فى الحياة كأنها ما وجدت إلا بالإضرار بها مثل الأب الغبى الذى يرى أن ابنه الذى رزقه الله إياه كى يضربه، ويأمره ويعنفه، ومعظم كلامه معه: أنا أبوك ولازم تسمع كلامى مع أنه لا كلام عنده يسمع فلا حكمة ولا عقل ولا خبرة ولا علم، وكذلك تفعله الأم الغبية مع ابنتها، داء نقص أبشع من السرطان لو أردنا أن نتوقف ونرى أثر ذلك، والله تعالى ذكر أن مهمة الوالدين التربية فقال تعالى فى آية الإسراء "وقل ربى ارحمهما كما ربيانى صغيرا" والتربية فن وصناعة ويستطيع أن يتعلمها الجاهل من خلال ما يرى من تربية المرأة للدجاج كيف تقدم لدجاجها الطعام والماء وكيف تناجيه وتغنى له وتعالجه وتحول دون أن يؤذى كبيرة ولا صغيرة وكيف تدخله عشه قائلة بيتك بيتك بيتك فالتربية عطاء لا حرمان وحرص لا تضييع ومعالجة لا إهمال ومؤانسة لا توحش وقد تتأتى فيها بعض القسوة لمصلحة المربى لكننا أغبياء فيها كما أننا أغبياء فى نقيضها أى فى الرحمة فالراحمون منا بأبنائهم مضيعون لهم، والقساة فينا على أبنائم قاتلون لهم؛ فنحن لا نعرف كيف نكون رحماء، ولا كيف نكون قساة تلك القسوة التى ينبغى أن تكون جرس إنذار أى جرسا لا يسبب للأذن صمما ولا للذهن اضطرابا بل هو بمثابة الجملة الاعتراضية أى جملة شديدة بين جملتين رقيقتين.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة